حظر التجول والسكون الذى يخيّم على بيوت السويس ومصر كلها، منذ ساعات المساء الأولى، أعاد إلى الأذهان ما كان الحال عليه قبل عقود إبان العدوان الإسرائيلى فى 67، وفى أول شهور العودة بعد التهجير بعد حرب 73. تلك الأيام التى تذكرنا ببطولات المصريين على جبهات القتال وفى صفوف المقاومة الشعبية، وداخل أروقة المشافى، بل فى أفران الخبز التى لم تنقطع أدخنة مداخنها حتى تحت الحصار. مدير المستشفى «أبوجركن» الأطباء الآن هم خط الدفاع الأول ليس لمصر فقط، بل للعالم بأسره، فهم الأكثر عرضة للخطر والملجأ الأول للمرضى، فى ظل هذه الأجواء ينظر سمير عبدالراضى أحد أبناء السويس إلى شوارع مدينته الخالية على غير العادة ويتطلع إلى المستشفى العام متذكراً قصصاً عايشوها أثناء العدوان ومازالوا يترنمون بها كلما اشتدت وطاة الأيام «كان لمستشفى السويس العام فى فترة الحصار عام 73 مدير طبيب شاب سجل حينها موقفاً لم ينسه أهالى السويس. كان أوقات انقطاع الكهرباء يخرج بنفسه حاملاً «جركن» ليبحث عن البنزين أو الجاز حتى يتمكن من تشغيل مواتير الكهرباء وتستمر العمليات الجراحية بالمستشفى، التى كانت تعجّ بالضحايا من أهالى السويس أثناء الحصار والقادمين من سيناء. تكرر مشهد الطبيب الذى يحمل «جركن»، لكن هذه المرة بحثاً عن المياه حتى أطلق عليه اسم (أبوجركن). كان المستشفى خلية نحل لا تنقطع حركة الأطباء والممرضين إضافة للمتطوعين من أهالى السويس، فكل من كان يملك مقداراً من الخبرة كان يتطوع، المستشفى الذى ظل يحمل آثار العدوان على جدرانه بعد تعرضه للهجوم، لم يكن فقط ملجأً للمرضى، بل كان مخزناً للأسلحة الخفيفة وشاهداً على صمود المدينة». عمال وفرانون وأهالى كان دور أبناء السويس كما يقص عبدالراضى «ومنهم واحد لم يعرف طريقاً إلى شهرة أو صيت، عندما بدأ الصهاينة بالتسلل إلى المدينة عن طريق القطاع الريفى كان يقوم بمسح كل تلك المنطقة بمسافة 60 كيلومترًا سيراً على الأقدام وصولاً إلى السويس مترصداً دبابات العدو وأماكنها وأعدادها، ثم يسلم المعلومات لآخر ينتظره على كوبرى الهاويس بأول السويس ويعود ليقطع نفس المسافة من جديد ليعيد الكرّة معرضاً نفسه للقتل. كان ترابط أهالى السويس واستماتتهم على تراب المدينة هو المسمار الأخير، لكن ليس فى النعش بل، فى صندوق الحياة الذى أهداهم إياه الانتصار، هكذا كانوا ومازالوا «كان أهالى السويس جميعاً يداً واحدة واتحدوا مع جنود المؤخرة القادمين من سيناء فصنعوا ملحمة شعبية داخل المدينة لا يتصور أحد كيف كان المشهد صعباً، رغم ذلك كان كل صاحب دور من المسموح لهم التواجد يقوم بدوره على أكمل وجه فالفرانون استمروا بصنع الخبز وخدمة أعضاء المقاومة وكذلك استمرت أعمال رجال الشرطة والعاملين بقطاعات المياه والكهرباء والترسانة البحرية وعمال شركة البترول. وبتكاتف هؤلاء جميعاً تصدوا للقوات المعادية التى كانت تواصل هجماتها وتسللها حتى كانت جثث الصهاينة تملأ الشوارع فيقوم الأهالى بدفنهم، ثم يدخل المزيد من الصهاينة بحثاً عن جثث من سبقوهم فتُلحِقهم ورديات الأهالى المرابطة بالمدينة إلى حتفهم، أسوة بمن دخلوا باحثين عنهم. إلى الآن يكتشف الأهالى مقابر هؤلاء كما حدث أثناء تجديد مسجد بشارع الجيش منذ فترة اكتشفوا أمامه مقبرة لجنود من جيش الاحتلال، وهو ما تكرر فى واقعة أخرى حين اكتشفوا مزيداً من الرفات تحت أسوار محطة الكهرباء بمنطقة عتاقة. كما حكى لنا المرابطون بالمدينة عن جنود الاحتلال ذوى الأصول العربية فكانوا يتحدثون مع الأهالى حين يقعوا فى أسرهم بلهجات عربية، ورووا لنا القصص حول جبن هؤلاء حين كانوا يركضون صارخين فى الشوارع حين يتصدى لهم الأهالى». حظر التجول يعيد الذكريات فى مثل هذه الأجواء قد يذعر البعض ويفقد الأمل فى المقاومة لكن عبدالراضى يرى بعداً آخر فى الصورة «منذ بدأ حظر التجول فى مصر وأصبحت أرى شوارع المدينة الهادئة منذ المغرب، عادت إلى ذكريات أولى أيام العودة حين لم يكن موجوداً بالسويس سوى أسرتين فقط، مع الفارق الكبير فى الأوضاع». حينها لم يكن يوجد أى مرافق بالمدينة بل كانت قفراً مجدبة. صممنا على البقاء وإعادة إعمار مدينتنا حتى وقفت على أرجلها من جديد حين كان الأهالى مترابطين، تحمل شعب السويس الكثير وقاوم حتى صد جيش العدو بلا سلاح ولا عتاد ومازال يعتز بتاريخه مترصداً لعدوه، ولو أردنا سرد القصص حول بطولاته لن يسعنا الوقت، لكنه يستحق مزيداً من الرعاية».