حين نفتش فى تراثنا الغنائى والموسيقى، سنجد عشرات المبدعين الكبار الذين لم يأخذوا حقهم من الشهرة والنجومية، رُغم تميزهم وتقديمهم لأعمال مهمة أثرت وجدان الجمهور العربى!.. أحد هؤلاء المظلومين هو المبدع الكبير/عبدالعظيم عويضة.. الذى قدّم عشرات الألحان الرائعة، ووضع موسيقى أفلام ومسلسلات تليفزيونية وإذاعية كثيرة، وشارك فى ألحان فوازير نيللى وسمير غانم وشريهان، بالإضافة لدوره الرائد فى المسرح الغنائى، الذى استطاع من خلاله خَلق مَدرسة مميزة وبصمة خاصة ألهمت مبدعين كُثُر.. ولكن لأنه لم يهتم بالشهرة أو يسعى إليها، ووضع كل همّه فى عمله، ولم يكن ممن يجيدون التسويق والدعاية لأنفسهم، لذلك أصبح من المَنسيين!..حتى إنه لا تتوافر عنه أى معلومات (ولو تاريخ ميلاده ووفاته)!!..ورُغم أننى كنت من سعداء الحظ بمعرفته عن قرب، باعتبارى من زملاء أبنائه فى الكونسرفتوار؛ فإننى لم أعرف قدره بحق إلا بعد وفاته، بعد أن استمعت للكثير من إبداعاته التى لم أعرف حينها أنه صاحبها!.. فبحثت عن سيرته الذاتية ولم أجدها.. حتى تمكنت من جمع معلومات من زوجته وأبنائه.. وتصادف أن تكون ذكرى ميلاده ال 82 الآن.. فقد وُلد فى 11 أغسطس 1938، وتوفى فى 23 مارس 2006.. وهو من مواليد قنا، ولكن نظرًا لظروف عمل والده الذى كان مهندسًا للمساحة، عاش فى مدينة جرجا بسوهاج.. وقد أحب الموسيقى وتعلق بها منذ طفولته..وأصبح حلم حياته أن يلتحق بالكونسرفتوار.. ولكن لنشأته فى أسرة لا تعترف إلا بالدراسة التقليدية ودخول الجامعة، لم يستجب والده لإلحاحه كى ينتقل للقاهرة لدراسة الموسيقى.. لكن لم يثنه ذلك عن رغبته فى السفر.. فخطط بجدية للهروب كى يحقق حلم عمره، وشجعه أن شقيقته الكبرى كانت تقطن بالقاهرة.. وظل لمدة طويلة يدّخر مصروفه، حتى تمكن من تنفيذ خطته..فوضع بعض الملابس والنقود فى شنطة المَدرسة.. وبدلًا من الذهاب لمَدرسته، اتجه لمحطة القطار!.. وبدأت رحلته الشاقة، وهو لايزال فى الثالثة عشرة من عمره!. واضطر للعمل كى لا يكون عبئًا على شقيقته.. ولموهبته الكبيرة فى الرسم، بدأ يرسم ويبيع لوحاته للمحلات بالمَنيل ووسط البلد.. وكان يذهب يوميّا للكونسرفتوار(بالزمالك آنذاك)، ولكن لم تنجح محاولاته فى الالتحاق به لصعوبة الأمر.. إلى أن قادته الصدفة للجلوس مع أحد أصحاب المحلات التى كان يبيع لها لوحاته، وحكى له قصة هروبه وشغفه بالموسيقى.. فعرّفه بأحد المُعجبين بلوحاته، الذى كان قد أثنى على موهبته الفذة كرسام.. ولحُسن الحظ كان هذا الشخص ذا مركز مرموق وقريبًا من وزير الثقافة/ثروت عكاشة.. وبالفعل توسّط له عند الوزير، الذى اتصل بأبوبكر خيرت (أول عميد للكونسرفتوار) كى يقبلوه رُغم كبر سنه آنذاك، وبالفعل تم قبوله والتحق بقسم الغناء.. إلا أنه كان يكبر زملاءه بنحو عشر سنوات!. وقد واجهته صعوبات مادية شديدة، ولكن بعد تعرُّفه على الفنانة/سناء يونس، التى تشابهت قصتها معه، أرشدته للعمل فى أحد محلات الملابس بوسط البلد، كى يوفر مصاريفه.. وأثناء مسيرته الدراسية كان قد بدأ التأليف الموسيقى لبعض الأعمال المسرحية؛ خصوصًا مع الفنان والمخرج المسرحى/ثناء شافع.. فعُرف فى الأوساط الفنية، وأُختير لوضع الموسيقى للعديد من الأعمال الفنية.. حتى أصبح اسمه بين كبار الملحنين والموسيقيين- وهو لايزال طالبًا بالكونسرفتوار- ولشعوره بمحدودية الأغنية الفردية التقليدية، اتجه للمسرح الغنائى، وكوّن فريق كورال الطليعة عام 1967، الذى قدّم من خلاله نوعية جديدة من الغناء لا تستهدف التسلية والإمتاع فقط، بل تتناول موضوعات تهم الإنسانية، وقضايا وطنية وقومية.. وقدّم مع المخرج/سمير العصفورى صيغة جديدة للمسرح الغنائى، قدّما من خلالها كثيرًا من الروائع.. وقد خصص المهرجان القومى للمسرح جائزة تحمل اسمه لأفضل تأليف موسيقى مسرحى عام 2014، اعترافًا بدوره وتأثيره.. وأتمنّى أن نعيد اكتشاف إرثه الموسيقى القَيّم، الذى يُعبر عن حقبة مهمة فى تاريخ مصر.