سوق الخضار التاريخى، أو سوق الخديوى توفيق بالعتبة الخضراء كما تذكره الخرائط الوثائقية للقاهرة فى القرن التاسع عشر، حُرق فجر الخميس الماضى. الحريق دفع البعض لإطلاق شائعات حول احتمال تدبير الحريق، من أجل القضاء على السوق والاستفادة من أرضه!! وتساءل الكثير من الأثريين والمعماريين بعدما أصابتهم الصدمة، لماذا لم يسجل السوق كأثر رغم مرور 125 عامًا على إنشائه؟. وأين دور اللجنة القومية العليا المشكلة لحماية التراث، وأين دور الأحياء، ولماذا لم تستطع المطافئ القريبة من السوق إطفاء الحريق سريعًا، ولماذا يتأخر تسجيل المبنى الأثرى الذى مر عليه أكثر من 100 عام ويحمل قيمة تاريخية وفنية ومعمارية، بحسب قانون الآثار لسنة 1986، وما معيار التسجيل، إذا كان مبنى مثل المجمع العلمى قد سُجّل كأثر منذ سنوات، وهو مبنى فى 1918 ؟ أستاذة العمارة بهندسة القاهرة، د.سهير حواس التى رأست اللجنة التى سجلت السوق، ضمن المبانى ذات الطابع المعمارى المتميز بجهاز التنسيق الحضارى، رصدت مميزات السوق الذى شُيّد على طراز«الأرت ديكو» وعلى أحدث نظم الإنشاء، بجمالون من الحديد، يغطى المساحة من شارع الأزهر الى شارع محمد على، وقالت:«هو واحد من أسواق القرن التاسع عشر المبنى على الطراز الغربى، وبعد حريق الخميس الماضى، لم يتبق لنا من أسواق القرن 19 فى القاهرة إلا سوق باب اللوق وسوق السمك بجوار كوبرى الليمون عند محطة مصر، الذى يجهل البعض أنه مازال موجودًا، والمسجل ضمن المبانى ذات القيمة المميزة». وفى رأى د. سهير أن احتراق مبنى مثل سوق العتبة، لايعنى إزالته، بل لا بد من استرجاعه وإعادة بناؤه، على غرار ما حدث فى كنيسة فرنسا التى احترقت منذ أسابيع وأمر الرئيس الفرنسى بإعادة بنائها، فسوق العتبة يمثل جزءًا من تاريخ مصر فى العمارة، ويعبر عن تكنولوجيا البناء فى عهد الخديوين توفيق وعباس، وظل يخدم أكثر من 100 عام وكنا نطالب بترميمه ووضع خطة لحمايته من الحريق وسرعة إخلائه من الباعة والرواد. وتكمل: لا شىء يعجز الهندسة فى إعادة بناء المبانى التاريخية والأثرية، وأتمنى أن يعاد ترميمه فى فترة قياسية، لافتة إلى خوفها على سوق باب اللوق من كثرة التعديات عليه. أما أستاذ الآثار بجامعة حلوان، عبد المنصف سالم، صاحب الدراسة الوثائقية التاريخية عن السوق، فناشد وزير الآثار ومحافظ القاهرة بالتكاتف لترميم سوق العتبة التاريخى، باعتباره ثروة معمارية، تمثل النماذج الأولى لاستخدام الحديد فى المبانى فى القاهرة، متسائلا: لماذا لم يسجل كأثر، رغم مرور 125 سنة على إنشائه، وأنه مسجل فقط ضمن قائمة المبانى ذات الطابع المميز والتاريخى، طبقا للقانون 144 لسنة 2006. «مشروع جران بك» سوق الخضروات بالعتبة ظهر موقعه -قبل إنشائه- فى خريطة جران بك، التى رسمت لمدينة القاهرة سنة 1874، كما ظهر مبناه فى الخرائط التى رسمت للقاهرة، فى العقود الأولى من القرن الماضى، ويبدو بشكله الحالى، بعد شق شارع الأزهر الذى يطل عليه. وتناغمت عمارة السوق الأوروبية الطراز، مع المبانى التى بنتها أسرة محمد على فى وسط القاهرة خلال القرن ال19، والتى أطلق عليها المؤرخ على باشا مبارك«المبانى الرومية الجديدة»، مبرزة سياسة التحديث، التى انعكست على كل مناحى الحياة، وبدا السوق بأعمدته المعدنية أشبه بكنسية القديسة آن فى إنجلترا، وبمصانع النسيج البريطانية ذات الأعمدة المعدنية. السوق أُنشئ وبدأ العمل فيه خلال ست سنوات من 1886، و1892، بحسب الدراسة الأثرية الوثائقية التى أعدها د.عبد المنصف سالم، وشُيّد على الأرض المعروفة بالمناصرة، وكان فى هذا المكان مقابر تعرف ب«تربة المناصرة»، ولم ينقطع الدفن بها إلا فى أواخر عصر محمد على باشا، وفى زمن الخديوى توفيق، ألحقت هذه الأرض بوزارة الأوقاف. ورغم أن مصر عرفت مبانى الأسواق فى العصر الإسلامى، وذكر المقريزى عددًا منها فى خططه، لكن بحلول القرن 19 اختلفت عمارة الأسواق عن ذى قبل، فالتزمت بخط تنظيم شوارع القاهرة، وخصص لها الأماكن المستقلة، وصُممت وفقا للطراز الأوروبى الوافد لمصر، المميز بنظام الإضاءة والتهوية الجيدة، كما ظهر فى مبنى سوق الخديوى توفيق بالعتبة الخضراء . «اختيار نظارة الأشغال لميدان العتبة الخضراء كموقع لإنشاء السوق، يدل على دراية بمدى أهمية الموقع، فهو نقطة التقاء بين القاهرة القديمة الفاطمية، والقاهرة الحديثة التى أنشأها الخديوى إسماعيل، والمتمثلة فى أحياء العتبة والإسماعيلية وعابدين، والمنيرة والانشاء وجاردن سيتى والزمالك» يشرح د. عبد المنصف. ويكمل: هذا الموقع كان متنزهًا للقاهرة، وسكنه أمراء وباشوات مصر فى القرن ال19، أشهرهم عباس باشا الأول، الذى أنشأ سراى العتبة الخضراء سنة 1864، ومحمد سعيد باشا والى مصر، وأخوه محمد عبد الحليم باشا ابن محمد على باشا، حيث كان لكل منهما سراى بهذا الميدان، والخديوى إسماعيل الذى كان له سراى بميدان العتبة الخضراء. وبحسب سجلات الباب العالى ومحافظ مجلس الوزراء ووزارة الأشغال، التى اطلع عليها د. عبد المنصف خلال إعداد دراسته عن السوق، والمحفوظة جميعها بدار الوثائق القومية، تكلف إنشاء سوق الخديوي«سوق العتبة» 51 ألف جنيه، وفقًا للمشروع الذى قدمه جران بك، مدير عموم المدن والمبانى الأميرية فى زمن الخديوى توفيق، شاملة نفقة إتمام البناء وتسقيفه، وتقسيم السوق وتبليطه، وتسقيف شوارع السوق الرئيسية، المواسير لتوزيع المياه، مواسير توزيع الغاز، أعمال المراحيض والدرابزين الحديد، أما أبواب الدكاكين فتحمل تكلفتها المستأجرون. وبحسب الوثائق شيد السوق عدة مهندسين هم: 1 - جران بك، مدير المدن والمبانى الأميرية، الذى وضع مقايسة تكاليف الإنشاء التى وافقت عليها وزارة الأشغال وأدار العمل حتى تم الانتهاء من البناء. 2 - منكريف، وهو كولونيل بوزارة الأشغال. 3 - شنتونز بك، المقاول الذى بنى السوق وغطاه بالمعدن. وتذكر الوثائق أن شركة «إخوان سوارس» للمقاولات قد وضعت تصميما للسوق فى البداية فى 1886، وهى الشركة المشهورة ببناء مبانى بوسط القاهرة، لكن الحكومة رفضت هذا التصميم، ربما لأن تكلفة الإنشاء كانت مرتفعة.. «شارعان و12 حارة و220 دكانا» يتكون السوق من شارعين رئيسيين، أحدهما يمتد من الشمال للجنوب، والثانى من الشرق للغرب، وينتهى كل منهما بمدخل ضخم، ويلتقى الشارعان فى مساحة وسطى مربعة، يعلوها سقف معدنى مخروطى، يبرز منه فانوس لإضاءة هذه المساحة. ويغطى كل شارع سقف معدنى جمالونى، محمول على عوارض وقوائم معدنية، ترتكز على جدران حجرية، ويتفرع من الشارعين الرئيسيين، 12 حارة، تعلوها أسقف على هيئة قبو، بها نوافذ ذات عقود نصف دائرية، وتتولى النوافذ إضاءة الحارات، وتخفف الحمل على أبواب المحلات. ويضم السوق 220 محلا تجاريا، سقفها منخفض عن سقف الشوارع والحارات، ولكل منها باب من الخشب له مصرعان. وبالإضافة لتعدد مداخل ومخارج السوق، يرى د. عبد المنصف أن ما يميز السوق هو الفرنتون أو الواجهة، وهى من الوحدات المعمارية المميزة التى كانت تتوج الأبواب والواجهات والنوافذ فى العمارة الكلاسيكية، وعمارة عصر النهضة، والتى أعيد إحياؤها فى القرن 19. كما أن تغطية السوق بأنواع مختلفة من الأسقف، بشكل أقبية طولية وأسقف من الجمالون، وأخرى ذات شكل مخروطى هرمى مسطح، قد راعى ملاءمة كل نوع للمساحات التى تغطيها، فالحارات الضيقة غطيت بأسقف مقبية، والشوارع الواسعة بأسقف جمالونية من المعدن، بينما غطيت المساحة الوسطى المربعة بسقف هرمى مخروطى، والمحلات بسقف مسطح. ويلفت عبدالمنصف إلى الدور الذى لعبه «الحديد» فى أسقف هذا السوق، خاصة الجمالونية والمخروطية، وكذلك الزخارف الحديدية التى ظهرت فى الكوابيل المعدنية. كما تزين واجهات السوق بأشكال عقود أزهار وفاكهة وأشكال الدروع، والتى انتشرت فى عمارة عصر النهضة والباروك. يطل المبنى على أربعة شوارع من جهاته الأربع، الشمالية على شارع الأزهر، الذى تم شقه فى زمن بناء السوق، والجنوبية على شارع محمد على، والشرقية على شارع العطار، والغربية على شارع مورجان، الذى يفصل بين هذه الواجهة وعمارتى الأوقاف المطلتان على ميدان العتبة الخضراء. «الواجهتان الغربيةوالشرقية متطابقتان، فكلاهما يتكون من جدار من الحجر، يتوسطه باب رئيسى مرتفع عن الجدران، وبكل باب دعامتان محليتان من الأعلى بحلية من الحجر تشبه ثمرة الخرشوف، ويعلو الباب فرنتون«عقد على شكل سبعة مقلوبة» مفتوح، تغلق عليه أحجبة خشبية بشكل شيش الحصير. ويزين هذا الفرنتون من الأعلى عقود فاكهة يفصل بينها أشكال الكوابيل المعدنية الحاملة، ويتوج كل فرانتون من أعلى بشكل يشبه الدرع، وحوله فرعان نباتيان، وعلى كل جانب من جانبى المدخل الرئيسى، توجد 3 مداخل فرعية، توصل إلى الحارات، ولكل منها باب يعلوه عقد يركتز على كابولين. أما الواجهة الشمالية فواجهة فرعية، ويتوسطها باب رئيسى يتطابق مع بابى الواجهتين الشرقيةوالغربية، وبها 14 بابا لدكاكين تجارية، بينما يتقدم الواجهة الجنوبية دهليز، يفصل بينها وبين الملحقات الجنوبية للسوق، والتى تفصل هذه الواجهة عن شارع محمد على، وهى ملحقات كانت خاصة بالقومسيونجية القائمين على السوق.