مرت ذكرى عطرة على النفوس لرجل استطاع أن يجمع العالم العربى حول حنجرته الذهبية وإحساسه المخملى وأصبح هو المطرب الأعظم لأعتى أمة على ظهر الأرض.. مرت ذكرى العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الفنان الذى اجتمعت داخله صفات ربما لم تجتمع لأحد غيره.. فالموهبة وحدها لا تكفى لكى تتربع على العرش، ولكن الموهبة أن يصاحبها أشياء أخرى أولها وأخطرها ذلك العضو الذى نجهل كيف يعمل وكيف يخطط وكيف يعقل الأشياء إنه العقل..العقل الذرى الذى توفر لعبدالحليم حافظ وهو بمثابة عجلة القيادة التى جرت الموهبة من ورائه لكى تصقل وترتفع وتظل فى خط بيانى وغير طبيعة كل الأشياء لا يعرف سوى الارتفاع للأعلى.. أى خط بيانى لجماد أو حيوان أو إنسان أو نبات يبدأ من الصفر ثم يتحول إلى الحركة بسرعة ليصل إلى أعلى منحنى ممكن ثم يصل إلى نقطة تسمى نقطة الانقلاب وهى التى تشهد أعلى صعود ممكن للقدرة الذاتية وبعدها قد يظل فى هذه النقطة لفترة ما.. ولكن كل المنحنيات بعدها تبدأ فى رحلة المصير المحتوم رحلة السقوط وكما هى سنة الحياة ما طار طير وارتفع.. إلا وكما ارتفع وقع.. وما أقسى الهبوط.. يكون مع جميع الأشياء بسرعة تفوق سرعة الصعود ولكن كيف أمكن لهذا العبقرى أن يظل فى حالة ارتفاع فقط لا غير.. لا يعرف شيئا من تفاصيل وأحداث رحلة الهبوط.. ذلك لكون حليم ولد، ومعه أسباب النجاح واكتسب من البيئة والنشأة كل عوامل المقاومة لم يعرف الفنان طريقا إلى ذلك الكيان البشرى ولم يسبق أحد حليم حبا أو مشاعر من الطبيعى أن يلقاها كل وليد وكل صغير.. لم تمتد أى يد بالعطف على ذلك الكائن فى حياة.. لم يكن يعرف يلهو كبقية الأطفال لذلك دخل فى حوار مع النفس مبكرا جدا.. لماذا هو وحده سلبته الأقدار كل شىء.. الأم والأب الأعمدة التى يقوم عليها الصغير ويشيب وتأمل حليم فى حياته واستدعى كل ذكريات العمر الأليم وقرر فى نفسه أن يضع لذاته عالمه الخاص وأن ينتصر على الألم الذى غلف العمر بأكمله ولون الحياة باللون الأسود قرر أن يحول ذلك كله إلى بهجة ومتعة واكتشف أن ما يدخل أذنه من طنين موسيقى يترك فى النفس مساحة من السعادة فاتجه إلى المزيكا وعشق آلة غريبة الشأن الأبوا مختلفة تماما مثله آلة لم تحقق انتشارا ولا شهرة كانت مختفية وسط أطنان من الآلات الأكثر شهرة وأثرا ولكن هذا الاختيار مسح الغبار الذى تراكم على هذه الآلة وألقى الضوء عليها فقط لأن حليم وقع اختياره عليها.. حتى القرية الغلبانة وناسها الأكثر غلبا الحلوات ربما لم يسمع بهذه القرية أحدا خارج محافظة الشرقية.. ولكن ما أسعد الحظ الذى صادفها حين ولد بين ظهرنيها ذلك الطفل اليتيم الذى تشير كل المعطيات أن طريقه مسدود.. مسدود مسدود يا ولدى.. خرج حليم ليكون مختلفا فى اختياراته وفى غنائه وفى تذوقه للموسيقى وفى صداقاته التى كانت مثله.. تحمل فيروس الموهبة القاتل لمن قبلهم.. محمد الموجى.. بليغ حمدى.. كمال الطويل.. فيروسات فتاكة فى عالم الموسيقى.. لا يستطيع أحد مهما أوتى من قوة أن يقف أمام أحد منهم أو يوقف انتشاره وتغلغله.. ليس لهم مصل ولا دواء.. فهم جاءوا إلى الحياة محملين برسالة أدوها جميعا على الوجه الأعظم بعد أن التقوا بهذا الشاب النحيل الذى وهبه المولى عز وجل تلك الحنجرة التى سحرت أمة العرب وأسعدتهم لماذا نجح بهذا الشكل الأسطورى.. تجيب على هذا السؤال بقية وقعت مع عمنا وأديبنا وتاج الرأس فتحى غانم.. الذى ذهب ذات يوم مع كامل بك الشناوى كما كان يناديه الكل.. أو عم كامل بيه.. كما كان يناديه الولد السعدنى محمود السعدنى.. فقد ذهب عمنا فتحى غانم إلى بيت متواضع فى حى المنيل واكتشف أن الجدران تم طلاؤها بالجير وهو أردأ أنواع الدهانات فى تلك الأيام وأن صاحب البيت يجلس فوق سرير، يعانى من بعض الأوجاع وحوله أناس مغمورون لم يعرف أحدًا منهم على الإطلاق.. ولكن فتحى غانم شعر أن هذا الفتى الصغير سوف يصنع معجزة فى عالم الغناء فآمن به واقترب منه وذات يوم طلبه حليم لكى يصاحبه لتسجيل إحدى الأغانى وفى الاستديو هناك أمضيا معا ساعات طوالا وكان السبب 3 ثوانى فقط لا غير لم يستطع حليم أن يغنيها فى اللحن.. وقال إنها تمثل نشازا فى اللحن ويجب أن تستبدل.. مع أن فتحى غانم استمع إليها عشرات بل مئات المرات ولم يلحظ على الإطلاق وجود أى عيب فى اللحن خصوصا فى هذه الثوانى الثلاث واقترح حليم نغمة أخرى لتحل محلها.. وبالفعل تم له ما أراد.. وسط اندهاش كل العالمين ببواطن الأمور فكيف استطاع حليم أن يغير هذا النشاز الذى لا يمكن سوى بخبير عظيم بفن الموسيقى وحده أن يكتشفه ويحلل فتحى غانم سلوك العندليب هذا واستغرق 3 ثوان من عمر اللحن وقتا طويلا اقترب من النصف يوم بالتمام والكمال ويقول لقد كان الفن بالنسبة لحليم مسألة.. غريبة الشأن.. فالحكاية هى الفن أو الموت.. بمعنى أن وضع الفن فى نفس كفة الحياة بل أنها تفوقت على الحياة بالنسبة إليه فى رأى عم فتحى غانم.. ومن حسن الطالع أن العندليب الأسمر اختار أن يسجل ما جرى له وعليه فى رحلة الحياة كما قال «أحسست أننى أريد أن أخرج بكل ما حدث فى حياتى مرة واحدة من حب ووفاء ومرض وخيانة وصداقة وألم وسعادة ورحلات إلى معظم بلاد الدنيا.. ويضيف الحياة رحلة رائعة رغم كل ما فيها من آلام والآن أحاول بهدوء أن أحكى للأوراق حكايتى». كان هذا هو مقدمة عبدالحليم لمذكراته التى اختار لها أشقى مطبوعة فى العالم العربى بأكمله.. صباح الخير.. يا عندليب