كثيرًا ما كنت أراقب يدى مدام ماجدة، رحمة الله عليها، لسببين، الأول أنها تشبه يدى أمى، والسبب الثانى لأطمئن على قدرتها على كتابة الموضوع للصفحة، (صفحة الكتب فى الأهرام)؛ فقد كانت تعانى من الروماتويد، أو التهاب المفاصل المزمن، والذى كان يجد فى أصابع اليد الفريسة الأسهل على ما يبدو. وكانت تخبرنى، كلما انتابتها آلامه، عن مشوار علاجها مع الروماتويد، خاصة بعدما أخبرتها أن أمى تعانى منه لسنوات. علاقتى بالأستاذة ماجدة، كانت باستمرار مزيجًا بين علاقة مهنية، وأخرى إنسانية، وقد تضافرتا ببعضهما بعضا، بحيث باتت مزيجًا من الصداقة والأمومة والبنوّة والزمالة بنفس القوة ونفس القدر. لم تكن رئيستى فى العمل، رغم أنها رئيستى طبعا، بمعنى آخر لم تكن تمارس شكلًا تسلطيًا فى إدارة العمل بل بالعكس، تعاملنى كما لو أننى أنا الذى أدير العمل. تترك لى حرية الحركة التامة فى اختيار الموضوعات التى سأكتب عنها أو أتناولها. وهى، من جهة أخرى، ليست أمى لأنها تعاملنى كأخت أكبر، لكنها أمى بشكل ما، ولم تكن أختى لأنها صديقة، وخاصة حين تحدثنى عن تفاصيل من حياتها اليومية عن ابنيها محمد وماجى، ولكنها كانت أختى، وهكذا.
فى تقديرى أن جانبا من المهنية الممتزجة بالحميمية الشخصية له علاقة بمدرسة صباح الخير التى بدأت هى فيها، وصالت وجالت وقدمت خلال رحلتها فى صباح الخير عددًا كبيرًا من التحقيقات الصحفية، والخبطات، والحوارات مع ألمع رموز الثقافة والفكر، لكن وفق منهج صباح الخير الذى يجمع الرصانة بالرشاقة، والكتابة بالفن، والصحافة بالأدب، وبالعمل فى بيئة تشبه بيئة العائلة. بيئة «القلوب الشابة والعقول المتحررة»، الشعار الذى أطلقه أحمد بهاء الدين، أول رئيس تحرير ل«صباح الخير» بعد تأسيسها. وهذا الإحساس بالحميمية والمهنية كان كثيرا ما يتسلل إلى قلبى كلما كنت أصعد للطابق السابع فى مبنى روز اليوسف. كلما تداعت ذكرياتها عن صباح الخير كنت أخبرها أننى ابن المؤسسة أيضا، لأنى بدأت الصحافة فى «روزاليوسف»، وكنت أعرف أننى لا بد أن أكون قد لمحتها مرة أو أكثر، فقد كنت دائم الحركة بين الطابق الخامس حيث يتواجد فريق روزاليوسف فى زمن الأستاذ عادل حمودة، وبين الطابقين السادس حيث يتواجد قسم الفن التابع لروزاليوسف وبينهم الفنان عمرو سليم، والطابق السابع حيث يتواجد فريق صباح الخير. وكان فى التجول فى هذا الطابق بالنسبة لى فرصة أن أجد نجمًا من النجوم سواء من الصحفيين أو الفنانين، تاج، حاكم، أو غيرهما، بالإضافة إلى الأستاذ صبرى موسى الذى كثيرا ما كنت أجلس معه فى مكتبه كلما وجدته.
أخبرتنى أن هناك فترة فى حياتها قررت التفرغ فيها لابنيها بسبب صغر عمرهما، وكان من السهولة تفهم ذلك جدا، لأن فكرة الأمومة بالنسبة لها مسألة لها أولوية أولى فى تقديرى وتقدير كل من تعامل معها أو عرفها، والحديث عن محمد وماجى، أو الاتصال للمتابعة والاطمئنان، لم ينقطع يومًا. تهتم بالتفاصيل الصغيرة. التفاصيل التى تكشف من خلالها عن «الاهتمام»، والإحساس بالمسئولية وبالآخر. فى بداية عملى فى الأهرام العربى وكانت هى مسئولة القسم الثقافى، وكنت آنذاك أحلق ذقنى كل ثلاثة أيام تقريبا، خاصة لأنها ليست ثقيلة، لكنها سألتنى: إنت مش حالق ذقنك ليه؟ وبعد ما بررت لها ذلك بالكسل، ولم يعجبها الأمر أوضحت لى مزايا أن يكون وجه الإنسان مضيئا، و «منور» على حد تعبيرها، ومهتما بنفسه. وأعتقد أننى منذ ذلك اليوم وإلى اليوم ما زلت أحلق ذقنى يوميًا بانتظام. هذا الاهتمام بالتفاصيل، الذى ينسحب على الاطمئنان على أحوال حياتى، كان ينسحب على الاهتمام بالشأن العام بنفس القدر من الاهتمام، وبشكل يومى. ولطالما حرصَت أن تعرف رأيى فيما يدور من شئون العالم. كتاب جديد صدر لأى كاتب. قضية رأى عام. كتاب للأستاذ جمال رحمه الله. قضية من القضايا الاجتماعية أو السياسية التى غالبا ما كنت أشعر أن الكلام عنها بالنسبة لها لم يكن مجرد إثارة موضوع للحديث، بل انشغال حقيقى، واهتمام جدى يجعلها أحيانًا قلقة وربما مهتمة بالكتابة عن الموضوع على أمل أن يكون للكتابة دور ما فى تحريك أى مياه راكدة وما كان أكثرها فى زمن مبارك. وكان كل يوم لديها قضية تشغلها، وتناقشها بنفس الاهتمام والقلق والحيرة. لا أعد نفسى شكاء، ولا أرى فى نفسى ذلك أبدًا. ولكن ربما، وتحت ضغط سؤال منها، ربما لأنها رأتنى واجما أو قلقا، وأحبت أن تعالج قلقى وتعرف سر وجومى، شكوت لها مرة من شخص فى حياتى. أنصتت باهتمام، لكن مشاعر أمومتها سرعان ما كانت تتكاثف قبل أن تبدأ فى أن توضح رؤيتها فى الموضوع.
كانت بعد أن تبدى تفهمها لما قد يكون تسبب فى إصابة قلقى أو غضبى، تحثنى على السؤال عن الطريقة التى يراك بها الطرف الآخر الذى تتصور أنه يسبب لك الضيق. كيف يراك؟ كانت تريدنى أن أفهم أن الإنسان يتهم الآخرين بسهولة من دون أن يمنح نفسه الفرصة لكى يرى ما يفعله هو، وأن يدرك مدى مسئولية سلوكه فى سوء الفهم. وكان هذا درسًا آخر ما زلت أمشى به فى الحياة باستمرار، مانحًا لنفسى فرصة فهم الآخرين أو استيعابهم قبل اتهامهم وباستمرار. كما أنها لعبت دور المستشار العاطفى قبل زواجى، فقد كانت على معرفة بتفاصيل أى علاقة أمر بها، وصولاً لقرار زواجى من هايدى. حين أستعيد ذكريات فترة الصحبة الجميلة تلك أتذكر أننا كنا نقضى أوقاتا طويلة كل يوم، فى اللقاءات الصباحية بمجرد وصولها مكتبها، وتناول القهوة، وتبادل الاهتمامات اليومية، وبين أبرزها تأتى الكتب، ليس لأننا كنا نحرر صفحة الكتب التى أسستها هى فى الأهرام، بل لأنه فى الحقيقة جزء من روتين الحياة، من اهتمامها ومن حياتها، جزء أساسى يشغل اهتماماتها وشغفها. بعض الكتب تقرأها للمتعة والفائدة، وبعضها تعرف أنه سيكون اختيارا لعرض مطول فى الصفحة.
مواقف يومية، دروس، تعليقات وحوارات، غداء فى مطعم الأهرام، أو قهوة فى كافتيريا الطابق الرابع فى الأهرام، هذا كله غير أوقات العمل والكتابة وإعداد الصفحة. عندما صدر قرار تعيينها رئيس تحرير مجلة علاء الدين، كانت مشغولة بألا يتعارض ذلك مع توليها الإشراف على صفحة الكتب التى كانت بالنسبة لها مثل ابنة من بين أبنائها، وكنت أشعر أن توليها علاء الدين سيؤثر على انشغالها بالصفحة. ولعلنى كنت مثل الأخ الذى يأتيه مولود جديد فيشعر بالغيرة، لكن الحقيقة أنها خصصت لى مكتبا قريبًا من مكتبها، وحسمت الأمر فى مهده. والحقيقة أن اهتمامها بصفحة الكتب لم يتأثر بأى شىء. أعتقد أيضا أننى مدين لها بعدة دروس فى النزاهة، لكنى أذكر منها أن الناقد الراحل فاروق عبد القادر كان كثير الهجوم على الأستاذ جمال الغيطانى، رحمهم الله جميعا، وكان نقده يبدو حادًا وقاسيًا، وأحيانًا شخصانيًا. ولكنه من جهته كان يرى أنه يمارس دوره النقدى. وكان بمجرد أن يصدر له كتاب جديد يتصل بى ليهدينى نسخة من الكتاب. ومن جهتى كنت أجد نفسى فى حرج كبير، لكنى أيضا لم أكن أتردد لأسأل مدام ماجدة عن إمكانية النشر عن الكتاب، ورغم ما كانت تشعر به من غبن، ومما كانت كتابات عبد القادر تتسبب فيه من مشاعر الاستياء لدى الأستاذ جمال، لم تكن تتردد فى إعلان أن أى كاتب فى مصر من حقه أن ننشر عن كتابه، وفى المقابل كانت شديدة التعسف فى نشر أى حرف عن أى كتاب للغيطانى. وأظننى أصررت مرتين فى مناسبتين مختلفتين على حقه فى أن ننشر عن كتبه، لأنه كاتب كبير. من سوء حظى، وبسبب السفر، أنى لم أكن قريبًا منها خلال السنوات الأخيرة، رغم أننا كنا نتبادل الاتصالات الهاتفية باستمرار، والرسائل. وكنت أحرص على زيارتها فى أى إجازة للقاهرة.
كان من المؤلم ملاحظة ملامح الحزن التى سكنت تعابير وجهها منذ وفاة الأستاذ جمال. فى اللقاءات الأولى بيننا التى أعقبت الوفاة كانت تتحدث عنه بشغف وحزن، وترفع عينيها قليلا وهى تتحدث كما لو أنها تقرأ من صفحة كتاب لا يراه سواها. كان صوتها قد اكتسى برنة حزينة أيضًا. تلبستها حالة من الشجن الشفيف أظنها تمكنت منها، وسكنت فى ملامح وجهها وفى صوتها، وحتى رحيلها، رحمها الله. أسكنها الله فسيح جناته وأبقى ذكراها خالدة فى قلوب حبايبها وقلبى.
وأعود لرسالة من رسائلها على الماسنجر بين آن وآخر «دائما أستحضرك قيمًا وسلوكًا وأحس بأنى كنت محظوظة». وأحمد الله أننى كنت قدر الثقة والمحبة التى غمرتنى بها وونست بها الحياة كعادتها دائمًا. وأظننى الذى كنت محظوظا يا أستاذة. كل سنة وسيرتك الطيبة مصدر الإلهام والبهجة والمحبة.