التباعد الاجتماعى هو عنوان المرحلة التى فرضها علينا الحجر الصحى الذى يعيشه العالم كله الآن بسبب الخوف من انتشار عدوى فيروس كورونا المستجد، ومن الممتع حقًا، أن نتأمل مشاعر وردود أفعال كل منا على هذا التباعد الاجتماعى، البعض أطلقوا طاقات غضبهم وتمردهم، لأنهم اجتماعيون بطبيعتهم، ولا يجدون أنفسهم إلا عندما يلتقون بالناس ويتشاركون معهم الحوار والطعام والحياة. والبعض الآخر أطلقوا طاقات قلقهم وخوفهم، من خلال نشر كل الأخبار المزعجة بإضافاتهم وتفسيراتهم الخاصة المطعمة بالتهويل والتهديد. وهناك من يحاول أن يطمئن نفسه والناس من حوله ويتمسك بأى أمل أو إشارة. بعض الناس صاروا «توأمًا ملتصقًا» بالتليفزيون أو التليفون أو اللاب توب!!!؛ يتابعون طوال النهار والليل الأخبار والبرامج والشائعات فى كل مكان فى العالم حتى أصبحوا منصات إعلامية، تبث بكفاءة عالية كافة مستجدات الفيروس اللعين. السينما آلية دفاع كل منا قرر أن يخترع آلية دفاع عن نفسه وعن الوسط المحيط به، هى فى الأغلب ليست بعيدة عن شخصيته الأصلية، أما أنا وأصدقائى المحبون للسينما فقد قررنا أن نعيش، هذه الفترة، مع «عالم الفرجة والدراما التى لا تنتهى»، فأخذنا نشاهد الأفلام القديمة التى شكلت جزءًا كبيرًا من ذاكرتنا ولغتنا وأسلوبنا فى الحب والحياة فى فترة المراهقة، وبمناسبة ذكرى رحيل عبدالحليم حافظ الثالثة والأربعين، ورحيل أحمد زكى الخامسة عشرة، شاهدنا غالبية أفلامهما، وتذكرنا رومانسية عبدالحليم حافظ وبحور الدموع التى سالت من عيوننا فى فيلمي «حكاية حب والخطايا»، وجمال التفرد والواقعية عند أحمد زكى وخاصة فى تحفة المخرج داود عبدالسيد فيلم «أرض الخوف». وقد اختبرت أيضًا، هذا الأسبوع تجربة سينمائية مميزة، شاهدت فيها عددًا من الأفلام العالمية التى تناولت السير الذاتية لمجموعة من مؤلفى الموسيقى الكلاسيكية أهمهما: فيلم (Amadeus 1984) عن المؤلف الموسيقى النمساوى «موتسارت» (1756-1791). والفيلم الثانى (Immortal Beloved 1994) عن المؤلف الموسيقى الألمانى «بتهوفن» (1770 - 1827). الفيلمان رائعان لأنهما يجسدان للمشاهد العادى فلسفة الموسيقى الكلاسيكية، ليس فقط كلغة وحوار بين أصوات متعددة تصدر عن آلات موسيقية مختلفة، تتفاعل مع بعضها فى انسجام وتناغم، بل هى فى الحقيقة أصوات تتصارع وتتناقض داخل عقل ونفس كل إنسان، والمؤلف الموسيقى الموهوب فقط، هو من يستطيع أن يحولها إلى حوار، وأصوات متناسقة فى عقله أولًا، قبل أن يترجمها إلى مؤلف موسيقى متناغم. .وقد عرض الفيلمان كل النواقص الإنسانية فى شخصيتى «موتسارت وبتهوفن». الأول متهور ولعوب ومحب للهو والنساء. والثانى عنيف ومتقلب وحاد المزاج، وكذلك عرض كل الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيتين. ورغم ذلك فإنك لا تستطيع إلا أن تتفاعل معهما وتغفر نواقصهما وتقدر إبداعهما، وتحبهما أيضًا.. وهذه هى الدراما، إنه نهج فى المعالجة الدرامية يتناقض مع ما دأبت عليه أفلام السير الذاتية عندنا والتى تحول الشخصيات الفنية والسياسية التاريخية إلى ملائكة «بجناحين». عيش السينما يقول عالم الاجتماع الفرنسى الشهير «إدغار موران» فى كتابه «نجوم السينما» الذى ترجمه للعربية أ.ابراهيم العريس: «إن التماهى الذى يولد داخل صالة السينما مع شخصية البطل أو البطلة قد يستمر خارج العرض.. كما قد يصبح معاشًا إلى درجة تجعله يحدد بعض ضروب السلوك». المحاكاة مع أبطال الأفلام (الرجال والنساء) تجربة مر بها أغلب المشاهدين للسينما فى كل مكان فى العالم، وهى التى تجعلنا نكرر الكثير من التعبيرات اللفظية والحركية السينمائية فى حياتنا اليومية، وتجعل الشباب والشابات يحلمون بعلاقات عاطفية مع نجومهم المحببين ويقلدون أداءهم فى التعبير عن الحب والهزار والغضب والضرب، وكذلك طريقتهم فى الأزياء، وقصات الشعر، والماكياج، نظرية محاكاة «البطل والبطلة» أنعشت صناعات: أدوات التجميل والأزياء وعمليات التجميل حول العالم، كما استفاد منها عالم الدعاية والإعلان الذى دأب على ربط أى سلعة بنجم أو نجمة سينمائية لضمان تسويقها وجلب الأرباح. السينما هى الخيال الذى يتحول إلى واقع معاش، بتفاعلها مع عقل الإنسان وروحه وضميره، وجميع مكونات الحضارة التى أنتجها من قيم وأفكار واتجاهات فى الحياة وسلوكيات وعلاقات إنسانية وسياسية وصناعات وتجارة ودعاية. قد نشعر هذه الأيام بأن حياتنا مملة رتيبة. السينما هى حل هذه الأيام، السينما تجعلنا نحلم وننسى قسوة الواقع ونعالج أرواحنا، ومعها نعيش حياتنا القصيرة آلاف المرات فى أماكن ولغات ومغامرات وتواريخ مختلفة، عندما نعيش فى عالم الفرجة ونتماهى مع أبطال الأفلام وحكاياتهم؛ نحب ونكره، نخلص ونخون، نزهد ونطمع، نكون شجعان و جبناء، نبلاء وحقراء، أحرارًا وعبيدًا، أبرياء ومجرمين، فى هذه الأوقات، نتعرف على حقيقتنا بغير تزييف أو ادعاء، لأننا نعيش كل هذا ليس كأنه الحقيقة بل الحقيقة ذاتها. «بحب السيما»، وبحب كل الذين يحبونها...ويعيشونها.