من بين أحياء القاهرة العتيقة يظل حى الأزبكية شاهدًا على تحولات المدينة عبر القرون. لم يكن مجرد حى عادى، بل مسرحًا لأحداث تاريخية، ومركزًا ثقافيًا واجتماعيًا، وحديقةً كانت يومًا تُعدّ جنة القاهرة. تعود شهرة الأزبكية إلى العصر المملوكى حين أنشأ الأمير الأتابك سيف الدين أزبك اليوسفى فى القرن الخامس عشر متنزهًا حول بركة واسعة تحولت مع الزمن إلى متنفس طبيعى، اشتقت اسمها من اسمه فكانت الأزبكية.
الأوبرا الخديوية
لكن ذروة مجدها كانت مع عهد محمد على باشا وخلفائه، خاصةً الخديو إسماعيل الذى جعل من الأزبكية نموذجًا للتحديث على الطراز الأوروبى ، وانطلق يبنى ويعمر فى كل اتجاه، حديقة حولها إلى تحفة معمارية وزراعية، بها نباتات نادرة وجداول مياه، وكان الدخول إليها ببطاقة أو تذكرة مثل حدائق أوروبا، وعهد بتنظيمها إلى المهندس الفرنسى «بارليت دى شامب» الذى أنشأ غابة بولونيا غربى باريس وعلى أطرافها نشأت معالم خلدها التاريخ. وهناك ظهر المسرح الكوميدى الذى شهد بدايات الفن المسرحى المصرى مع يعقوب صنوع، ثم دار الأوبرا الخديوية التى افتتحت عام 1869 بعرض عايدة، إضافة إلى مقاهٍ ذائعة الشهرة مثل «متاتيا» الذى صار ملتقى المثقفين وزعماء الفكر أمثال جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده. الأزبكية كانت إذن مركز إشعاع فكرى وفنى، أو ربما كان كل سكان القاهرة آنذاك من الطبقة المثقفة المتذوقة للفنون بأنواعها والمستعدة لاستقبال كل هذا الزخم من الجمال والرقي. مع مرور الزمن تغيّر المشهد، الحديقة تقلّصت كثيرًا بعدما اقتُطِع جزء كبير من مساحتها لمشروعات عمرانية وشوارع، لكن بقيت «حديقة الأزبكية» قائمة وإن كانت أصغر حجمًا. ثم أصبح أشهر ما يميزها سور الأزبكية للكتب المستعملة، ذلك العالم المدهش الذى ذاع صيته فى مصر والدول العربية لما يضم من آلاف الكتب والمجلات والدوريات النادرة، والذى أصبح ملاذًا للباحثين وعشاق القراءة.
حديقة الازبكية عام 1864 تم ردم البركة التى كانت تتوسط الميدان وإنشاء حديقة على يد المهندس الفرنسى باريل بك
وعلى الرغم من فقدان الأزبكية بعضًا من بريقها التاريخى، إلا أنها ما زالت تعكس روح القاهرة المتناقضة: بين الماضى الأوروبى الطابع والحاضر الشعبى الصاخب، وعلى الرغم من تدهور حالتها خلال العقود الماضية ويد الإهمال التى طالتها إلا أن أعمال إعادة الإحياء حاليًا قد ردت إليها الروح مرة أخرى، حيث يجرى الآن مشروع ضخم لإعادة إحياء حديقة الأزبكية التراثية واستعادة رونقها كما كانت منذ أكثر من قرن. ومن بين ما يشمله التطوير ترميم البحيرة الأثرية بتجهيزات حديثة، واستعادة النافورة التراثية، وتجديد المبانى المحيطة وتطوير البنية التحتية. أما النباتات فقد تم الاهتمام بالأشجار المعمرة والنادرة داخل الحديقة، بالإضافة إلى تركيب برجولات تحاكى الطراز القديم الأصلى، والأسوار المحيطة بالحديقة مع بوابات تعكس الطابع التاريخى المعمارى وهذه الأعمال هى جزء من مشروع القاهرة الخديوية لتطوير المناطق التاريخية، والذى دخل حيز التنفيذ للمرحلة الثالثة.
فندق شبرد بشارع إبراهيم باشا «الجمهورية حاليا»
أما سور الأزبكية للكتب المستعملة والنادرة فما زال يحتفظ بدوره الثقافى كمكان مميز للباحثين والمحبّين للقراءة: الكتب القديمة، المستعملة، النادرة، المجلات، والدوريات كما تكون الأسعار فيه غالبًا فى متناول الفئات المختلفة، مما يجعله سوقًا شعبيًا مهمًا، ويُستخدم لتغطية الاحتياجات الدراسية أيضًا. ولكل ما سبق ولأهميته فقد دخل ضمن خطط التطوير، حيث يجرى العمل على دمج سور الكتب ضمن تحسين المنطقة المحيطة بحديقة الأزبكية، من حيث التنظيم، والتخطيط العمرانى، وإزالة العشوائيات، وتهيئة الممرات، والواجهات. وكان من أجمل ما فى تلك الخطة الطموحة هو تأهيل عمارة «التيرنج» بمنطقة العتبة. وعمارة التيرنج هى معلم تراثى مهم بوسط القاهرة، تحديدًا فى ميدان العتبة الخضراء، وتميزت بتصميم أنها مبنى متعدد الطوابق يغلب عليه الطابع التجارى، وفوقه مجسم كرة أرضية محمولة على أربعة تماثيل.
وأهم ما تم بها من أعمال إعادة تأهيل هو استكمال الزخارف والحليات والرخام، ترميم القبة، إصلاح الكرانيش واستعادة الكرة الحديدية والتماثيل، ويظل التحدى الأصعب هو تنسيق المحيط المعمارى للتيرنج بحيث ينسجم مع الشكل الحضارى للعتبة. يبدو أننا سنستعيد الجمال بشكل أكبر فى شوارعنا قريبًا، ولكن هل نحن مستعدون لاحترامه والحفاظ عليه للأجيال القادمة؟ أتمنى أن يعى كل مصرى مسئولية هذه الأعمال ويحافظ عليها حتى ننقلها لأبنائنا. والحفاظ لا يكون فقط برعاية الأماكن المعاد تأهيلها، ولكن أيضًا بمعرفة أصول هذه الأماكن التاريخية ونقل تراثها للعالم أجمع.