أخيرًا استجاب الأستاذ الكبير والصديق العزيز «مودى حكيم» لرغبة أصدقائه ومحبيه وتلاميذه وأصدر كتابه «أوراق الغربة: أيام فى لبنان»، والكتاب مفاجأة صحفية وأدبية وفكرية بكل ما حكاه ورواه الأستاذ «مودى حكيم» بشجاعة وصدق وشفافية. وما أصعب وأجمل الكتابة عن هذا الكتاب، وقد عرفت الأستاذ «مودى حكيم» من قراءتى لما كان يكتبه فى صباح الخير، وهو واحد من أشطر وأمهر من تولوا عملية الإخراج الصحفى كمدير ومشرف فنى، وعندما عاد إلى مصر اقتربت منه وتشرفت بالعمل معه فى أول مجلة تهتم بالفضائيات العربية وهى «ستالايت جايد» التى رأس تحريرها لعدة سنوات. «مودى حكيم» كنز من الحكايات والذكريات والدروس، فهو أحد نجوم مدرسة «روزاليوسف» و«صباح الخير» وعرف عن قرب نجوم هذه المدرسة وله معهم حكايات وذكريات، كان يفضفض بها أحيانا فى أوقات الفراغ من العمل فى المجلة، وعندما ينضم الأستاذ لويس جريس الكاتب الكبير الذى كان صاحب فكرة إصدار «ستالايت»، تتحول الجلسة إلى فضفضة وحكى لا ينتهى، وكنت أشاركهما متعة الاستماع والتعليق أحيانا. وما أكثر المرات التى كنت أقترح عليه تسجيل ذكرياته- كان ذلك عن اقتناع ورغبة فيما يملكه الأستاذ مودى من حكايات وذكريات. بعد تجربة طويلة وعريضة وغنية فى عالم الصحافة والطباعة، سواء فى مصر أو العالم العربى، ومساهماته فى تأسيس عدد كبير من الصحف اللبنانية، وأيضا إصداره لمجلة «24 ساعة»، وهو المشرف والمصمم الفنى سواء لصباح الخير أو لغيرها. ومهما طال الكلام عنه فهو قليل وأعود للكتاب المفاجأة الذى أصدره. «الصدفة وحدها كانت وراء سنوات الغربة التى طالت لسبع سنوات حينما جاء إلى مصر فى زيارة عمل الأستاذ «إسلام شلبى» الناشر الشهير وطلب من صديقه الأستاذ مفيد فوزى، أن يلتقى بمودى الذى ظن أن الرجل يريد تكليفه برسم أغلفة للكتب التى ينشرها أو حتى تصميمها، لكنه فوجئ بأن إسلام يعرض عليه تولى الإدارة الفنية للهيئة العامة للكتاب فرع بيروت المزمع إنشاؤها للحد من قرصنة الكتب فى بيروت وأيضا إنشاء مطبعة مصرية فى لبنان». يقول الأستاذ «مودى»: «لم يدر فى خلدى لحظة واحدة وأنا أدخل مكاتب مجلة «صباح الخير» حاملاً إليها كل ما تعلمته من كلية الفنون الجميلة أنه سيأتى اليوم الذى أتركها خلفى وأعطى وجهى لبلاد أسمع عنها ولا أعرفها لتطوينى الغربة بعيدا عنها وعن مصر سنوات خليطا من معاناة البعاد وفرح النجاح ونشوته. كنت مرتاحًا للعمل فى «روزاليوسف» وأنال التقدير والثناء والرزق كان يأتينى من غير دار نشر لرسم أغلفة وتصميمها، فى وقفة مع الذات أيقنت أننى قد وصلت كمخرج ومصمم فنى صحفى إلى قمة السلم سواء فى «روزاليوسف» أو فى دور النشر ولم يبق مكان للاستزادة، وقدمت إلى إدارة «روزاليوسف» طلب إجازة مفتوحة بلا راتب وأن أمدها بالأخبار السياسية والثقافية والفنية إلى جانب الأحاديث الصحفية والتحقيقات المصورة، وتلبية احتياجات مطابع الدار من المواد الخام والأحبار وقطع الغيار التى كانت متوافرة فى بيروت، بينما صعب الحصول عليها فى مصر بسبب أزمتى الاستيراد والعملة الصعبة». أكثر من نصف قرن انقضت على أيام الغربة وحين قرر الأستاذ مودى استعادة تلك الأيام بكل حلوها ومرها كتب: «أصعب الكتابات تلك التى تتناول زمنًا مضى بناسه، فتستدعيه من كعب الذاكرة لتمر أمامك وجوه كنت تأنس لها وتحبها، وأخرى مرت عجلى، ولكنها أثرت فيك، ثم للحظات يأخذك الحزن بعيدًا وتشعر بمرارات غياب تلك الوجوه عنك وتعود ترسم بالأحرف والحبر على مساحة الورق البيضاء أمامك، ذكريات ما كان وجرى ومضى من أيام وشهور وسنوات بحلوها ومرها، بحزنها وفرحها، بإخفاقاتها ونجاحاتها». وبدأت رحلة الأستاذ «مودى» مع نشر الكتب من خلال فرع الهيئة العامة للكتاب ببيروت، وتكثر الاجتماعات مع «إسلام شلبى» رئيس الفرع الذى اختار «عباس العقاد» و«توفيق الحكيم» فى البداية لانطلاق شريان التنوير الجديد فى بيروت وإعادة طبع موسوعة «وصف مصر». ويتذكر «مودى» قائلاً: بعد التفاهم مع «إسلام» وضع تصميمات مميزة لدعم وعرض جواهر مؤلفات «الحكيم» و«العقاد» الثرية بالفكر.. بدأت بكتابين لتوفيق الحكيم كتاب «مصر بين عهدين» ورواية «عودة الروح»، ومن كتب «العقاد» كتاب «الله» وكتاب «أثر العرب فى الحضارة الأوروبية». كان إسلام شلبى حريصًا على الالتزام بحقوق المؤلف، وكلفنى بالسفر للقاهرة لتوقيع عقد النشر مع «توفيق الحكيم» لحفظ حقوقه الأدبية وتسليمه حقوقه المادية عن الكتابين». فى الطابق السادس من مبنى الأهرام التقيت «توفيق الحكيم» فى مكتبه وكان يشاركه فيه الصديق الفنان التشكيلى «صلاح طاهر»، سلمته عقد النشر ومعه صك مصرفى - شيك- بقيمته. رفض الحكيم توقيع العقد قبل صرف قيمة الصك نقدًا، فكلف أحد موظفى الأهرام بالذهاب للبنك لصرف الصك، بقيت ساعتين بمكتبه من دون أن يتفضل بدعوتى على «فنجان قهوة» أو حتى على كوب من الماء وأنا آتٍ خصيصًا من بيروت. وقدّر الله وعاد العامل ومعه المبلغ نقدا وعدا.. فرك «الحكيم» بأصابعه الأوراق النقدية مرات عدة قبل أن يضعها فى محفظته الجلدية البالية من القدم، ثم تناول القلم ومرره على مهل على ورقة العقد. اتصف «توفيق الحكيم» بحرصه الشديد على المال، على الرغم من أن الدكتور طه حسين أنكر هذا الاتهام بالبخل وقال فى أحد مقالاته إن «توفيق الحكيم» يدعى أنه بخيل ويصور نفسه للناس بصورة ليس بينها وبين الحق من أمره صلة!
وقف منى إسلام شلبى على ما اخترت وأنجزت، حتى هتف: «العقاد.. هو العقاد» بعد توفيق الحكيم.. لا بد من نشر نتاج «عباس محمود العقاد». وفى السنوات العشر الأخيرة من حياة العقاد كان ابن أخيه «عامر العقاد» هو سكرتيره الشخصى ومراجع مقالاته، ونصب نفسه مسئولا ومدافعا عن حقوق ملكية عمه الفكرية، يحضر إلى بيروت مرة كل شهرين فيصرف أسبوعا أو أسبوعين فى التدقيق والجمع والطرح والقسمة وعد الليرات والقروش فلا تفوته فائتة ولا مر رقم إلا وأشبعه بحثًا ومراجعة وتدقيقًا وهو يحصل ما جنته كتب عمه! التقاه إسلام شلبى أكثر من مرة وطلب منه حقوق نشر «العبقريات» التى تتناول فيها حياة عدد من الشخصيات الدينية ومنها «عبقرية محمد وعبقرية المسيح وعبقرية عمر وعبقرية الإمام»، لكنه فى كل مرة كان يلقى منه الصدود وإن أغرقه وعودًا ثم تفلتًا ومراوغة من تلك الوعود! ويروى الأستاذ مودى كيف تغلب على هذه المعضلة بالاستعانة بعم «حمزة» طباخ العقاد وطلب أن يجتمع بعامر العقاد متى جاء إلى بيروت! وعاد عامر إلى بيروت وكان اللقاء فى مكتب إسلام شلبى، تعارفنا وتحادثنا عن ذكريات شهدتها جدران المنزل والحضور مع من يختارهم «العقاد» للزيارة فى الغرفة الأولى التى تقع على يمين المدخل والتى تضم تمثالا للزعيم الوطنى «سعد زغلول» وتمثالا للعقاد من إبداع الفنان محمود مختار والاستمتاع بمشروب «عم حمزة» طباخ العقاد من الليمون أو القهوة. انتشى «سى عامر» بذكر العم حمزة ومشروبه الموصوف كما كان يصفه العقاد نفسه وانحلت عقدة لسانه، اجتهدت فى الحديث والمزج فى الحكى المؤدى لكسر الجليد وإزالة التوتر وجذب الانتباه، الذى قاده هذا الإطار للاهتمام بخطة مكتب بيروت لهيئة الكتاب بنشر عبقريات العقاد. ووافق فكان الاتفاق الذي حقق أمنيات وأحلام «إسلام شلبى». وللحكاية بقية!