الجد والجدة أشبه بكفتى الميزان.. كفة من الحنان وأخرى من الحب والعكس بالعكس وهما متهمان بالتدليل الزائد وإفساد الأحفاد، ورغم هذا يمثلان تلك المظلة التى تبدو كشجرة وارفة مثمرة «تظلل» على الأبناء.. وتخفف عناء الحياة على الآباء والأمهات.. بالكلمة الطيبة والدعم المعنوى الدائم والمادى فى أحيان كثيرة. واختلفت صورة الجدة والجد من زمن إلى زمن وأيضًا من مكان إلى مكان.. بفعل البعد والاغتراب.. واختلف الاتصال وانتقل من التواصل الحميم.. إلى التواصل الإليكترونى فى عصر الميديا الحديثة. لا أتذكر جدى وجدتى لأمى فقد رحلا مبكرًا.. هو قبل أن أولد أما هى فكنت فى «اللفة» حين غادرت الحياة!. جدى لأبى لا أنسى جدى لأبى، هذا الرجل عالى الهامة طويل القامة كنت «أمط» رقبتى وأتطلع لأعلى لأنظر إليه.. فى هذه السن الصغيرة وكان يبدو بالنسبة لى كائنًا أسطوريًا بفعل ضآلتى وضخامته، عشت معه أجمل سنوات طفولتى المبكرة «وكنا فى بيت واحد ».. رحل عن عالمنا وأنا فى السادسة.. كنت الابن الأوسط بين إخوتى الأربعة قبل أن يجىء اثنان بعد رحيله.. وما زلت أتذكره بملامح غائمة.. أشبه بصورة شمسية خافتة الظلال.. وأتذكر حنانه وحبه لى ولا أدرى لماذا كنت الأقرب إليه، ربما لأننى كنت ضعيف البنية، وكان كل عالمى فى الطفولة رغم وجود أبى. ذكرياتى معه تؤكدها دائمًا أمى لطغيان محبته لى، فى عز البرد أخرج معه يلفنى فى عباءته ويطوقنى بذراعيه، وينتقل بى داخل قريتنا الصغيرة من البقال إلى الحلاق إلى أصحابه، وإلى المدينة يصحبنى معه، وفى كل مرة ومن كل مكان، أعود معه بالحلوى واللعب ولا أنسى يوم أن أخذنى إلى الحضانة قبل المدرسة وأودعنى لدى أبله «نجات» المشرفة.. وعندما رأيت وقتها هذا الجمع من الأطفال انخرطت فى البكاء، كنت مذهولاً فى اليوم الأول، وكان هو بالخارج خلف الباب، فجأة انتشلنى من بين الجميع.. وقال فى صيحة مدوية «بلا حضانة بلا غيره».. إحنا حنوديه المدرسة أما يكبر.. وعدت فرحًا رغم استياء أمى. وظل دائمًا هذا الرجل الأسطورى فى حياتى فى تلك السنين التى مرت كالبرق كالأحلام، كان رجلًا طيبًا حافظاً للقرآن يتلو آياته بصوت عذب كما كان يردد تواشيح الشيخ الجليل طه الفشنى ومن بينها: «ما شممت الورد إلا زادنى شوقًا إليك.. وإذا مال غصن خلته يحنو عليك» و«يا أيها المختار لمدحه ماذا أقول.. ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة.. سمّاك ربك فى القرآن محمدًا.. زانت بك الرسل الكرام».. فى تنغيم جميل. وكان محبًا لمن حوله.. خاصة جيرانه الذين يؤثرهم ببعض ما تجود به الأرض مثلما يؤثرونه، فى تبادل ينم عن الكرم والمودة وعمق المشاعر. جدتى حكت لى جدتى وكل جدة.. أيقونة خاصة فى الحنين إلى كل ما هو جميل وبديهى وخيالى وحالم، والحنان بالهمسة واللمسة والنظرة، وهى بحر صاف رائق فى محبتها لأعز الولد من أحفادها، خرجت جدتى ذات يوم حاملة أختى الصغيرة بعد فترة نقاهة من الحصبة كنوع من الترويح، وتاقت نفس الصغيرة إلى الطعمية وبحنانها الزائد لبّت طلبها وهمست إليها «بس اوعى تقولى لحد! أنت لسة يادوب فى طريق الشفاء!».. وعندما عادت إلى البيت ارتفعت حرارتها وعاودها المرض.. وبذكاء أمى وفطرتها.. عرفت منها وظلت قلقة عليها ومعها جدتى.. التى جزعت أشد الجزع حتى شفاها الله!. عندما كنا صغارًا.. فى المساء كنا نلتف حول جدتى ونقول فى إلحاح: احك حكاية يا جدتى، ولا ندرى من أين جاء هذا النبع الرائق من الحكايات، وتبدأ فى كل مرة: كان ياما كان.. يا سعد يا إكرام.. ما يحلا الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام.. ونردد بعدها عليه الصلاة والسلام.. وبعد أن تبدأ ينام من ينام فى خدر لذيذ وأظل أنا ساهرًا حتى تنتهى، والعجيب والمدهش أن حكايات الجدات كانت تتناقل من جيل إلى جيل وهى معروفة.. مثل العنزات والذئب وأمنا «الغولة» وكيف تغلب عليها عقلة الإصبع.. وست الحسن المتنكرة فى رداء من الخشب، والعجيب أيضًا أن أصداء حكايات الجدات يتردد رموزها من الشرق إلى الغرب، ولعلنا هنا نتذكر «ذات الرداء الأحمر».. للكاتب الفرنسى «شارل برو» والتى صدرت 1698 وفى القرن التاسع عشر أعاد كتابتها الأخوان الألمانيان «جريم»، وكانا قد جمعا الحكايات الشعبية من أفواه الأجداد والجدات فى كتاب ضخم يعد من كلاسيكيات أدب الأطفال. ولشهرة حكايات الجدات، صدر عن دار المعارف للأطفال عشرة كتب فى سلسلة «جدتى حكت لى» لاثنين من رموز أدب الأطفال بعد كامل كيلانى: محمد أحمد برانق ومحمد شفيق عطا.. وهى حكايات خيالية عصرية من بينها «ماء الشفاء» و«الطائرالفضى» و«مناظر الحوريات» و«أطفال البحر» و«أميرة الورد الأبيض». يقول المؤلفان: «هكذا تحكى لنا جدتنا قبل أن ننام!.. أنها مجموعة من القصص سهلة الأسلوب ميسرة المعنى، مسلية مفيدة، تجعل من أحلامنا عالمًا من الخيال والمتعة، وستجد يا صديقى الصغير، فى هذه الحكايات ما يجذبك إلى عالم القراءة، وما ينمى عقلك وتفكيرك وما يجعلك إنسانًا نافعًا لمجتمعك». يوسف لم أكن أعرف هذه «المعزية» الخاصة التى يحملها الأجداد للأحفاد.. إلى أن جاء يوسف ابن ابنى الأصغر.. إنه عالم آخر يفوق حب الأبناء.. وهو بالتعبير الشعبى «أعز الولد.. ولد الولد».. يوسف عمره حاليًا عامان وشهور «بارك الله فى كل الأبناء والأحفاد».. لم أره حتى الآن فهو مع والديه خارج البلاد ولكنه أشاع البهجة فى حياتنا.. أتواصل معه يومياً بالصوت والصورة عن طريق «الإنترنت» ومعى جدته.. ونسعد كثيرًا بنطقه للكلمات: «ددو» و«تته» و«نية».. يعنى الأغنية، وهو عاشق لفيديو «بيبى شرك القرش الطفل -عاشق للصوت والتحريك والموسيقى وبهجة الألوان وحركة الأسماك الصغيرة والقرش».. وهى لغة يرددها كل الأطفال الصغار فى مثل سنه.. محببة على قلب كل الأجداد والجدات. فى الفن العالمى اشتهر الفنان الإنجليزى فردريك مورجان «1847 – 1927».. بلوحاته العديدة التى تمتد من رسومه للأطفال والآباء والأمهات إلى الأجداد والجدات ومعها رسومه للمشاهد الريفية والمناظر التى تنتمى للمدينة وأيضًا الحيوانات. ولفريدريك لوحة «عيد ميلاد الجد» صور فيها خمسة أطفال فى ملامح من النبل والجمال كل منهم يحمل هدية للجد.. صورهم على الباب بصحبة كلبهم الذى يبدو أيضًا بنظرة فرحة.. بينما يقف الجد أمامهم على بوابة البيت وكأنه يهم بفتحها استعدادًا لدخول حبات القلوب إلى بيته بعد أن دخلوا وجدانه من قبل.. اللوحة تشع بالفرج والبهجة والتفاؤل. وله لوحة «سر عظيم جدًا جدًا» صور فيها طفلة صغيرة فى حضن جدتها تبثها هذا السر فى أذنها اليمنى.. مما يؤكد حبها وثقتها فى الجدة بعيدًا عن أبويها. أما الفنان البولندى «جوليوس شولتز 1825 – 1893» فله لوحة أنيقة اللمسة صور فيها الجدة مع حفيدتها الكبرى بدقة ورقة فى الملامح تبدو فيها الجدة جالسة فى الصالون وطفلة صغيرة مسترخية برأسها من الناحية اليمنى للجدة.. وقد طبعت اللوحة فى طابع بريد ألمانى. الجائزة الكبرى فى صالون الشباب التاسع والعشرين «2018».. جاءت الجائزة الكبرى مناصفة بين محمود أحمد عبدالعظيم «تجهيز فى الفراغ».. ورحاب خالد حسن وزينب وليد محمد «تجهيز فى الفراغ -عمل جماعى». قدم محمود أحمد عملًا رمزيًا يدين الأيادى الباطشة التى تعمد إلى الهدم من تلك القوى الغاشمة التى تجتاح عالمنا المعاصر. أما «بيت جدو» فهو عرض طريف ومثير للدهشة رغم بساطته عادت به رحاب خالد وزينب وليد إلى الماضى الجميل.. وهما فى السنة الخامسة بكلية التربية الفنية.. العرض نقلنا إلى « 25 حارة روض الفرج» حيث كان يعيش جدو مع الجدة.. يتردد عليه أبناؤه وأحفاده يجدون فى بيته الراحة والأمان من القيم والروابط المتماسكة.. وبيت جدو يعود بنا إلى هذا الزمن بكل التفاصيل: الفوتيهات والمنضدة والتليفزيون الصغير الأبيض وأسود وماكينة الخياطة «نفرتيتى» التى تنتمى لصناعتنا الوطنية وساعة الحائط وصورة العروسين فى برواز محاط بالزهور «للجد والجدة» كل هذا مع التسجيل الذى ينتمى إلى هذا الزمن والكليم الشعبى وإلى موقد السبرتو وكنكة البن.. جدو كان ينتمى إلى الطبقة المتوسطة التى قادت المجتمع.. ومن هنا كان الحنين وكان هذا التجهيزالطبيعى على مساحة متسعة.. يمثل بداية متفائلة لطالبتين من شباب الفن «21 سنة» أرجو أن يستمرا معًا فالعمل الجماعى تتعدد فيه الأفكار والرؤى.