فى هذا الوقت العصيب الذى نمر به، بسبب فيروس «كوفيد19» الذى اجتاح العالم.. أصبح الأطباء والباحثون والعاملون فى المجال الطبى هم خط الدفاع الأول، أو الجيش الأبيض كما أُطلق عليهم.. وهو ما جعل الكثيرين يستشعرون أهمية العلم والعلماء، ويتأكدون أن دعم البحث العلمى ضرورة وليس رفاهية!.. ولكن على التوازى حدث هجوم من البعض على الفن، وتسفيه منه!.. وانتشرت أقاويل من قبيل، أن الاهتمام بالعلماء والأطباء أولى من الفن.. وانتهز البعض الفرصة لإنتقاد الفنانين، والأجور الباهظة التى يتقاضونها.. وعبروا عن استيائهم من ظهورهم بحملة «خليك بالبيت»، وطالبوهم بأن يتواروا فى تلك الظروف.. وهو ما جعل بعض الفنانين يتفاعلون مع متابعيهم على مواقع التواصل، ويردون على منتقديهم بهجوم متبادل!... ورغم أن أغلب نجوم الفن خذلونا خلال السنوات الأخيرة.. ولم يؤدوا دورهم المنتظر، سواء باختيار أعمال على قدر المسئولية، أو بالوقوف مع الدولة أسوة بكبار الفنانين القدامى.. إلا أن شعور الكثيرين بأن الفن رفاهية، لا تتناسب مع الوقت الحالى؛ ذكرنى بالفيلم الأمريكى «الفلاسفة»أو «بعد الظلام».. والذى يحكى عن تجربة خيالية يجريها أستاذ للفلسفة فى حصته الأخيرة، مع طلابه فى السنة النهائية بالمدرسة، قبل التحاقهم بالجامعة، كى يعرف قدراتهم على استخدام المنطق الذى تعلموه خلال السنة.. وتبدأ التجربة التى يختلط فيها الخيال بالواقع فى ذهن المشاهد، بعد أن يتخيل الطلاب مع الأستاذ، تلوث الهواء بسبب كارثة ذرية، ووجود ملجأ أو(مخبأ) مصمم كى يحمى عشرة أشخاص فقط لمدة عام.. والمشكلة أن عدد الطلاب عشرين بالإضافة للأستاذ!.. وبالتالى فالتجربة تتطلب اختيارهم لعشرة فقط من بينهم باستخدام المنطق، ويوجه للباقون رصاصات الرحمة!.. مع العلم بأن إضافة واحد فقط تعنى الاختناق، لأنهم حتى إن استطاعوا مشاركة الأسٍرة والأطعمة واللوازم، فإنهم لن يتمكنوا من مشاركة الأكسجين!.. فيطلب الأستاذ من كل منهم اختيار ورقة من صندوق بشكل عشوائى، تتضمن المهنة التى يفترض أنه يمتهنها مثل: عالم كيميائى، ومزارع حيوى، وجراح، ومهندس، وشاعر، ومغنية أوبرا، وعازفة هارب، وكهربائى، ورائد فضاء، ومصمم أزياء، وصانع أيس كريم.. أما الأستاذ فعليهم تخمين مهاراته، وإن كانوا فى حاجة إليها أم لا.. تبدأ المنافسة بين الطلاب لإثبات جدارة كل منهم وأهميته حتى ينال فرصة النجاة.. ولكن يسبقهم الأستاذ بتوجيه أول رصاصة فى الرأس للشاعر!.. لتأكده أن مهاراته عديمة الفائدة!.. وتتوالى الرصاصات للمهن الإبداعية، ومن وجدوهم بحسبة المنطق عديمى الفائدة!.. ويقرر الطلاب الاستغناء عن الأستاذ أيضًا، لأن قتله لزملائهم جعلهم يرفضون وجوده بينهم.. فأغلقوا باب الملجأ فى وجهه وتركوه فى الخارج، حتى يفاجأوا بعد انتهاء العام، بأنه الوحيد الذى يعرف الرقم السرى لفتح الباب مجددًا!.. فيموتون فى الملجأ، ويبدأون التجربة من جديد.. ولكن بإضافة بعض المعلومات فى كل بطاقة مع المهنة، مثل: النجار عقيم، المزارع العضوى مثلى، تعرض الجراح لفيروس إيبولا، مغنية الأوبرا تتحدث 7 لغات، لكنها ستصاب بسرطان خلال ثلاث سنوات.. فيكون تفكيرهم مرتكزًا على كيفية حفاظهم على البقاء، وعدم الانقراض بعد انقضاء العام.. حتى يصلوا لنتيجة أن النساء يجب أن يكون لهن شركاء متعددين!!حتى تزيد فرص الحمل والإنجاب.. وحين ترفض إحداهن، يطلق الأستاذ الرصاص عليها.. فتقوم مشاجرة واقتتال بينهم، وتنتهى الجولة الثانية من التجربة بالفشل.. يقررون القيام بجولة أخيرة للتجربة، وتتولى إحدى التلميذات زمام الأمور، فتقرر إنقاذ من تم الاستغناء عنهم فى الجولة الأولى مثل: العازفة والمغنية والشاعر.. فيقضون عامًا مليئًا بالإبداع والسعادة والمرح.. ورغم رفض الأستاذ لتلك الاختيارات، لأنهم ليس لديهم الكثير من مهارات البقاء، إلا أنهم يجيبوه بأنهم لا يبالون «وعندما يحين وقت الموت لن نقاومه بل نستدعيه».. فكانت الجولة الأخيرة التى اعتمدت فى قوامها على الفنانين والمبدعين هى الأنجح!!حيث قضوا ما يفترض أن يعيشوه بأفضل ما يكون.. فالفن والإبداع يحلق بنا نحو الخيال، فيجمل الحياة ويشعرنا بجمالها، ويمكن أن يغير الواقع أو يغيرنا للأفضل، ويجعلنا أكثر قبولا لظروفنا وحياتنا الفعلية التى ليس بإمكاننا تغييرها.. فمهما بلغ تقديسنا للعلم، لا يمكن أن يغنينا عن الفن، أو يكون بديلا عنه!!.. وليت من يجهل قيمة الفن أو يستهين بها الآن، يتأمل المفارقة الغريبة، بأن العديد من الدول المتقدمة التى تعانى الآن شراسة الوباء، لم تبخل على البحث العلمى، وربما كان الأكثر حظًا فى ميزانيتها، ومع ذلك لم ينقذها من الوباء!!.. ليس معنى هذا أن نظل مستهترين بالعلم وأهله، بل على العكس دعم العلماء والبحث العلمى ضرورة لا شك فيها.. ولكن دون أن نغفل قيمة الفنون، وتأثيرها فى تشكيل الوعى والارتقاء بالوجدان.. بالتأكيد هناك فجوة شاسعة بين ما يتقاضاه بعض الفنانين ولاعبى الكرة والإعلاميين، وبين الفتات التى يتقاضاها العلماء والباحثون والأطباء وأساتذة الجامعة، ولكن هذه الأجور الباهظة المسئول الأول عنها هو الجمهور، والذى يصنع النجومية وحجم المشاهدات التى تستغل تجاريًا!!.. بالطبع نتمنى من الدولة تخصيص ميزانيات أكبر للبحث العلمى، ودعم كوادره، من علماء وأطباء وباحثين وأساتذة جامعات.. إلا أننا نتمنى أيضًا دعم الفنون الجادة.. فليس معنى تراجع الفن فى السنوات الأخيرة، والتأثير السلبى لبعض الأعمال الفنية والفنانين، أن نفقد إيماننا بالفن ودوره!.. فالفن أمن قومى.. إلى جانب أنه صانع البهجة والمتعة التى تستحيل الحياة السوية دونهما، فالفن حياة.. لو تعلمون!.