طارق الطاهر تمر الذكرى ال 114 على ميلاد الأديب الكبير نجيب محفوظ «11 ديسمبر 1911»، وبهذه المناسبة نستعيد جانبا من سيرته ومسيرته، المتعلقة بكونه «موظفًا» لمدة 37 عامًا، متنقلا بين ثلاث وزارات -فى تجربة فريدة فى الحياة الوظيفية- إذ تم تعيينه بداءة «كاتبًا» فى الجامعة المصرية «1934-1939»، ثم عندما تولى الشيخ مصطفى عبد الرازق وزيرا للأوقاف، استعان به فى مكتبه ليتم تعيينه فى هذه الوزارة من 1939 إلى 1957، وبعدها عين فى وزارة الثقافة، بمسماها فى ذلك الوقت «الإرشاد القومى» من 1957- 1971. اقرأ أيضًا| «يوسف القعيد»: نجيب محفوظ كان منظمًا بشكل صارم وصاحب رسالة فى كتاب «الموظف نجيب محفوظ.. سيرة وثائقية عبر 37 عامًا من الأوراق الصفراء»، وهو طبعة متجددة من كتابى «نجيب محفوظ بختم النسر»، حيث أضفت ونقحت العديد من الفصول على الطبعة السابقة، وذلك حينما أتيحت لى وثائق جديدة، وكذلك الاطلاع على حوارات، ركزت على المفاهيم والقيم المتعددة التى اكتسبها محفوظ من الوظيفة، وهو ما أدى به إلى التمسك بها لمدة 37 عامًا، انعكست بلاشك على إبداعاته وشخصياته الروائية، وظهر أثر هذه الرحلة واضحا -على سبيل المثال- فى روايته «المرايا». الوظيفة أحالته للمعاش .. وقيمتها لم تفارقه طيلة «حياته» وأصبح من كبار «المنظرين» لها فى ديسمبر 1980.. بدلا من أن يكتب عن نفسه.. قدم روشتة للدولة المصرية لتجاوز «مشاكل الموظفين» محمد جبريل: محفوظ راعى طقوسه الوظيفية .. بدءا من الحضور والانصراف .. وانتهاء بالاعتناء بوضع الطربوش فوق الرأس أحمد فضل شبلول: التزامه الوظيفى أدى إلى التزامه القرائى والإبداعى نجيب محفوظ قال ل«جمال الغيطانى»: ملت دائما لعدم التفرغ للصحافة من هذه الرؤية يبرز سؤال مهم: ماذا شكلت الوظيفة لمحفوظ؟، ولماذا تمسك بها كل هذا العمر؟ - الإجابة لأن الوظيفة تكاد تكون -بالنسبة لنجيب محفوظ- عالمًا روائيًا واقعيًا، موازيا لعالمه الإبداعى، فيها التقى بأشخاص استحوذوا على اهتمامه وتفكيره، وكان لا بد أن ينعكس ذلك على مجمل مسيرته. من هنا رأيت أن من واجبى أن أضيف هذا الفصل لكتابى «الموظف نجيب محفوظ.. سيرة وثائقية عبر 37 عامًا من الأوراق الصفراء» المنتظر صدوره عن دار فاصلة للنشر، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2026. فى هذا الفصل، الذى أطلقت عليه «فى معنى الوظيفة» تتبعت هذه السيرة الشيقة، والمعارك التى خاضها والاتهامات التى واجهها، ووسط كل هذه الأجواء المعتادة لدى الموظفين؛ أصدر أعمالا خالدة، بعضها هو الآخر، أثار ضجيجا وصخبا، لاسيما روايته «أولاد حارتنا» التى نشرت مسلسلة فى جريدة الأهرام، فى الفترة من سبتمبر إلى ديسمبر 1959، وكان يتولى فى ذلك الوقت منصب «رئيس الرقابة على المصنفات الفنية»، وأبعد عن منصبه بسبب «رواية» أبدعها -أصبحت من أشهر أعماله- وليس لأنه ارتكب خطأ وظيفيًا. فى معنى الوظيفة الكاتب الكبير الراحل محمد جبريل، بحكم معرفته وصداقته ل «نجيب محفوظ» توقف عند المرحلة «الوظيفية» لصاحب «المرايا»، فى أكثر من موضع، منها ما ذكره فى كتابه «زيارة أخيرة إلى حضرة نجيب محفوظ»، مبينا تأثير الوظيفة على هذا المبدع المتفرد: «تقلب محفوظ فى وظائف مختلفة، لكنه ظل على ولائه للوظيفة، واحترامه لها، ومراعاة طقوسها بدءا بالحضور فى الموعد المحدد، والانصراف فى الموعد المحدد، وانتهاء بالاعتناء بزر الجاكتة، ووضع الطربوش فوق الرأس». بلا شك هذا الانضباط المحفوظى، كان واضحا عليه طوال حياته، لكن أحمد فضل شبلول فى كتابه «نجيب محفوظ بلا معطف .. حوارات فى دوريات عربية 1970-1995»، ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما ربط بين التزامه الوظيفى والتزامه القرائى، الذى أثر بلا شك على تكوينه الفريد والمتفرد لقد «أتاحت له وظيفته فى وزارة الأوقاف التى شغلها لمدة 17 عاما، قدرا من الاستقرار، مكنه من القراءة والكتابة، لدرجة أنه قرأ دائرة المعارف البريطانية، وعندما انتقل للعمل فى مكتبة الغورى قضى شهورا من أمتع فترات حياته، حيث قرأ «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست بالإنجليزية، كما أتاحت له الوظيفة التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها، ولم يندم على السنوات الطويلة، التى أمضاها موظفا، فقد كان يقرأ الوجوه البشرية أيضا، وخاصة وجوه الموظفين، ووجوه مرتادى المقاهى التى كان يجلس عليها يوميا، ولعل أعماله الإبداعية مثل «خان الخليلى» و«القاهرة الجديدة» و«حضرة المحترم» و«المرايا» وغيرها قد استقاها من الأجواء الوظيفية التى عاشها، وقرأ فيها وجوه البشر وأحاسيسهم ومشاعرهم المضطرمة والمضطربة، فقد كان نجيب محفوظ يؤمن بأن هناك قراءات أخرى غير قراءة الكتب، ومنها قراءة المجتمع وقراءة أحوال البشر». أما فى كتابه «المجالس المحفوظية» يفرد الروائى الكبير الراحل جمال الغيطانى صفحات عن معنى الوظيفة عند نجيب محفوظ، الذى يذكر له عن قرار وظيفى اتخذه، لكنه لم يستطع تنفيذه، وهو أنه عندما يصل إلى السن القانونية للحصول على المعاش كاملا، سيطلب إحالته للتقاعد، ليتفرغ للأدب، لكنه تراجع عن هذه الفكرة، حتى لا يتأثر مرتبه من هذه المغامرة، وفضل أن يستمر حتى السن القانونية للمعاش، كما أوضح له أنه مال دائما لعدم التفرغ للصحافة، حتى لا تضيع وقته، وبالفعل التحق محفوظ بمؤسسة الأهرام فى عام 1972 بعد أن أحيل إلى المعاش: «دخلت الوظيفة سنة 1934، وجدت انقساما حادا فى حياتى، الوظيفة شىء والأدب شىء، أحببت الوظيفة، وكنت أنوى عند بلوغى السنة التى استحق فيها معاشا كاملا أن أحيل نفسى للتقاعد، لكننى عندما وصلت إلى هذا اليوم، كانت المتطلبات المالية أكثر، فبقيت فى الوظيفة حتى بلوغى السن القانونية». علاقة نجيب محفوظ بالوظيفة، أغرت ناقدا بحجم وقيمة الراحل مصطفى بيومى، صاحب العديد من المؤلفات عن إبداع وسيرة محفوظ، أن يفرد عنها كتابا كاملا بعنوان «الوظيفة والموظفون فى عالم نجيب محفوظ»، تتبع فيه انعكاس عالم الوظيفة على عوالم محفوظ الإبداعية والشخصيات التى نتلمس فيها أنها مستقاة من موظفين حقيقيين عاشرهم محفوظ وتعامل معهم: «لا تخفى الأهمية التى يحظى بها الموظف فى التاريخ الاجتماعى المصرى، ومن ثم فى عالم نجيب محفوظ، الذى يعبر عن هذا التاريخ الثرى طوال الفترة الممتدة منذ ما قبل ثورة 1919، إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين». ويستطرد أكثر مصطفى بيومى فى تتبع شخصيات محفوظ المستقاة من وظيفته: «لن يجد القارئ صعوبة فى اكتشاف أن الأغلب الأعم من أبطال روايات نجيب محفوظ موظفون، أحمد عاكف فى «خان الخليلى» محجوب عبد الدايم فى «القاهرة الجديدة»، حسين كامل فى «بداية ونهاية» كامل رؤبة لاظ فى «السراب»، ياسين وكمال ورضوان وعبد المنعم فى «الثلاثية»، عيسى الدباغ فى «السمان والخريف»، أنيس زكى فى «ثرثرة فوق النيل» وسرحان البحيرى فى «ميرامار»، حامد برهان فى «الباقى من الزمن ساعة»، «إسماعيل قدرى فى «قشتمر»، عثمان بيومى فى «حضرة المحترم»، وهى الرواية التى تصل إلى الذروة فى تجسيدها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين فى الواقع المصرى». ما ذكرته سابقا من الممكن القول عليه أنه الجانب «الإيجابى» للوظيفة عند محفوظ، لكن هناك جوانب أخرى سلبية، منها «غيرة» بعض الكتاب منه، واعتبار وظائفه لاسيما التى تولاها فى وزارة الثقافة، قد أعطته ميزة جعلته يتخطاهم، خاصة فى المجال السينمائى، وهو ما توقف عنده محمد جبريل فى الكتاب السابق الإشارة إليه، حينما ذكر أن أحد الكتاب رأى أن وظيفة محفوظ أحد أسباب الإقبال على أعماله السينمائية، ورغم رؤيته أن هذا الأمر لا يخلو من القسوة -على حد تعبير جبريل- إلا أنه فنده، وروى هذه الواقعة كاملة: «كتب صديقنا الكاتب حسين قدرى عن بواعث إقبال السينما على أعمال بعض الأدباء، وإهمال أعمال أدباء آخرين، وجد أن المناصب المهمة تمثل جسرا بين العمل الأدبى والفيلم السينمائى، دلل على رأيه بأسماء من بينها نجيب محفوظ».ويضيف جبريل أنه يرفض هذا الرأى، ومع ذلك سيقوم بتفنيده، ليبطل دوافعه: «وإذا كان من الرأى الذى لا يخلو من قسوة- حق حسين قدرى، فلعل من واجبى-فى ضوء ما أعرفه- أن أناقش هذا الرأى، وبالذات فيما يتصل بنجومية أستاذنا نجيب محفوظ، أو نجومية منصبه التى دفعت السينما لتقديم أعماله. كان نجيب محفوظ يغلق باب التعاقد على أعماله المأخوذة للسينما طيلة عمله فى وزارة الثقافة، وبالتحديد فى مؤسسة دعم السينما، ثم مؤسسة السينما فيما بعد، كل ما قدمته السينما المصرية من أعمال محفوظ تعاقد المنتجون عليه فى أوقات ابتعاده عن العمل الوظيفى بوزارة الثقافة، بل إنه امتنع حتى عن الكتابة الإبداعية فى فترة رئاسته لمؤسسة السينما». لم يقف الأمر عند نجيب محفوظ إلى فترة توليه «الوظيفة»، إنما تعدى ذلك إلى أن يكون أحد كبار «المنظرين» لفكرة الوظيفة وجدواها فى المجتمع، إذ قدم بشكل واضح من خلال عدد من المقالات رؤيته لكيفية تعيين الخريجين، وسخطه من «البطالة المقنعة» وما وصفه من أن هذه البطالة تؤدى إلى «إرباك حكومى» فى القطاعات التى يكثر فيها الموظفون دونما احتياج.. فمما لا شك فيه أن خبراته الواسعة فى عالم الوظيفة، أهلته ليناقش عبر مقالاته، قضايا تتعلق بالبطالة والقوى العاملة ، وما أطلق عليه ب «الثروة البشرية» وكيفية الاستفادة منها، إذ عبر عن أحوالها بصور إبداعية شتى، وقدم أكثر من روشتة للدولة المصرية، لتجاوز مشاكل «الموظفين»، وتعرض بخبرته لطرح مشروعات لحل مشكلة البطالة، ومن ذلك، هذا المقال الذى يعد تلخيصا لأفكاره الأساسية التى سبق أن طرحها فى مقالاته السابقة من ضرورة الاستفادة بالعناصر البشرية فى أماكن تخصصاتها، لكنه فى هذا المقال، من الممكن أن نصفه أنه سابق عصره، لأنه بوضوح يربط فى هذه الفترة المبكرة بين سوق العمل والتعليم، وقد نشر هذا المقال فى جريدة الأهرام، منذ ما يقرب من 46 عاما، وتحديدا فى11 ديسمبر 1980، والغريب أنه بدلا من أن يكتب مقالا بمناسبة عيد ميلاده، الذى تزامن مع يوم نشر المقال، كتب عن قضية عامة ومصيرية، واختار لها عنوان «مصيرنا بين القوى العاملة»، وهذا نص المقال: «فى ظروفنا الراهنة، ظروفنا العسيرة المعقدة، ونحن نشق فى الصخر طريقا للنمو والنهوض، فى أمس الحاجة لقيمة جوهرية، هى العمل. أملنا فى الخلاص معقود بالعمل، درجة النجاح أو الفشل تتوقف على ما نبذل من طاقة فى العمل. غذاؤنا البدنى والعقلى والروحى لن يتوافر إلا بالعمل. لذلك يجب أن نفكر ليل نهار كيف نستحث قوانا الكامنة للانطلاق فى العمل وإتقانه والاستمرار فيه باعتباره المطلب الملح الأول؟ كيف نحمل الناس على الإيمان به؟ كيف نكافئهم عليه؟ كيف نحاسب المهمل أو الكسلان أو المنحرف؟ ولنوجه العناية إلى القوة البشرية فهى أساس العمل وإعدادها يبدأ مع أول المرحلة الابتدائية، بتزويدها بالتربية الأخلاقية، وتجهيزها بالتدريب العملى، وتوجيهها إلى التخصصات المختلفة تبعا لاستعداداتها، وتبعا لاحتياجات الخطة واحتياجات المنطقة العربية والإفريقية. كما يجب إعادة النظر فى العاملين لإعادة توزيعهم لصالح العمل. المسألة كما ترى لا تخص الخريجين وحدهم، ولكنها سياستنا مع قوانا البشرية، على ضوء متطلبات الفترة العسيرة، وفى ظل التخطيط العلمى والعدالة القومية الكاملة». هذه ملامح من سيرة «محفوظ» الموظف، التى اجتهد فيها، وكان مثالا للانضباط، وقد مثلت له مكونا أساسيا من مكونات إبداعاته، التى استمدها من مصادر عدة منها «الوظيفة» التى لم تبعد عن مخيلته وقلمه طوال حياته.