تحمل عبارة «الزمن الجميل» الكثير من الشجن والحنين والأسى، وتبقى صور ذاك «الزمن الجميل» المستعادة والمتخيلة كحلم يقظة سعيد تبعث فى الأفئدة والجوارح الحنين إلى صور ذلك الزمن وبهائه الخاطف. تظل صور «الزمن الجميل» القديمة فى الذاكرة، هى الأصل والأقوى حضورًا فى الكلام، أما فى زمن القلق واليأس، زمن التصدع والاهتراء، فيبدو ألا أفق ولا بوصلة للأزمنة الحديثة بالقرون الغابرة، ومستقبل غامض بعد حطام أوطان وأجيال تبحث عن بوصلة لاقتفاء أثر ذلك الزمن الموصوف بأنه جميل. راودتنى هذه الخواطر عند سفرى إلى لبنان صيف هذا العام، بعد أن كنت قد عشت فيها سنوات من أجمل سنين العمر، وصلت إلى مطار بيروت «مطار رفيق الحريرى الدولى» لأراه غارقًا فى طوفان بشرى غير مسبوق من المسافرين، وعلمت أن حركة المطار سجلت نحو المليون راكب شهريًا فى الآونة الأخيرة، بينما يبلغ أقصى استيعاب لمطار رفيق الحريرى الدولى 6 ملايين راكب سنويًا وأن العديد من الهيئات والمنظمات الدولية طالبت لبنان فى الفترة الماضية بالإسراع فى توسيع القدرة الاستيعابية، خصوصًا بعد الأزمة السورية؛ واستعماله مرفًأ أساسيًا لسفر السوريين، بالإضافة للأزمة القطرية الخليجية، حيث بات مطار بيروت يعتمد كثيرًا كترانزيت إلى قطر. غصت قاعة الوصول بالمسافرين الواقفين أمام أفراد الأمن العام، فى وقفة استمرت أربع ساعات فى جو خانق لا تسعفه أجهزة التكييف إذا وجدت! لم يكن الطقس خارج مبنى المطار أفضل منه فى داخله، فرغم درجة الحرارة التى لم تتعد 33 درجة مئوية، فالرطوبة خانقة، فكان لا بد من الهروب لجبل لبنان. حضرت إلى لبنان دولة بلا حكومة رغم مرور أكثر من أربعة أشهر على الانتخابات البرلمانية، فى وقت مازال الغموض يحيط بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، فى وقت عاد الحديث عن حكومة ثلاثية، بعدما سقطت محاولة الترويج لحكومة من 24 وزيرًا نتيجة اعتراض الرئيس اللبنانى ميشيل عون، رغم أن رئيس مجلس النواب نبيه برى؛ أبدى استياءه البالغ مما آل إليه وضع التأليف؛ وتعثره غير المبرر، معيدًا التنبيه إلى أن وضع البلد متردٍ وفى أسوأ حالاته، خصوصًا على المستوى الاقتصادى. ورغم هذا فقد امتلأ الطريق بلافتات لحفلات ومهرجانات لبعلبك وصور مرورًا بالأرز وأهدن وبيبلوس وچونيه وبيروت وبيت الدين، فقد فتح صيف لبنان أبوابه ليستقبل أجمل المهرجانات الدولية التى تجمع مختلف الثقافات والحضارات وتجمع السائحين للبنان وأهلها. وأشهر هذه المهرجانات مهرجان بعلبك الذى يحمل اسم مدينة بعلبك فى قلب سهل البقاع الذى يشتهر بخصوبة أراضيه، وتشتهر المدينة بوفرة المعالم الأثرية المتنوعة. كوكب الشرق أم كلثوم غنت لآخر مرة فى قلعة بعلبك عام 1970، وأحيت على أدراج القلعة التاريخية حفلتين من قبل عام 1966 وعام 1968 فى أمسيات مليئة بالشجن والطرب الأصيل. وهذا العام أطلقت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية برنامجها السنوى بحضور الوزيرة اللبنانية السابقة ليلى الصلح قرارها بتكريم كوكب الشرق، وأن تتذكر بعلبك أم كلثوم بعد نصف قرن من خلال تنظيم حفل موسيقى افتتاحى، هو ثمرة تعاون مصرى - لبنانى مع المؤلف الموسيقى وقائد الأوركسترا المصرية المايسترو هشام جبر. أم كلثوم حسبما وثق متعهد حفلاتها اللبنانى حسن الجاك، غنت فى لبنان 32 أغنية من أغانيها فى 13 حفلة فى اليونسكو ببيروت وبسين عاليه وسينما ريفولى ببيروت وبعلبك، كان أولها فى 19 نوفمبر 1959، حيث غنت «ذكريات»، «أروح لمين»، «هجرتك»، وآخرها فى بعلبك فى 11 يوليو 1970 بأغنيتى «ودارت الأيام» و«أقبل الليل». وبعد 48 عامًا على آخر ظهور لكوكب الشرق فى قلعة بعلبك الأثرية شرق لبنان اعتلى طيف الفنانة الراحلة أم كلثوم معبد باخوس على مدارج بعلبك؛ وعلى جدران المعبد ارتفعت صور أم كلثوم عاليًا مع شال معصمها الدائم. استعادت القلعة الرومانية فى مدينة بعلبك أيامها الذهبية وحضور أم كلثوم بأمسية غنائية فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى فى حدث فنى لبنانى مصرى ضخم، أرخت ظلالها عليه حادثة أمنية بوقوع جريمة قتل قبيل الافتتاح على مدخل القلعة الأثرية، فجرت الأمسية فى ظل إجراءات أمنية مكثفة، فقد تجمع إثر الحادث حشد غاضب من السكان أمام مدخل القلعة، كاد أن يحُول دون دخول الجمهور إلى القلعة، وطالب عدد من الشبان والنساء الجمهور عدم حضور الحفل تضامنًا مع عائلة القتيل، لكن القوى الأمنية وافقت على دخول الجمهور إلى المسرح على مقربة من مجلس العزاء الذى أقيم فى مكان الجريمة. وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم والسفير المصرى فى لبنان نزيه النجارى حضرا الحفل وشاركهما ممثلا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة اللبنانية والرؤساء السابقون النواب فؤاد السنيورة وحسين الحسينى وعدد كبير من سفراء الدول العربية. ومع إدراج معبد باخوس الأثرى انطلق صوت كل من المطربتين مروة ناجى، ومى فاروق ليستحضرا الزمن الذهبى لبعلبك، وبثوب ذهبى أطلت مروة ناجى تسبقها موسيقى «ألف ليلة وليلة»، التى كان الجمهور يردد معها مقاطع من الأغنية، ثم واصلت مروة ناجى بأغنية «سيرة الحب»، ثم أغنية «حيرت قلبى معاك»، فاشتعل معبد باخوس بحماس الجمهور وانفعاله مع الأغنية مشاركين المطربة فى الغناء وفى تسابق معها. مى فاروق غنت «أمل حياتى»، و«أغدًا ألقاك» لتختتم الحفل برائعة محمد عبدالوهاب «أنت عمرى»، وهى مرتدية ثوبًا أحمر مذهبًا، وهتف الجمهور متفاعلًا على طريقة حفلات أم كلثوم «عظمة على عظمة على عظمة ياست». المعبد الذى شهد واستذكر عطر ذكريات أم كلثوم فى لبنان، يعود تاريخه إلى القرن الثانى الميلادى، معبد باخوس فى مدينة بعلبك التى تقع عند سفوح سلسلتى جبال لبنانالشرقيةوالغربية، ومن أهم المدن السياحية فى الشرق الأوسط، نظرًا لوجود القلعة ذات البناء الشاهق، وحجر الحلبة الذى يمثل أكثر حجر منحوت فى العالم، الذى يقع على جانب مدخل مدينة بعلبك، حيث كان الرومان يقتلعون الحجارة وينحتونها. لبنان الأرض مذكورة فى كتابات هوميروس، وفى العهد القديم، وكانت مدينة مواقع وموانئ بحرية مهمة فى عهد الفينيقيين والرومان وأرضها تضاهى مساحة قبرص ومقسمة إلى أربع مناطق جغرافية رئيسة: السهل الساحلى وسلسلة جبال لبنانالغربية وسهل البقاع وسلسلة جبال لبنانالشرقية. قلعة بعلبك موقع الحدث الفنى الكبير بُنيت كمكان عبادة ل«بعل» إله الشمس الفينيقى، وتقع فى سهل البقاع المعروف فى العصور القديمة باسم «سلة الخبز»، أو «مخزن حبوب» الإمبراطورية الرومانية، ولاتزال المنطقة الزراعية الرئيسية فى لبنان. تعمدت فى زيارتى لجبال لبنان أن أشاهد وأكتشف الأماكن غير المألوفة للسياحة، مثل بيت الدين ومغارة جعتيا، ومن صور وصيدا وجبيل التى يتردد عليها السياح واتجهت إلى وادى قاديشا المقدس جزء من التراث المسيحى لآلاف السنين، ومازالت المجتمعات الرهبانية المسيحية القديمة تعيش هناك حتى يومنا هذا، ولأهميته الثقافية أصبح على لائحة اليونسكو للتراث العالمى، ويمر فى ممر ضيق بين الجبال وعلى جانبيه بساتين جميلة من أشجار الَأرز. وفى وادى قاديشا ووسط الأشجار العملاقة التى تكسو سفح الوديان والسكك المتعرجة فى دروب الجبل، يقع أقدم الأديرة دير مار أنطونيوس قزحيا أنشئ عام 1584 فى قضاء زغرتا مسقط رئيس جمهورية لبنان الأسبق الرئيس فرنجيه، ويحمل الدير اسم القديس أنطونيوس الكبير، وهو معروف بصورة عامة باسم قزحيا نسبة للوادى الذى يقع فيه، وادى قزحيا، ووادى قنوبين الذى يتصل معه من الغرب ليشكلا معًا ما يعرف بوادى قاديشا، وفى الدير تم تأسيس أول مطبعة فى الشرق الأوسط فى هذا الدير وأول كتاب طُبع فيها كان كتاب المزامير سنة 1610. يضم الدير متحفًا مُدرجًا على لائحة التراث العالمى لمنظمة اليونسكو، ويحتوى المتحف على أول مطبعة فى الشرق الأوسط، وهى مطبعة حروفها سريانية، وأوانٍ كنسية وثياب كهنوتية، بالإضافة إلى عدد من الأوانى الفخارية والمعدات الزراعية التقليدية من القرن السادس عشر. وفى دير القدس مار يوحنا الصايغ فى الخنشارة تأسست المطبعة العربية الأولى فى الشرق الأوسط، التى استخدمت الحرف العربى عام 1733 أسسها عبدالله زاخر القادم من حلب، الذى مر على وفاته 270 عامًا وحولتها الدولة اللبنانية إلى متحف عام 1998، وقد طُبع فيها أول كتاب باللغة العربية فى عام 1734 بعنوان «ميزان الزمان». ورغم صيف لبنان فى عدد من المدن السياحية والمناطق والقرى، وبالأخص مهرجانات بعلبك الذى يعطى زخمًا فنيًا وصولًا إلى العالمية والغصة التى تركها رحيل أيقونات مهرجانات بعلبك السيدة مى عريضة، صاحبة الفضل الأكبر على تاريخ الثقافة اللبنانية، فالأحوال المعيشية ليست فى أفضل أحوالها بالنسبة إلى شريحة كبيرة من المواطنين حالها حال أحوال كثيرة أخرى، الثقافة فى بلاد الحضارة تئن، القطاع الفنى يشكو إهمالًا منذ سنوات، والاقتصاد هزيل والدين العام ضخم، البيئة تحتضر مع هجوم أعمال البناء فى الجبال وحلول العقارات محل أشجار الصنوبر، السياحة تفتقد إلى عشاق الأرز والبحر والتبولة، فحالها كوضع السياحة فى بلادنا ونسبة الإشغال لا تتعدى ال40٪ وكارثة زحمة السير بطرقها فى أوجها. لكن هذا البلد الذى يتم تشبيهه بطائر الفينيق، يتنفس. مازال لبنان يتنفس. وسيبقى لبنان يحمل لى أعز الذكريات والحنين للزمن الجميل. •