محملًا بروائح زمن آخر، كان صوت الشيخ أحمد برين، خال المنشدين، كما يطيب لعشاق صوته الجنوبي القوي تسميته، يغوص في الوجدان المصري، حاملًا تجسيدًا فنيًّا للتدين الشعبي المصري، ونموذجًا للتواصل الحضاري الثقافي والديني، المنشد المداح الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، أكرمه الله ببصيرة شعبية صوفية عوضت حرمانه من نعمة البصر في طفولته. جمع في سماحة نادرة بين الإنشاد الديني الإسلامي والقبطي، حيث حفظ الشيخ منذ طفولته كمًّا كبيرًا من الإنشاد الديني القبطي واحترف إحياء الليالي القبطية، وكان عدد كبير من الأقباط يلجأون إليه لإحياء لياليهم، كما كان صوته العذب ضيفًا دائمًا على مولد السيدة العذراء بقرية درنكة، أسيوط. كأحد ورثة مدرسة الإنشاد المصرية ذات الملامح شديدة التميز في صعيد مصر، ولد الشيخ برين في قرية الدير بمركز إسنا محافظة قنا، الأقصر حاليًا، عام 1944، في جنوب الصعيد، الذي منح مصر أجمل أصوات القراء الذي صنعوا مجد مدرسة التلاوة المصرية، وأجمل أصوات المنشدين وسط جمهور مازال حتي اليوم هو الحامي لمدرسة التلاوة والإنشاد. حفظ برين القرآن وأجاد العربية وحصل على بكالوريوس أصول الدين من جامعة الأزهر، لكنه اختار لونًا مميزًا بين المنشدين، فمال للموال الشعبي وشغف بقص قصص الأنبياء في إنشاده ومواويله، من أشهرها قصة سيدنا موسى والخضر وقصة سيدنا يوسف وزليخة، وغيرها من قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم يحكيها "برين" بطريقته المتشبعة بتراث السير والملاحم في الصعيد، مستخلصًا قيمها الأخلاقية والإنسانية في تناول بسيط يحفظها في الوجدان الشعبي، وهو أحد رواة السير الشعبية القلائل المتقنين، وهو وإن لم يتخصص في السيرة الهلالية ومربعات ابن عروس، إلَّا أنها تركت أثرها في أسلوبه المتحرر من قيود تقليدية الآداء. لم يسع الشيخ إلى شهرة خارج الصعيد، فتفرد أسلوبه بتفاعله الحي مع جمهوره الجنوبي، ومع تفرده بمدرسة خاصة في الإنشاد تحتفي بالموال، ساعدته قوة صوته وثقافته الموسيقية والشعرية في التميز في الارتجال، وهو ما تجلي في أروع صوره في التجربة الفنية التي خاضها في دويتو شارك فيه مع تلميذه ابن اخته المنشد محمد العجوز، قدما خلاله نوعين من المديح والإنشاد، الأول المعروف باسم فرش وغطا، وهو فن يعتمد على التنافس في الارتجال بين فنانين، بحيث يقدم أحدهما "الفرش"، بمعني أن يفرش الطريق للآخر لتكملة الموال من نفس القافية، وهو "الغطا"، ويشترط في كل ذلك أن يحافظ الطرفان على جدية الموضوع. والنوع الثاني مدائح نبوية، أشهرها مديح "السفينة" الذي انتشر في الصعيد علي نطاق واسع. لم يسع برين إلى مغادرة الصعيد، وحين سار تلميذه العجوز، في اتجاه آخر أبعده تدريجيًّا عن الإنشاد، انفصل عنه وظل منحازًا لهبة السماء.. صوته، كرسه لمدح الأنبياء والإنشاد بروح شعبية خالصة، ومخلصة لموروثها الحضاري، وجدت سلامها في سماحة الإيمان بكل الأنبياء وصوفية ملكت الروح بعيدًا عن التدين الشكلي الزائف والتشدد الذي أفرز هواجس الفتنة الطائفية، خاصة في صعيد مصر، الذي شهد منشدًا مسلمًا، كبرين، في موالد وحفلات الأقباط، ومنشدًا قبطيًّا، كمكرم المنياوي، مداح للرسول، محمد في امتزاج حضاري يتحدي به الوجدان الشعبي فساد الفكر ومحاولة تشويه تدينه السمح. صدر للشيخ برين عدد محدود من الألبومات، منها اثنان عالميان أصدرهما معهد العالم العربي بباريس، تحت عنوان "غناء صوفي" كتب على غلاف أولهما عبارة لخصت أسلوبه الفني "أحمد برين.. حالة خاصة حرة متحررة".