بين النكسة والاستنزاف لوحات ولوحات من البطولات والنضال رسمتها أيادى أبناء القنال، ونقشوا فيها أسمى صور المقاومة والاستبسال، صوراً مهدت الطريق للانتصار والعبور. صباح الخير بحثت عن تلك الصور بين خط الدفاع المنيع المتمثل في أهالي محافظاتالقنال، وكما خص الأبنودي السويس بالذكر في كلماته الشهيرة "يابيوت السويس يا بيوت مدينتي، أستشهد تحتك وتعيشى انتِ" تحكى السويس وأهلها لوحات أكتوبر المحفورة فى الأذهان.. بين صوت الراديو الصادح هنا القاهرة، وصافرات الإنذار والخنادق بالسويس عاش سمير عبدالراضى جزءاً لا يمكن أن ينساه من طفولته، لوحة يقسم أنه لازال بإمكانه سماعها ورؤيتها رأى العين بعد كل هذه السنوات. بعد الغارة بيوتاً مهدمة وجثث الشهداء تنقلها عربات الخضار، تبدأ الحكاية كما يرويها عبدالراضى من يوم 5 يونيو 1967 ، استيقظت السويس على جلبة لم تشهدها من قبل ضربات جوية عنيفة راحت تمزق أمن المدينة الهادئة وتعكر صفو ألحان السمسمية، تركزت الضربات على منطقة "بور توفيق" وهى المنطقة التى بُنيَ أمامها خط بارليف فيما بعد. صافرات الإنذار دوت فى أرجاء المدينة وهرع عبدالراضى ذا ال 7 سنوات وأسرته بين من هرعوا إلى الخنادق، رغم صغر سنه لايزال يتذكر ويروى ما كان شاهداً عليه: " أتذكر ما رأيت وكأننى أتابع فيلماً، كان بكل حى خنادق متفرقة على مستوى السويس بأكملها، كنت أسكن فى منطقة الأربعين بوسط السويس، كنا نجرى على الخنادق وقت الغارات ، وبمجرد أن تهدأ الأجواء نعود إلى منازلنا، كنت أرى الأهالى ينقلون الجرحى والقتلى على عربات الكارو لأن سيارات الإسعاف لم تكن لتكفى كل هذا الكم من الضحايا، فى إحدى الغارات رأيت منزلاً فى شارعنا تسقط عليه دانة ورأيته يسقط أمامى واستشهد حينها جار لنا كان داخل المنزل". كنا مستعدين للموت فى منازلنا لم يكن من السهل على العديد من الأهالى بمدن القنال ترك منازلهم التى عاشوا وتوقعوا موتهم بها، كانت أسرة عبدالراضى إحدى تلك الأسر التى لم تترك منزلها إلا بعد نفاد الحيل: "قضيت مع أسرتى سنوات حرب الاستنزاف الثلاث داخل السويس، كان والدى يعمل بشركة النصر للبترول وانضم للمقاومة الشعبية، رفض ترك منزلنا رغم صدور قرار من الحاكم العسكرى بإخلاء المدينة، لكن اضطررنا إلى المغادرة بعد صدور قرار إغلاق جميع المدارس بالسويس، رحلت أسرتى إلى قنا التى بها جذور عائلتنا. ظل والدى بالسويس وكان من القلة المصرح لهم بدخول المدينة لأنه كان مشاركاً فى عملية نقل آلات شركة النصر للبترول إلى منطقة العامرية بالإسكندرية، كان مصرحاً أيضاً لمدنيين آخرين لهم أعمال بالسويس مثل العاملين بقناةالسويس وشبكة الكهرباء والمياه والفرانين والشرطيين والعاملين الذين ينقلون معدات شركاتهم لمحافظات أخرى مثل والدى، وبعد أن انتهت أعماله استقر معنا بقنا حتى عدنا بعد أكتوبر. لن نحتفل بالعيد والسويس محتلة يصف عبدالراضى حياة الأسرة فى قنا: كانت الحرب فى شهر رمضان وكان من الطبيعى أن نشترى ملابس جديدة ونصنع الكعك والبسكويت، رفض والدى أن نشترى ملابس جديدة، أو أن نحتفل بأى مظاهر احتفال مادامت السويس محتلة. فى المدرسة اعتادوا فى طابور الصباح أن ينادوا على الطلبة المهجرين لإعفائهم من المصاريف مراعاة لظروفنا، كنت أشعر بالحرج وسط زملائى، كانت والدتى تتوجه شهرياً إلى وزارة الشباب والشئون الاجتماعية فى ذلك الوقت لتصرف معاشاً من الدولة بقيمة 10 جنيهات وقد كان مبلغاً كبيراً فى ذلك الوقت، كان هذا المبلغ صدر بقرار من جمال عبدالناصر كمساعدة للنازحين". يا سادات يا ويكا أخدنا سلاح أمريكا يذكر عبدالراضى أنه كان عائداً من درس عندما رأى الطائرات الحربية تحلق فى سماء المكان وبمجرد أن عاد إلى المنزل تبينت الأخبار بهجوم الجيش المصرى على خط بارليف ونجاحه فى العبور. كان للمهجرين فرحة خاصة، العودة لم تعد مجرد حلماً أو دعاءاً يرددوه فى صلواتهم، يصف عبدالراضى ل «صباح الخير» خبر العبور بقنا: خرجت التظاهرات لمدة 3 أيام وكان المتظاهرون يرفعون صوراً للسادات ، شاركت معهم فى تلك المسيرات، بعض الهتافات كانت تقول (يا سادات يا ويكا أخدنا سلاح أمريكا، بالروح بالدم هنكمل المشوار، هنحارب هنحارب كل الناس هتحارب). عودة إلى السويس «أول ما فتحت السويس بعد حصار ال 100 يوم دخلها والدى وتوجه إلى منزلنا ،فوجئ بأن محتويات المنزل قد سُرِقَت، كحال معظم بيوت السويس، كان حزينا على تلك المحتويات خاصة وأن بها أشياءاً ثمينة كان يعدها لجهاز عمتى. مررت ساعتها بمنطقة «بور توفيق» المواجهة للقنال لم أجد بها بيتاً واحداً قائماً كانت كل بيوت بور توفيق مدمرة وتحولت إلى مدينة أشباح لم يكن يسكنها سوى الغربان والفئران المتوحشة، منزلنا نجى من الدمار، كانت المياه تنقطع بالأيام ولم تكن توجد كهرباء، بسبب قصف العدو لشبكة الكهرباء وتخريبهم لشبكة المياه بعد احتلالها، ومع الوقت أعيد إعمار المدينة». ملحمة قسم الأربعين معركة تحرير السويس 24 أكتوبر التى دارت معظم أحداثها فى قسم شرطة الأربعين الذى احتلته قوات من المظليين الصهاينة، كانت إحدى الملاحم التى سمع بها عبدالراضى وهو خارج السويس:«ذهبت إلى قسم الأربعين لأرى موقع الملحمة التى سمعنا عنها عندما اجتاح العدو قسم الأربعين واستشهد العديد من الأبطال المصريين، مثل الشهيد أشرف عبد الدايم والشهيد إبراهيم سليمان الذى حاول تسلق جدران القسم المحتل من قبل العدو إلا إنه استشهد». السويس مدينة تدافع وتغنى مازالت بعض البيوت بالسويس تحمل آثار العدوان حتى الآن وطلقات الرصاص محفورة بين جدرانها.. كانت المدينة تضرب وتقصف وتدافع وتغنى فى آن واحد، حتى فى أثناء الحصار كان العديد من المغنين والفنانين متواجدين بالسويس وكانوا يغنون لصمود الأهالى، قابلناهم وتواصلنا معهم وكنا نحضر معهم الندوات والمؤتمرات مثل الخال عربى الجوف كان ضريراً يعزف على العود ويردد أغانى الشيخ إمام عيسى والأغانى الثورية وأشعار أحمد فؤاد نجم وسيد مكاوى، آثر البقاء مع المقاتلين والمقاومة ليحمسهم، أذكر أيضاً الكابتن غزالى شاعر المقاومة الذى اشتهر بأغانى أولاد الأرض على السمسمية. منظمة سيناء والعمليات الفدائية لوحات عديدة عاصرها عبدالراضى ، يحكى عن منظمة سيناء التى كانت عبارة عن منظمة تضم مدنيين يدربهم الجيش ويوفر لهم السلاح وكانوا يقومون بعمليات فدائية فى وضح النهار، عبروا خط بارليف عدة مرات ورفعوا علم مصر فى سيناء عام 70 ، كما كانوا يعودون بالأسرى، أحد أفراد تلك المنظمة وهو البطل محمود عواد توفى منذ شهور وهو من رفع علم مصر بسيناء وظل مرفوعاً فى منطقة لسان بور توفيق حتى العبور".ما يؤلم عبدالراضى أن كل آثار الحرب قد أزيلت حتى الدبابات التى نُقلت إلى متحف اختفت تماما الآن.