بمجرد أن تلمحه واقفًا على المسرح يمسك بيده الدُف وينشد المدائح النبوية والأغانى الصوفية والأناشيد الدينية، تكتشف أن هذا الرجل الكفيف ذا البشرة السمراء وصاحب الصوت العذب الذى يحملك لأعماق النور النبوى ومديحه، هو الشيخ أحمد برين الذى ظل مدّاحًا «صييتًا» يمزج مدح النبى بالحديث عن الدنيا ومواعظ الحياة، ويسرد قصص الأنبياء والدروس المستفادة منها. ورغم أن حفلاته كانت تجوب العالم، لكنه ظل فى جنوب مصر وصعيدها ولم يهاجر منها حتى وفاته.
وُلد الشيخ برين فى قرية السلوى بمركز كوم أمبو التابع لمحافظة أسوان عام 1939م، مات والده ولم يتجاوز السنتين من عمره، أصيب بحمى كانت السبب فى فقدان بصره فى مرحلة مبكرة من حياته. أتم حفظ القرآن الكريم فى أحد كتاتيب قريته فى سن السادسة عشرة، وبعدها سافر إلى قرية الدير بمركز إسنا التابع بالأقصر، لتكون نقطة انطلاقته فى المدائح النبوية والغناء الصوفى، ذلك الطقس المُتفرّد الذى لا يألفه إلا مُرتادو الموالد وحلقات الذكر. وبدأ برين المشاركة فى حلقات الذِكر والأوراد، حفظ قصائد الشعر والمواويل، وأخذ يرددها على من حوله فنصحوه بإقامة حفلات إنشاد صغيرة بعدما لاحظوا عذوبة صوته وبراعته فى تأليف الشعر والمواويل لدرجة أنه كان يمكنه تأليف قصيدة دينية أو أنشودة كل يوم، بل يحفظها ويرددها على مسامع أصدقائه أو محبيه. إيقاع الفم المتابع لمدائح الشيخ «برين» يجد أن زاده وزوّاده هو صوته الشخصى، وصوت بطانته المُنتقاة أصواتهُم بعناية والتى كانت تلعب فى الوقت ذاته دور الأوركسترا الخاصة والمختلفة كعازفين بالدُف أو الرِق أو المِزمار. واللافت للنظر أنه كان يستخدم فمه ليس فقط فى الغناء، بل يستخدمه كآلة إيقاع، وهو ما يعطى مواويله ومدائحه نكهة خاصة ومميزة. وتميز برين بالقصّ الشعبى للقرآن كقصة الخليل إبراهيم، أو قصة موسى والخضر أو قصة عيسى «عليهم السلام»، فقد كان يرويها ببساطة شديدة ويضعها فى إطارٍ إنسانى رحب دون الدخول فى تعقيدات التفاصيل التى تختلف من دين لآخر، وإنما يصل إلى المقصد الأخلاقى للقصة بطريقة السهل الممتنع، مثلما كان يمزج مدح النبى محمد عليه الصلاة والسلام بالحديث عن الدنيا ومواعظ الحياة. وتفرد الشيخ برين بين المنشدين بانفتاحه الشديد واهتمامه بقصص الأنبياء، فقد كان يُحيى حفلات «مولد» السيدة العذراء فى الدير المسمى باسمها فى قرية «درنكة» بأسيوط، إلى جانب إحيائه ليالى وحفلات المولد النبوى، ليجتمع بذلك على حبه المسيحى قبل المسلم. ورغم إجادته للغة العربية إجادة تامة، وحفظه للقرآن الكريم، لم يتغن بأشعار ابن الفارض والحلاج؛ بل بالعكس كان يغنى مواويل المديح بشكل شعبى صِرف، كما كان يغنى الموال الشعبى المستقل عن المديح، وفوق هذا وذاك كان أحد رواة السير الشعبية القلائل المتقنين. وذاع صيت الشيخ أحمد برين فى محافظات الصعيد وبدأ إقامة حفلاته فى أسوان وقنا وعدد من المراكز مثل قوص وإسنا والأقصر، وبدأت تتوالى عليه العروض من الخارج لإقامة الحفلات فى عدد من دول العالم مثل فرنسا وألمانيا، لكن لم يسع لكى تكون موسيقاه وإنشاده إلا لجمهوره البسيط فى القرى والنجوع، وربما كانت الإعاقة التى أصيب بها فى عينيه وهو صغير سببًا فى عدم بحثه عن الانتشار خارج بيئته. صنع الشيخ برين فى فترة السبعينيات «دويتو» فى المديح عبر تعاون مشترك مع المُنشد الصعيدى محمد العجوز، وقدما معًا أغنيتى «السفينة»، و«فرش وغطا». قبل أن يقرر «العجوز» بعد فترة الاستقلال والعمل منفردًا، وبتغيير فى طريقة الأداء إلا أن «برين» لم يشاركه هذا الطموح ليقدم مدائحه وأناشيده بمفرده فى الحفلات وإحياء الليالى ولم يغير أسلوبه بدعوى التطوير، واشتهرت له أغانى «يا ظبية الأندلس»، و«يا بساط اللوز يا وردى» و«العصفور» و«ليالى» و«علبة الصبر». سطع نجم الشيخ برين فى السنوات الأخيرة من حياته وأصبح نجم الإنشاد الجنوبى لدى قطاع عريض من الشباب، بعدما بدأت مدائحه وأناشيده الدينية تنتشر كمقاطع صوتية مع انتشار الإنترنت، واللافت للنظر أن نجوميّته كمنشد دينى سبقت حضوره الافتراضى بأربعين عامًا. وللأسف الشديد، لم يكن يهتم الشيخ برين كثيرًا خلال رحلته الطويلة مع المديح النبوى والغناء الصوفى والإنشاد الدينى بفكرة التوثيق أو أرشفة مدائحه وأناشيده، لتجد نفسك أمام مكتبةٍ ناقصة تَشَارَك المولعون والعُشاق فى تأسيسها، ورفعوا محتوياتها على مواقع التواصل الاجتماعى بشكل اجتهادى تمامًا وغير مُنظم. كما لم ينل أيضًا حظه وحقه فى الشهرة بخلاف زملائه من المنشدين. ولم ينل أيضًا حظه فى الغرب، ربما لقلة حفلاته المقامة فى الخارج. وبعد صراعٍ مع المرض تُوفىّ الشيخ أحمد برين عام 2015م فى بلدته بالصعيد كما أحب أن يعيش، تاركًا لنا سحر المديح وذلك الشجن الذى لازم صوته حتى وفاته، ومُخلفًا وراءه تُراثًا من المدائح النبوية والأغانى الصوفية والأناشيد الدينية، ليبقى حالة مُتفرّدة تستحق عن جدارة لقب «شيخ مدّاحى الصعيد» مثلما لقّبه عُشاق المديح والإنشاد. ولذلك لا عجب فى عبارة «أحمد برين .. حالة خاصة حُرة مُتحررة» التى كتبها على غلاف ألبومه الوحيد «أغانٍ صوفية» من إنتاج «معهد العالم العربيّ فى باريس» عام 2003م.