وضعت حالة التغير السياسية فى سوريادمشق فى بؤرة استهداف المشاريع المعولمة الساعية للسيطرة على الجغرافيا العربية، باستغلال عمقها الاستراتيجى وجغرافيتها الحاكمة فى معادلة توازنات القوى الإقليمية والدولية، فمن ممر داوود الخادم لمشاريع الهيمنة والاحتلال الإسرائيلية، إلى الشرق الأوسط الجديدة المعضد لنفوذ الولاياتالمتحدةالأمريكية ونهاية بأنبوب الغاز القطرى - الأوروبى لتقف سوريا فى مفترق الطرق الثلاث محاولة إيجاد مخرج لوضعها المعقد ولمستقبلها المحفوف بالمخاطر والعقبات. هذا التداعى المتشابك ينسجم مع رغبة «إجبارية» للإدارة الجديدة الحاكمة فى دمشق للاندماج فى المجتمع العربى والإقليمى والدولى والتماهى قسريًا مع تلك المشروعات، فى محاولة ل«غسل» سمعتها السابقة كفصيل متطرف وهو ما يعطى قوى السيطرة على المشروعات الثلاثة «فرصة» للتعامل معها ك«غنيمة» متجاهلاً كفاحًا ونضالًا خاضه الشعب السورى على مدار13عامًا من الحرب الأهلية فى سوريا أدى إلى مئات الآلاف من الشهداء وملايين الضحايا والمهجرين. وسوف نقدم فى هذه الحلقات الثلاث قراءة للمشروعات الثلاثة، وتأثيرها على المشهد السورى الجديد، فى محاولة للفهم وكيفية التعامل المستقبلى مع سوريا الجديدة، وما قد تحمله من تطورات دراماتيكية سيكون لها انعكاساتها السياسية والاقتصادية على مستقبلها، كما ستركز على طريقة تعاطى الإدارة الجديدة معها، وهل ستكون وفق مرتكزات الدولة الوطنية السورية ومؤسساتها أم وفق أيديولوجيتها السياسية البراجماتية التى انتهجتها منذ سقوط نظام الأسد؟.
«ابتلاع» أرض الشام يعد مشروع الشرق الأوسط الجديد أكثر المشروعات السياسية إثارة للجدل بعد طرح أفكاره وخطوطه العريضة فى العام 2004م، ففى الوقت الذى اعتبره العديد من المفكرين العرب «مؤامرة» كبيرة ومتعددة الأطراف لتفكيك العالم العربى ليعطى لإسرائيل ميزة التفوق على الدول العربية مجتمعة، ويبسط مزيدًا من النفوذ الأمريكى والغربى على الخارطة العربية، اعتبره البعض مجرد تصور غير علمى وغير دقيق لإعادة تدوير نظرية الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية، التى بدأت خطوات جادة نحو الابتعاد عن واشنطن وتعزيز دورها بتحقيق توازن استراتيجى بالتقارب مع الصين وروسيا بعيدًا عن صراع المحاور بين الغرب والشرق، ولكن ومع تغير النظام فى سوريا بشكل دراماتيكى عادت نظرية المؤامرة بعنوانها «الشرق الأوسط الجديد» وقاعدته المؤسسة بمبدأ «الفوضى الخلاقة». ولا يمكن مناقشة مشروع الشرق الأوسط الجديد بدون البدء بإسرائيل ومخططها الذى حدد له البعض السابع من أكتوبر2023م، بعد اقتحام حركة حماس الفلسطينية لقرى وبلدات غلاف غزة الإسرائيلية للانطلاق مجددًا لتحقيق تغيير جذري فى معادلة توازن القوة لتحقيق «أمنها» داخل الإقليم، والذى قامت بتغيير استراتيجيتها فيه من الاعتماد على الحروب السريعة والتوسع فى معاهدات السلام، وانتهاج مبدأ التفاوض لتحرير أسراها، إلى استراتيجية الردع المباشر بشن الحروب وتوجيه الضربات الاستباقية لخصومها فى الإقليم وتنفيذ ما يراه اليمين المتطرف المؤمن ب«نبوءة توراتية» قائمة على العنف والتقسيم والتمزيق للخصوم، وهو الأمر الذى يتجسد عمليًا فى مشروع «شرق أوسط جديد» لا مكان فيه «للميليشيات» ولا «لأشباه الدول» مع التوافق مع القوى العالمية الكبرى على رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية.
وبالإضافة إلى إسرائيل ورغبتها فى تسييد مفهوم الشرق الأوسط الجديد القائم على التقسيم والتفرق، نجد المشروع الإيرانى «الخمينى» عنصرًا مؤثرًا فى ترسيخ مقومات الفوضى بما حققه من فوضى خلال الفترة السابقة للعام 2024، عبر نشر ميليشياته فى العراق واليمن ولبنان وحمايته للنظام السورى السابق، وبالرغم من أن واشنطن وتل أبيب نجحتا فى إفشال مشروعه بمستوى ما فى سوريا بإسقاط نظام بشارالأسد، وتقليص دور ميليشياته فى العراق ولبنان إلا أنها فتحت المجال واسعًا لمزيد من التدهور والفوضى بتخليق حالة من التباين داخل النسيج السورى عرقيًا وطائفيًا ومذهبيًا وربطها بالعديد من الأجندات الخارجية، لتسييد الفوضى لسنوات بعد أن فتحت بابًا واسعًا للإسلاموية المتطرفة. وبجانب إسرائيل وإيران تأتى تركيا الطامع النهم والشرس فى الأراضى السورية والتى تعتبر الشرق الأوسط الجديد أحد أدواتها فى تقسيم الدولة السورية، عبر الاستيلاء على أجزائها الشمالية تحت دعوى منع تكوين دويلة كردية ناشئة، تعتبرها تهديدًا لوحدة أراضيهما التى يعيش الأكراد فى جنوبها الشرقى، مع منع أى دور لهم فى سوريا الجديدة، وإنشاء منطقة عازلة بطول الحدود التركية - السورية كحاجز ضد أنشطة الأكراد، والتماهى مع المصالح الإسرائيلية فى إزاحة التواجد الإيرانى بالداخل السورى، مقابل فتح المجال لإسرائيل لبسط حمايتها على الدروز فى محافظتى درعا والسويداء بجنوب سوريا بمحاذاة الحدود مع الأردن، وبذلك تكون الثلاثية الإسرائيلية الإيرانية التركية قد تقاطعت مع هدف واحد وهو تفكيك سوريا فى إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذى بدأ عمليًا بحرب غزة، وما زالت فصوله فى طور الاصطفاف والتكامل. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية فكانت تسعى إلى هدف مركزى وهو إنهاء الوجود الإيرانى فى سوريا وقطع إمدادها لحزب الله عبر الأراضى السورية، وهو ما نجحت فى تحقيقه بشكل ضمنى بعد سيطرة هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لها على الحكم فى دمشق، بالإضافة إلى هدفها الاستراتيجى طويل الأمد الممثل فى إنهاء الوجود الروسى بقواعده المتبقية فى الساحل السورى، مع العمل على إنهاء وجود تنظيمى القاعدة وداعش المهددين لأمنها القومى ولحلفائها بالمنطقة.
دمج سوريا! وبذلك يكون من أهداف دمج سوريا الجديدة فى مشروع الشرق الأوسط الجديد هو ربطها بمصالح الرباعية الإقليمية والدولية «تل أبيب - طهران - أنقرة - واشنطن» الدافعة بسوريا نحو الاندماج فى شرق أوسط يلبى مصالحها الاستراتيجية، مع إبقائها فى حالة من الاشتباك الدائم مع أطراف إقليمية تحت عنوان «الدفاع عن مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية»، بالإضافة إلى ربط استقرارها السياسى بتلبية مطالب وحقوق الأقليات الإثنية والعرقية والدينية، مما سيشكل ضغطًا دوليًا مستمرًا على إدارتها الجديدة وربما يدفع فى مرحلة ما إلى تهديد مباشر على السلم الأهلى داخل جغرافيتها المهددة بالاجتزاء جنوبًا وشمالًا وشرقًا. ولكن تعقيد أبعاد مشروع الشرق الأوسط الجديد وعدم وضوحه تجعل منه مخططًا من الصعب تحقيقه، بالرغم من أن المتغيرات الدولية والإقليمية الحالية المتلاحقة خاصة فى الداخل السورى وتأثيراتها عليه، والتى تتشابك مع مصالح الدول الكبرى الإقليمية والدولية على الأراضى السورية، تؤشر بعديد من الإرهاصات لتحقيقه، فى ظل عدم الإدراك الكامل لخطورة ما يجرى على تماسك التراب السورى. وهو ما يعنى أن هذا المشروع يحمل فى طياته سيناريو التقسيم «المضر» لسوريا، حال توافقه مع مخطط ممر داوود ومبدأ «الفوضى الخلاقة»، والذى سيدفع إلى تقسيم سوريا إلى دويلات وفق «حدود الدم»، و«إعادة هندسة خرائط المشرق العربى»، كما تحدث عنها كل من البريطانى برنارد لويس والأمريكى رالف بيترز، وفى ظل الأطماع الإقليمية والدولية فى سوريا؛ فإن هذا السيناريو ليس مستبعدًا على الإطلاق.