كانت لوحاته لا تخطئها العين، فهى مصرية الهوى والمزاج، دافئة الأحاسيس مشرقة الألوان، مفعمة بالحيوية التى تخطف العين، ولأنه رحل عن عالمنا منذ أكثر من ثلاثين عاما، فقد لا يعرف الكثير من طلاب الكليات الفنية وشباب الفنانين اسمه. يعتبر الفنان جمال كامل «1926 - 1986» أحد القلائل الذين سجلوا جمال وثراء الروح المصرية فى أعمالهم، ولا أحد ينسى لوحاته الرائعة للرقص الشرقى والشعبى ومناديل بنات البلد، ونساء الأحياء الشعبية بالملاية اللف ومدخنى الشيشة وعازفى الربابة، ولذلك كانت رسومه تسجيلا حقيقيا لوجه مصر، وكانت أعماله مرآة لعصره. لقد استطاع عبر رسومه فى مجلتى صباح الخير وروزاليوسف نشر الذوق الفنى لدى الجماهير العريضة، فهو أحد الرواد الأوائل الذين أدخلوا الفن فى الصحافة مع الفنانين: بيكار والحسين فوزى وعبدالسلام الشريف وحسن فؤاد، قضى ما يقرب من أربعين عاما يقدم رسوما كانت ثورة فى الرسم الصحفى، لقد وصل بمستوى الرسوم الصحفية إلى المستوى الصحفى من حيث التكوين والتفاصيل المعبرة واستعمال الألوان بجرأة وحرية، وعندما سئل لماذا رسمت للصحافة قال: «وجدت الناس لا يذهبون للمعارض الفنية فقلت أزورهم أنا فى بيوتهم من خلال الصحافة». لقد وجد نفسه منجذبا للصحافة وذلك بسبب نزولها للناس ومعايشتها للمجتمع فقد أعطت الصحافة للفن نبض الحياة اليومية. تخرج جمال كامل فى كلية الفنون الجميلة عام 1948 وكان ترتيبه الأول فى جميع سنوات الدراسة، تتلمذ فى الكلية على يد أستاذه الفنان أحمد صبرى رائد فن البورتريه، وقد تعلم منه التعبير باللمسة الواحدة من الفرشاة والاهتمام الشديد بالرسم من حيث النسب والضوء والظل، وأيضا كيفية بناء الكتلة أو الفورم فى الشكل المراد رسمه، ولذلك كان الإحساس بالصرحية هى السمة المميزة لشخوص جمال كامل فيما بعد. بعد التخرج ينتظر دوره فى التعيين بالكلية كمعيد ولكن الروتين أضاع حلمه وعليه الانتظار، ودعاه الفنان عبدالسلام الشريف للعمل بدار الهلال بشكل مؤقت حتى يأتى التعيين. كان الرسم الصحفى فى تلك الأيام أقرب للرسم التوضيحى ولا يحمل قيمة فنية كبيرة، ولكن جمال كامل قال لنفسه لماذا لا أجعل الرسوم الصحفية رسوما ذات مستوى متحفى، ومع أول قصة له بدار الهلال أحضر موديلا ليرسم القصة وكأنه يرسم لوحة لمعرض، وهناك تعرف على صديقه الكاتب إحسان عبدالقدوس الذى كان يعمل بمجلة الاثنين بدار الهلال إلى جانب عمله الأساسى بروزاليوسف. فى عام 1950 يتولى إحسان عبدالقدوس رئاسة تحرير روزاليوسف وطلب من جمال كامل العمل معه، ورغم صغر مرتب روزاليوسف بالمقارنة عما كان يتقاضاه بدار الهلال قبل جمال كامل على الفور عرض إحسان. ويبدأ فى روزاليوسف مرحلة جديدة حيث قام برسم باب أسبوعى بالحبر الشينى تحت اسم «لوحة الأسبوع» وأيضا باب لوحة «الناس» حيث قدم رسوما تقدم سلوك وآمال وأحلام المصريين من الطبقة الوسطى فى الخمسينيات والستينيات، وكانت بأسلوب يمزج بين الإيضاحى والكاريكاتيرى. وعندما أنشئت مجلة صباح الخير عام 1956 كان أول فنان يقدم البنت الحلوة على الغلاف، حيث أراد أن يتذوق المواطن العادى أعمالا فنية مثل التى يراها بالمعارض، فقام برسم بورتريهات بألوان الزيت والباستيل لفتيات مصريات من مختلف طبقات الشعب، وقد صور فى وجوههن ذلك السحر والفتنة التى بالوجه الشرقى، وكان يقضى أياما فى رسمهن بمرسمه بصباح الخير لتكون بعد ذلك أغلفة للمجلة. فى «روزاليوسف» تألقت ريشته مع أعمال صديقه إحسان عبدالقدوس فقد رسم كل رواياته مثل «أنف وثلاث عيون» و«النظارة السوداء» و«أنا حرة» وغيرها وقد قال إحسان عن ذلك: «أدمنت تعبير جمال كامل عن قصصى كأن أى قصة أكتبها لا تتم إلا برسم لوحة لجمال كامل». كما رسم الكثير من روايات أصدقائه الكُتاب مثل الروائى فتحى غانم الذي تألق ريشته معه فى رباعية «الرجل الذى فقد ظله» ورواية «الغبى». ينتمى جمال كامل للمدرسة التأثيرية، حيث يعبر بألوان الطيف عن الشكل الذى يريد تصويره، ولكنه يختلف عن التأثيريين فى إصراره على تجسيد ما يرسمه فى كتلة مادية لها ثقل ووزن وأبعاد بارزة، إنه يرسم الحقيقة وليس طيفها مثل التأثيريين، ولهذا نحس أمام لوحاته أن شخوصه تماثيل ملونة تبرز من على سطح قماش اللوحة وتغرينا بأن نمد يدنا لنتحسسها، وسبب هذا ذوقه العالى فى اختيار ألوانه حيث وظفها لبناء الفورم أو الكتلة. أحب جمال كامل الإنسان وكان يراه أجمل المخلوقات، ولذلك أحب فن البورتريه ووصل به لقمة شاهقة لا ينافسه فيها إلا الفنانان بيكار وصبرى راغب، وقد تأثر بثلاثة فنانين عالميين هم الهولندى رمبرانت والإسبانى فلاسكيز والفرنسى سيزان. تبهرنا بورتريهاته بحيويتها وبألوانها الدافئة، وتطل علينا فى إنسانية وجمال وتفرد ووداعة، ويرجع ذلك إليه حيث لا يصور الشكل والملامح الخارجية للشخص الذى يجلس أمامه ليرسمه، ولكنه كان يلتقط روح وأعماق الشخصية المرسومة. ولذلك سعى مشاهير الفن والثقافة فى عصره للجلوس أمامه ليرسم لهم بورتريه، مثل: عبدالحليم حافظ وعادل إمام ويوسف شاهين وسناء جميل وأحمد بهاء الدين وغيرهم، ولا أحد ينسى لوحته الرائعة لعبدالحليم حافظ والتى رسمها بأسلوب أقرب للتكعيبى. الكتابة عن أستاذى جمال كامل هى اجترار لذكريات جميلة، واسترجاع وحنين للبدايات الأولى معه حيث التحقت بمجلة صباح الخير على يديه، وقد كان مرسمه فى تلك الأيام فى المجلة مضيفة لأصدقائه وتلاميذه، ومنه تعلمت أن فن الرسم ليس خطوطا وألوانا ولكنه فلسفة ورؤية خاصة من الفنان للعالم من حوله.. لقد كانت أياما جميلة لا تنسى. جمال هلال.