حين طلبت من الأديب نهاد شريف إجراء هذا الحوار، كان يعاني ظروفا صحية قاسية، وظل يترقب نشره علي شغف، لكن القدر كان أسرع منا جميعا.. لذا نرسله تحية لروحه، لعلها تسعد برؤيته، وعزاء لأسرته الكريمة. كان الراحل يجمع بين مجموعة كبيرة من المهارات العملية والإدارية والأدبية، حيث أدار قسم الثقافة والإرشاد في "مديرية التحرير"، المشروع الذي اعتزت به ثورة 23 يوليو، وعمل صحفيا في القسم العلمي بمجلة "آخر ساعة" من 1954 إلي 1957، ومتحدثا باسم هيئة الإصلاح الزراعي، حتي اختطفته حرفة الأدب، وجذبه الخيال العلمي. ولد نهاد شريف، في محرم بك بالإسكندرية عام 1930، وانتقل مع الأسرة إلي حلوان الحمامات، حيث اجتمع العلم والفن والأدب.. فوالده الفنان التشكيلي "منير إبراهيم شريف" حفيد "محمد شريف باشا"، رئيس وزراء مصر ومؤسس الدستور المصري. وكان عمه الأول شاعرا، والثاني يعشق زراعة الزهور، وقضي فترة الصبا بين مكتبتي الجد والأب، والصالون الثقافي الذي جمع أصدقاء والده من الفنانين والشعراء ورجال الدين، وتعمقت معارفه وآراؤه، وتبلورت موهبته الأدبية. حاز لقب عميد "كُتّاب أدب الخيال العلمي" في الوطن العربي مع أنه لم يدرس العلوم، فقد تخرج من قسم التاريخ بآداب القاهرة، غير أن عشقه للعلوم دفعه لتكوين ركن خاص لأدب الخيال العلمي، ضمن مكتبة تضم "مائة ألف مجلد".. ونوقشت تنبؤاته العلمية في العديد من المجلات والصحف والإذاعات العربية والأجنبية. - بداية ما أدب الخيال العلمي؟ وما القضايا التي يناقشها ؟ **أدب الخيال العلمي هو الذي يتناول الأفكار والتصورات العلمية الحاضرة والمستقبلية، والجهود التي بذلها الإنسان منذ القدم، ويناقش كل ما يمكن أن يفعله التفكير العلمي، لصالح البشرية في الطب والكيمياء والصناعة والاتصالات، وغيرها.. إلى جانب اكتشافات ومخترعات لا حصر لها، شملت كل كبيرة وصغيرة في حياة الإنسان واستخداماته والدفاع عنها، أقربها ما لحق بالإلكترونيات من تطور مدهش، عقب هبوط الإنسان على سطح القمر. - ما الجذور الأولى لأدب الخيال العلمي ؟ ** أدب الخيال العلمي فن عربي أصيل بالرغم مما يقال عنه، إنه مستلهم ومأخوذ عن الغرب لكن في تقديري ومن خلال قراءاتي وأبحاثي، اكتشفت العديد من الإسهامات للكتاب العرب. - مثل ماذا ؟ ** هناك الكثير من الأفكار العلمية التي تم تسجيلها وتنبأت بما يشبه أدب الخيال العلمي، ومن أبرزها تجربة "عباس بن فرناس" في الطيران فكانت الطائرة، والبروفيسور الأمريكي "تيري سيزار" أستاذ الأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا أصدر كتابا عن "رواد أدب الخيال العلمي"، اعترف فيه بفضل العرب فى تأسيس هذا الحقل، فالجذور الأولى لأدب الخيال العلمي أو -لو قلنا أنماطه المبكرة- كانت نوعا من الأساطير، التي لم تكن مجرد خيالات وأوهام قصصية، إنما اعتبرت -وماتزال- محاولات جادة من المجتمعات الإنسانية القديمة، لتفسير ظواهر الحياة والطبيعة والكون، أي إن الأسطورة كانت نوعا من التفكير العلمي لدى الإنسان القديم، أدت إليه عوامل الرهبة والخوف من المجهول، إلى جانب النزعة الملحة للمعرفة، التي تبلورت بعدئذ في صورة أدب الخيال العلمي في أيامنا هذه، وهو تعبير عن أحلام البشرية وتفاعلها من التقدم العلمي، وما يقودنا إليه في المستقبل، عبر تصورات لم تعرف بعد. - كثير من أدباء الخيال العلمي يعيدون كتابة العديد من الأفكار السابقة.. فكيف تري التكرار ؟ ** أقول لهؤلاء إن أدب الخيال العلمي هو أدب ملتزم، وإنساني، خصوصا لدى مجموعة معينة من رواده وكُتّابه، وأنا واحد منهم، وكما نرفض عبث هؤلاء الكتاب، نرفض تماما عبث بعض العلماء بمستقبل البشرية، الذي قد يؤدى في النهاية إلى فنائها بالقنابل النووية، والمواد الكيميائية التى تهدد حياة كوكب الأرض. -من ركائز أدب الخيال العلمي الثقافة العلمية التى تمثل قاطرة نهضة وتقدم أي مجتمع.. فهل ثمة ما يمكن أن يقدمه أدب الخيال العلمى فى مجالي التصنيع والاكتشافات العلمية ؟ **الثقافة نظرة عامة للوجود والحياة والبشرية، وواقع الإنسان المعيش، وقد تأثر هذا الواقع وتطورت حياة البشر بأشكال مذهلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بالذات، عقب الحرب العالمية الثانية، وتنمية للمتغيرات الضخمة والجذرية، التي أحدثها العلم الحديث في حياتنا الاجتماعية، في الطب وهندسة التشييد، والتصنيع والمواصلات والاتصالات، وأيضا الفنون، كالسينما والمسرح والموسيقى، فلا شك أن التأثير كان مباشرا وعميقا على مفاهيمنا وسلوكنا ورد فعلنا، من هنا كانت الثقافة العلمية الشاملة، النطاق الواسع والوعاء الذي يحوي أحلامنا وطموحاتنا الأدبية، ويحولها إلى واقع، وأدب الخيال العلمي قائم على هذا الأساس العلمي، وقد تعلمنا من تجاربنا السابقة والمتعددة أن الأدب الحقيق،ي هو الذي يتعامل مع الواقع المعيش، ويبرع في نقل ملامح من حياة الناس وعلاقاتهم، ويغوص في أعماق النفس الإنسانية.. باحثا عن الجوهر، والأدب الملتزم يطمح لتغيير الواقع نحو الأفضل، وهو ما يسعي إليه أدب الخيال العلمي طوال الوقت عبر التصورات التي يتخيلها، ثم يحولها العلم إلي واقع، ويضعها بالفعل في خدمة الإنسان لتسهيل حياته. - يشير بعض الدراسات إلي تراجع شديد فى أعداد الدارسين بالتعليم الفنى والعلمى.. فهل ينعكس هذا علي التفكير العلمي في المجتمع؟ وكيف يمكن مواجهة هذه الحالة ؟ **هذا أمر يدعو إلي الحزن الشديد، فإذا قلنا إن الدراسات الأدبية والنظرية بشكل عام تعمل على بناء فكر الإنسان وثقافته، فالدراسات العلمية والعلوم التطبيقية تعمل على بناء عقل الإنسان، جوهره الكائن البشرى، أما عن كيفية مواجهة هذه الحالة فهناك وسائل عديدة، أولاها الاهتمام بالثقافة العلمية فى مراحل التعليم المختلفة، واستخدام وسائل الإعلام في الترويج لها من خلال برامج علمية، يشرف عليها متخصصون وإصدار مجلات علمية متخصصة تناسب كل الأعمار وتعمل على تبسيط العلوم، حتى يقبل عليها النشء في نوادي العلوم والمراكز البحثية وفى المكتبات العامة، ومكتبة الأسرة من أفضل مصادر هذه الثقافة عبر المهرجان السنوي للقراءة للجميع، وأنتهز هذه المناسبة وأدعو القائمين علي هذا المهرجان إلى تخصيص جزء كبير من إصداراته للمؤلفات العلمية، وأن ينظموا له مسابقات، ويخصصوا له جوائز للتحفيز والتشجيع، خاصة أن هذا المشروع العظيم الذى تشمله السيدة الفاضلة، حرم السيد رئيس الجمهورية برعايتها، صادف نجاحا كبيرا، وخلف جيلا قارئا، ونحتفل هذا العام بمرور عشرين عاما على بدء انطلاقه. -أدب الخيال العلمي محض خيال.. أم فيه حقائق علمية ؟ **دعني أقول لك إن كاتب الأدب التقليدي يحتاج لورق وقلم ومكان هادئ يجلس فيه ليكتب أعماله، أما أنا ككاتب خيال علمي فلا أتمتع بهذه الرفاهية، لأنه يحتاج باستمرار لمراجعة الفكرة العلمية، التي أريد كتابتها بقراءة التفاصيل، والبحث فيها لدرجة أنني خلال مقابلاتي واطلاعي على بعض كتب الخيال العلمي للأجانب، وجدت لديهم مصادر رهيبة من المكتبات يلجأون إليها وإذا لم يجدوا ضالتهم فيها فلابد من وجود مستشارين لهم، ومن هنا بدأت بتكوين فريق من المستشارين فى الطب والشئون العسكرية، ألجأ إليهم أثناء كتابة أعمالي في أدب الخيال العلمي، كما أراه قابلا للتطبيق السهل والمباشر للقارئ المتبحر في العلوم، لأنه أدب يعتمد على الحقائق العلمية لا على الخرافات والأوهام، وهو يعتمد أساسا على فكرة منطقية وإمكانية التحقيق مستقبلا، كما أن هناك قواعد تحكم كاتب الخيال العلمي، لا يجب أن نحيد عنها أو نتجاوزها، وأضيف أن كثيرا مما ورد في كتابات الخيال العلمي من أفكار ورؤى مستقبلية، اطلع عليه كثير من العلماء وأخضعوه لتجاربهم وأبحاثهم، وخرجوا بإنجازات عديدة لخدمة البشرية. -من وجهة نظركم.. هل أدب الخيال العلمي مازال مزدهرا ؟ **ازدهار أدب الخيال العلمي جاء محصلة لمناخ احترام العلماء، وتوظيف اكتشافاتهم والترويج لها بين أفراد المجتمع ككل عبر وسائل الإعلام، الأمر الذي حرر خيال الكاتب وخلق لدى القارئ ذائقة تستمتع وتقدر هذا الجنس الأدبي، فواقع أدب الخيال العلمي مرتبط بواقع العلم الراهن وبوصفية الثقافة العلمية وبالأجواء التي يتم فيها التعامل مع العلم. -قدمت تسع روايات وثماني مجموعات قصصية ومسرحيتين بجانب دراسات فى الخيال العلمي.. فما مشاريعك الجديدة ؟ ** مشروعاتى كانت فى البداية تنصب على كتابة المزيد من مؤلفات الخيال العلمي، أما الآن فالأهم أن أجد شبابا يهتمون بالخيال العلمي ولديهم القدرة علي خوض تجربته، فنشر هذه النوعية من الأدب الجديد مهم جدا، وبابي مفتوح لمن يرغب من الشباب، ولن أتردد في الجلوس معهم وتشجيعهم، وأحيانا أتوسط لدى بعض أصحاب المكتبات ممن تربطني بهم صداقة متينة لتخفيض بعض كتب العلوم للشباب. - كيف تشكلت لديك بوادر التعلق بأدب الخيال العلمي ؟ **هناك عاملان أساسيان أبرزهما يرجع لنشأتي الأولى في حضن جدتي لوالدي، فقد استطاعت جدتي السيدة الوقور، التي طالما أخفي الحجاب قسمات وجهها الحلوة الباسمة، والتي حوت ذاكرتها أكثر القصص إثارة وغرابة وتشويقا، من مصباح علاء الدين، إلى رحلات السندباد، وساير الجني، وبساط الريح، والحيوانات المتكلمة، والبلورة المسحورة، والحجارة الناطقة، وغيرها من القصص، وإنني لأتخيلها الآن تتشح بشالها الموشي الحواف، وهى تقص على بصوتها الهادئ العميق واستكنت فى حضنها طفلا في الرابعة أو الخامسة تنسال أمامه دنيا الخيال والأحلام والرؤى المدهشة، وكانت لديها قدرة فذة وهى لا تحمل أي مؤهل دراسي، على رواية أي قصة بأكثر من صورة، حتى لا ينتابنى السأم، فكانت تضيف بعض التفاصيل الصغيرة الجديدة في كل مرة، مما خلق لدى القدرة على تعدد الرؤى، فهي كانت تمتلك رؤية إبداعية وعلمتني فن الحكى، وعندما قرأت حكايات ورحلات سندباد بعد سنوات اكتشفت أنها كانت تؤلف حكايات تفوق النصوص الأصلية. ويتركز العامل الثاني في مكان النشأة، حيث أقامت الأسرة في حلوان، وحين بلغت الرابعة عشرة، وجدت متعتي في مراقبة السماء بالمنظار من شرفة بيتنا، وكانت متعتي الكبرى في الذهاب مع قريب لي، كان يعمل في مرصد حلوان حيث تابعت في هدوء واهتمام مناقشات بعض علماء المرصد، وظلت هذه التجربة الفريدة عالقة فى نفسي حتى قمت بتسجيل آثارها في روايتي الأولى "قاهر الزمن"، التي تدور أحداثها في مرصد حلان، وأقول إن تعلقي بالفضاء جعل السماء موضوعا أساسيا من كتاباتي، وترسيخا لإيماني العميق بوجود حضارات أخرى على الكواكب التي تملأ الفضاء، وسيأتي يوم يحدث فيه اتصال بين الإنسان علي الأرض والكائنات علي هذه الكواكب، وغير ذلك مما سجلته في روايتي "أين النجوم " التي تدور أحداثها حول هذا اللقاء وثماره. فكرت في المرحلة الثانوية بالالتحاق بكلية الطب لكن ظروفا ما منعتك من هذا مع أنه كان سبيلا للتحليق في مجال العلم .. فما تفاصيل هذا الموضوع ؟ ** هذا صحيح، فعلى الرغم من نشأتي الأدبية والثقافية التي أشرت إليها، إلا أنني فكرت في دخول كلية الطب، لأصبح طبيب العائلة، لأسباب تتعلق بالتاريخ المرضى للعائلة، التي تعانى بشكل وراثي على فترات متقاربة، "تكون حصوات في الكلى" وقد توفى جدي خلال جراحة لاستخراج بعض هذه الحصوات، ففكرت في التخصص بالمسالك البولية، وبالفعل قدمت أوراقي في القسم العلمي، لكن الرياح أحيانا تأتى بما لا يشتهي السَفن كما يقول المتنبي، فقد أصبت إبان إجازتي الصيفية بالتهاب رئوي حاد، أضر بصحتي، ولم يكن العلاج متطورا آنذاك، وكانت " السلفا" هى العلاج المتاح، مما فرض علي الجلوس شهرا كاملا للعلاج، واضطر الطبيب لأن يبيت على السرير المقابل لسريري ليلة كاملة، ومنعت من ممارسة أي نشاط بدني، مع حرماني من الدراسة الجامعية عاما كاملا، وتركت حادثة المرض هذه أثرا كبيرا في حياتي الشخصية، والإبداعية، لكنها وضعت قدمي علي بدايات طريق التخصص في الكتابة الأدبية ذات المنحى العلمي، وعلى المستوى الإبداعي وظفت المرض الوراثي للكلي في رواياتي وقصصي، وحقق إبداعيا ما كنت أرجوه من دراسة الطب للقضاء على هذا المرض، مثل قصة" الماسات الزيتونية "، التي توصل بطلها الطبيب لتحويل هذه الحصوات إلى ماسات.. مما حقق الاستفادة على مستويين، الأول الاستفادة من بيع الماس، والثاني سهولة خروج الحصوات بالقضاء على أطرافها المدببة، وفي روايتي " الشىء" كان البطل مصابا بمرض حصى الكلى، وأيضا في روايتي "سكان العالم". -من كان لهم أثر طيب في دعم مسيرتك الأدبية في مجال الخيال العلمي ؟ ** نعم.. بكل اعتزاز أذكر أستاذي الراحل "صلاح جلال"، رئيس القسم العلمي، ومؤسس نوادي علوم جريدة "الأهرام" نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، فقد وقف بجانبي مؤيدا ومشجعا لى وموجها أمينا، بعدما اقتنع بصدق تجربتي في كتابة الخيال العلمي، والشخص الثاني الذي اعتز به وأذكر له الفضل هو الأديب الراحل يوسف السباعي، الذي احتفل بروايتي الأولى " قاهر الزمان" ومنحنى الميدالية الذهبية وألحقنى بوظائف تتبع مؤسسات ثقافية تحت إشرافه، والشخص الثالث هو الأديب الكبير يوسف الشاروني، الذي يعتبر أول من قدم نقدا أدبيا للخيال العلمي، فلهم جميعا التحية والتقدير.