كانت تلك هى المرة الأولى التى قابلت فيها نجيب محفوظ، وكان بين أصدقائه، فمنهم من يقرأ له خبرا مهما فى صحيفة، فيعلق كاتبنا أو يستمع إلى ما قيل متأملا، وكان أن حانت لحظة صمت فأيقنت أنها اللحظة المناسبة لإلقاء سؤالى عليه، كنت أكتب صورا قلمية عن شوارع القاهرة وأحيائها القديمة، وكان حى «السُّكرية» الذى ارتسم فى خيالى من خلال ثلاثيته الشهيرة يسبح فى ذاكرتى بأشخاصه، وعوالمه الساحرة، وأحداثه، لكننى عندما ذهبت إلى الحى وجدت زقاقا ضيقا فلم أعرف من أين تبدأ «السُكَّرية»؟ فسألته: - أين تبدأ «السُّكَّرية» وأين تنتهى؟ فأطرق كاتبنا لحظة متأملا ثم قال لى: «تبدأ فى داخلى ثم لا تنتهى».. فشكَّلت الإجابة العميقة فى نفسى حبا عارما لأحياء نجيب محفوظ والأمكنة التى تمتد فى داخله امتداد خلود، وتتعمق كعشق، فيصبح كل حى، وكل زقاق، وتصبح كل ثنية، وكل عطفة من حنايا القاهرة دقة من دقات قلبى.. تبدأ فى داخلى أنا أيضا، ثم لا تنتهى.. كان لقائى به فى تسعينيات القرن الماضى وإن كان قلبى قد تعلق بسطور الكاتب الكبير منذ زمن بعيد، ولم أكن قد اختلفت إلى ندوته إلا تلك المرة التى تركت فى نفسى أثرا لا يزول فى محبة عالمه الأدبى.. كنت أبحث دائما عن أعماله بشغف، وأقرأها، وقد علمت أن من قصصه الأولى ما لم ينشر فى كتبه ومؤلفاته - وكان قد صدر كتاب محمود على وعنوانه «قصص نجيب محفوظ التى لم تُنشر» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2016، فعكفت على تحليل ودراسة هذه الأعمال وكتبت عنها على صفحات «صباح الخير».. وكان يخايلنى سؤال مُحير.. أليست هناك أعمال أخرى مجهولة لكاتبنا ولم تُنشر ضمن مؤلفاته..؟ كان خاطر يباعدنى وهو يقول: «لم يترك الأولون للآخرين شيئا»! وكان أمل يراودنى أن أجد عند المنابع الأولى ما يروى، وأستقصى عند المنابع الأولى بلورات قصصه التى كانت هى رواياته التى اختزلها فى هذا الفن الجميل فن القصة القصيرة لرواج وسهولة نشره حينذاك. وبمقارنة فهارس مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون»، وما قدمه محمود على فى كتابه من قصص لم تُنشر ضمن مؤلفات محفوظ، وفهارس ما قدمه د. عبدالمحسن طه بدر فى دراسته الرائدة «نجيب محفوظ - الرؤية والأداة»، وبالاطلاع على الببلوجرافيا التجريبية للدكتور حمدى السكوت والتى أجراها على عالم نجيب محفوظ الإبداعى. وجدت تلك البلٌّورات الست التى التمعت أسماؤها بين يدىّ وقد أشارا لها إشارات خاطفة، فضوأت الفكرة والتمعت فى خاطرى، وذهبت أبحث وراءها لأضعها بين أيدى القراء والدارسين، وهذه القصص - المجهولة حسب ترتيبها الزمنى هى: قصة «العرافة» ونُشرت فى مجلة «المجلة الجديدة» الأسبوعية أول فبراير عام 1935.. وقصة «أول أبريل» ونُشرت فى مجلة «الرواية» بتاريخ أول فبراير عام 1938. وقصة «الذكرى» ونُشرت فى مجلة «الرواية» أيضا بتاريخ 15 مارس 1938، وقصة «التطوع للعذاب»، ونشرت فى مجلة «الرسالة» بتاريخ 28 أكتوبر 1940، وقصة «الحالم بسوق العيش»، ونُشرت فى مجلة «الساعة 12» بتاريخ 4 فبراير 1943.. وقصة «حزن وسرور» ونُشرت فى مجلة «الرسالة» بتاريخ 27 أغسطس 1945.. وقد نشرنا فى «صباح الخير» قصصا خمسًا منها فى أعداد سابقة وبقيت قصة هى أقدمها جميعا وهى قصة «العَرَّافة»، وقد بذلت جهدًا جهيدًا للعثور عليها، وكان يقتادنى الشوق لأعرف هل «عَراَّفة» نجيب محفوظ كَعراَّفات قرأنا عنها، أو تعرفنا عليهن تتكسب من مخاوف الناس وآمالهم، وتعيش على طمأنة وهدهدة الأحلام فى نفوسهم أو إثارة مخاوفهم من المستقبل!. وهى تلقى جزاء ذلك نفحات مالية قليلة أو كثيرة، أم هى كعرافة نزار قبانى فى قصيدته «قارئة الفنجان» لا تتنبأ إلا بالفقد، وتجعل طريق الحب محفوفا بالمخاطر والقيود «لكن سماءك ممطرة/ وطريقك مسدود»!. وما إن استطعت أن أعثر على «عرَّافة» نجيب محفوظ فى القصة التى نشرتها مجلة «المجلة الجديدة» بتاريخ أول فبراير 1935 حتى وجدت شبها ما بين عرَّافة نجيب محفوظ وعرَّافة نزار قبانى فكلتاهما تنبأت بوحدة بطلها، ووحشته، «وتظل وحيدا كالأصداف/ وتظل حزينا كالصفصاف» عند نزار. وهى فى قصتنا تهمس فى أذن بطلتها: «آمنى بى، ألم أذكر لك يوما أن مصيبة نزلت بساحتك فبكيت وقلت لى إن ذلك حق»!!، وتنبأت بوحدتها وزواج صاحبها بأخرى!.. أما مجلة «المجلة الجديدة» التى نشرت قصة «العرَّافة» لمحفوظ فقد صدرت عام 1929، واستمرت فى الصدور حتى عام 1941 وكان صاحبها ومحررها سلامة موسى، وكانت تصدر أسبوعيا، وتختص القراء فى كل شهر بعدد منها يكون أغلى سعرا «4 قروش»، وعدد صفحاتها أكثر، أما العدد الأسبوعى فكان ثمنه «خمسة مليمات». وكانت المجلة تهدى إلى قرائها ثلاثة كتب فى العام من تأليف صفوة الأدباء فى مصر والعالم العربى، وتلك المترجمة عن أدباء الغرب. وقد نشرت مجلة «المجلة الجديدة» لنجيب محفوظ قصصا قصيرة كما نشرت له رواية كاملة هى «عبث الأقدار» فى عدد واحد بلا افتتاحية ولا أبواب من أى نوع، والطابع المصرى الذى تميزت به المجلة أو التحيز لتاريخ مصر الفرعونى قد أسهم فى لفت أنظار محفوظ أن يبدأ حياته الروائية بثلاث روايات عن التاريخ المصرى القديم كما يقول على شلش فى كتابه «المجلات الأدبية فى مصر تطورها ودورها من 1939 - 1952» والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. • هذه القصة وفى هذه القصة «العرَّافة» يقدم لنا نجيب محفوظ تفاصيل التفاصيل فى علاقة زوجين كانا يتمتعان بعلاقة حب حتى وقعت الزوجة فى أحابيل عرَّافة قرأت طالعها، واستقرأت خطوط كفها فتنبأت بأن زوجها سيتزوج عليها، أو هو فعل ذلك حقيقة فتنمرت الزوجة، وثارت شكوكها، واشتعلت غيرتها، ويصوِّر لنا كاتبنا فى رهافة ثورة الشك التى استأثرت بنفس الزوجة وخيبة الأمل التى بدت على تصرفاتها، وذلك الألم الممض الذى أَرَّق حياتها، وانعكس كل ذلك على علاقتها بالزوج، ثم صوَّر الحياة النفسية للزوج ودقائقها وتطوراتها من ثورته وضيقه بزوجته التى ظلت تراقبه وتحاسبه، واندلع خيط درامى ملتهب فأمسك بناصية القصة من أول سطر حتى آخر سطر، ليجعلها مشدودة على وتر رهيف. تحتشد التفاصيل وتتراكم الحوادث وتسكن القلوب شكوك موغلة فتتغير صور العاطفة بين الزوجين، وتتعاقب فصول من الألم عليهما كتقلب وتعاقب النهار والليل، وتصل القصة إلى ذروتها فيتخذ الزوج قراره الذى لا يحتمل نقضا بأن عشرتهما لا يمكن أن تستمر، وصوًَّرت القصة الفكرة السلبية التى انغرست فى خيال الزوجة فغاصت فى روحها، وعقلها فجلَّاها لنا كاتبنا.. وما كانت سوى اعتقاد الزوجة بقدرة العرَّافة على التنبؤ بالمستقبل حتى إن الزوجة تتساءل عن تلك اللحظات المجنونة التى أوشكت فيها ألا تصدق العرَّافة وأن تطمئن إلى براءة زوجها، وهنا تصل القصة إلى ذروتها الفنية والمأساوية فى آن واحد وهى تتجلى فى امرأة كَذَّبت عقلها وصدقت عرَّافة!! ربما يبدو المعنى فى هذه القصة مباشرا وربما يبدو البنيان الفنى تقليديا كتقاليد كتابة القصة القصيرة حينذاك، إذ يلتمس الكاتب عقدة تبحث عن حل ثم تتشابك الأحداث فتصل إلى ذروة ثم لحظة تنوير، لكن ما هو حَرىّ بالدراسة والبحث هو هذا التكون الأصيل الذى اهتم به أديبنا فى رسم دواخل شخصياته، واهتمامه بالتفاصيل، والحياة التى يبعثها فى سطوره عنهم فيتحركون أمامنا فى حرية، ويصلون إلى مصائرهم ونحن نترقبها فى شغف التعرف على الإنسان ونزعاته، ورغابه، وصراعه مع ذاته ومع الآخرين.. وتجعل أبطال نجيب محفوظ يتحركون فى مسرى الحياة من حولنا، ويتنفسون فى شخصيات نعرفها، ونتأمل حقيقة الحياة، وما يدور فيها من حولنا، تخفق لها فلذات قلوبنا، وتتدفق مشاعرنا، وتنمو أسئلة الخيال كأسئلة الواقع فى كل مرة نتعرف فيها على ملامح عالم إبداع نجيب محفوظ الذى يبدأ فى داخلنا ثم لا ينتهى.. وفى الصفحات القادمة قصة «العرَّافة» لنجيب محفوظ.•