لبنان في أسمى المعاني لم يزل .. لأولي القرائح مصدر الإيحاء جبل أناف على الجبال بمجده .. وأناف شاعره على الشعراء يا أكرم الإخوان قد أعجزتني .. عن أن أجيب بما يشاء وفائي مهما أجد قولي فليس مكافئا.. قولا سموت به على النظراء جبران خليل جبران يقولون إن سويسرا أجمل بلاد العالم، ودعني أؤكد لك أن لبنان أجمل كثيرا.. في وسط جبال لبنان وفي أعلى قممها وقفت مع صديقي السويسري نتطلع للخضرة التي تكسو الجبال تماما وتمتد عبر وادي قاديشا كله مبتلعة معها الينابيع الصغيرة، وحاضنة مباني الكنائس المارونية الجميلة..كنت أرى نظرات الانبهار في عينيه فأندهش.. أقول له: يا ابني الجبال عندكم أحسن.. مش إنتَ برضه من سويسرا؟.. فتلمع عينيه ويقسم أن المنظر هنا أجمل.. ويؤكد على كلامه بأن يخرج الكاميرا ويلتقط الصور ويتمتم: يا ربي! يا للروعة! الرحلة إلى شمال لبنان جاءت دون ترتيب.. عندما أتيت إلى بيروت لم تكن لديّ خطط دقيقة لما يمكنني أن أفعله بعد انتهاء أيام المؤتمر.. كلنا ننتهي من عملنا ونعود أدراجنا إلى الوطن.. كانت هذه خططي وخطط كل المصريين الذين قابلتهم.. أما الزملاء الأجانب؛ فكانت لديهم خطط مختلفة.. كيف تأتي إلى بيروت ولا تزور دمشق وهي على مرمى حجر؟.. كيف تأتي إلى بيروت ولا تنطلق شمالا لترى شجر الأرز أو تجوب الجنوب لتلقي نظرة على صيدا أو صور أو تسير بجوار الحدود الإسرائيلية؟.. هذه تجربة إنسانية لابد منها. ومن حسن حظي أني التقيت بكريس في أول أيامي في بيروت..كانت ليلة صاخبة تعالت فيها الموسيقى اللبنانية واختلطت بأطعمة من كل أنحاء العالم، أتى بها الطلبة المشاركون في المؤتمر ليمثلوا دولهم في هذه الليلة الدولية؛ حيث يتسابق الكل على تقديم ثقافة وطنه.. تعرفت على الشاب السويسري ممن تعرفت، كان متحمسا بشدة، وقال لي: إن اسمه كريستوف وينادونه كريس.. درس العربية العام الماضي في دمشق، وانبهر بالحضارة العربية.. هذا الصيف يقوم مع صديقه هنري برحلة فريدة من نوعها.. من إستانبول إلى القاهرة أرضاً.. بدأ رحلته منذ ما يقرب من شهر من العاصمة التركية منطلقا إلى جنوب تركيا إلى سوريا، والآن هو في بيروت، ولا يزال يخطط لمواصلة رحلته إلى سوريا من جديد ثم الأردن وأخيرا مصر.. ثم قدم لي عرضا فريدا عندما لاحظ تحمسي لرحلته.. قال: أنت عربي يا صديقي، لماذا لا تأتي معنا؟.. وكانت هذه هي اللحظة التي اتخذت فيها قراري.. سأنطلق معه في هذه الرحلة الفريدة.. من بيروت إلى القاهرة.. أرضاً! من بيروت بدأت الرحلة.. من محطة شارل حلو في وسط بيروت أخذنا الأتوبيس إلى طرابلس.. كنا أربعة.. عربي واحد هو أنا وثلاثة من سويسرا، اثنان منهما شاركاني باقي الرحلة من لبنان إلى سوريا إلى الأردن إلى مصر. من طرابلس استقللنا أتوبيسا آخر إلى بشري.. طوال الطريق كنا نمضي في طريق صاعد فوق الجبل، وحولنا الأشجار كثيفة الأغصان تكسو سفح الجبل بالخضرة في منظر لا تكفي الكلمات لوصفه.. جنة هي.. منظر خلاب تظل تتأمله لساعات دون ملل متمنيا ألا ينتهي الطريق أبدا.. هذه الجنة اسمها وادي قاديشا أو الوادي المقدس.. سموه قديما وادي القديسين أو وادي قنوبين لاحتوائه على دير سيدة قنوبين.. يمتد الوادي امتدادا عظيما وعلى جانبيه الأيمن والأيسر تتواجد حوالي 115 ديراً وصومعة ومحبسة هي النواة التي قدمت فيما بعد عشرات الأديرة والكنائس القديمة التي نمت مع الزمن، وبالمناسبة فقد صنفته اليونكسو عام 1998 كمحمية طبيعية عالمية ضمن مناطق التراث العالمي. وبشري كانت محطتنا الأولى بعد بيروت.. القرية اللبنانية الشهيرة التي تتصدر وادي قاديشا، مسقط رأس الشاعر اللبناني الشهير جبران خليل جبران.. يقال: إن "بشري" تعني وطن المياه، والاسم طبعا على مسمى؛ لأن القرية عامرة بينابيع المياه التي تجدها هنا وهناك، وتشاهد الصنابير تصب لك ماء باردا دفقا يخرج من وسط الجبال ولا يتوقف لحظة.. تطل على وادي قاديشا وتزخر بالكنائس العريقة والكهوف والمغارات والصوامع التي كثيرا ما آوت الرهبان منذ زمن قديم في عصور الاضطهاد.. بشري أيضا تشتهر بعيد التجلي الذي يحييه اللبنانيون كل صيف بجوار غابة الأرز، وعيد ارتفاع الصليب، ويحيونه أمام الصليب الأثري العريق، وفي أغسطس تنظم المدينة أسبوع جبران الثقافي، بالإضافة إلى مهرجانات الأرز الدولية.. فضاء بشري يمتد لمسافة واسعة من وادي قاديشا من سهل الكورة في الشمال اللبناني -على ارتفاع 250 مترا عن سطح البحر- حتى القرنة السوداء أعلى قمم الشرق الأوسط على ارتفاع 3090 مترا. لعبت هذه المنطقة دورا كبيرا في تاريخ لبنان.. هنا عرف لبنان الطباعة للمرة الأولى في دير مار قزحيا في العام 110.. هنا على بعد 20 كيلومترا شمالي بشري تقع عيون أرعش؛ حيث تتفجر عشرات الينابيع وعيون الماء العذبة والباردة تنطق في برك صغيرة وسط الأشجار.. هنا يحوز منحدر جبران شهرة عالمية كواحد من أشهر منحدرات التزلج على الجليد في العالم نظرا لطبيعة أرضه الجليدية الجميلة وخلوه من الصخور والوهاد السحيقة.. عندما وصلنا بشري كان الليل قد أسدل ستائره على قاديشا، وغرق الوادي في الظلام؛ فلم تبق سوى أنوار بشري وأضواء كنائسها.. تجولنا في الشارع الرئيسي للمدينة؛ حيث تنتشر محلات السوبر ماركت وبعض المقاهي والمطاعم القليلة ومقهى إنترنت، وانتهت جولتنا في مطعم صغير يطل على الجبل وإلى جواره يناسب ينبوع ماء محدثا خريرا جميلا محببا. في الصباح تناولنا إفطارا لبنانيا بسيطا من السلاطة العربية بزيت الزيتون والحمص الشامي، ثم انطلقنا لنزور متحف جبران مقصد السياح ومحبي الشاعر والفيلسوف والفنان اللبناني.. والحكاية أن جبران حلم بأن يشتري أحد الأديرة في مسقط رأسه ويجعله مدفنا لجثمانه، ولم يتحقق حلمه إلا بعد وفاته حينما اشترت شقيقته مريانا الدير عام 1931، ووصل جثمانه إليه من أمريكا، وحقق أصدقاؤه رغبته بجمع تحفه ولوحاته إلى الدير، وتحول المكان لمتحف خاص به عام 1975، وجهزت لجنة خاصة -اسمها لجنة جبران الوطنية- المكان ليتحول إلى مزار سياحي شهير في العام 1995، وهو تكريم عظيم لشاعر عظيم ينسب له قوله: "لو لم يكن لبنان وطني لاخترتُ لبنان وطناً لي"، في عبارة تفكرك بمأثورة مصطفي كامل: "لو لم أكن مصريا، لوددت أن أكون مصريا". دخلنا المتحف، وبدأنا جولتنا في قاعاته بين طابقيه.. تتشابه اللوحات كثيرا، وأغلبها يقدم نساء ورجال عراة، ولكل لوحة قصة وحكاية يشرحها لنا الدليل السياحي الذي يعطونا إياه.. قبل المتحف كانت كل معلومات عن جبران أنه شاعر من أشهر شعراء المهجر؛ لكنني فوجئت به رساما بارعا أيضا، وقرأت فيما بعد قصة حياته التراجيدية المليئة بالمآسي والأمراض، وعلاقته السيئة مع والده، ومعاناته في بلاد المهجر ورحلته الطويلة من الفن إلى الأدب وكتابة الشعر باللغتين العربية والإنجليزية.. كان جبران فنانا وأديبا مميزا يستحق أن تخلده بشري بهذا المتحف المطل على وادي قاديشا الجميل، الذي خلده جبران أيضا في روايته "الأجنحة المكسرة". خرجنا من المتحف ليبدأ أصدقائي الثلاثة رحلتهم عبر وادي قاديشا سيراً على الأقدام.. كنت مرهقا، ولم أستطع أن أتخيل أن أشاركهم هذه الرحلة الطويلة لنزول الوادي على أقدماهم، في الوقت الذي نصحَنَا فيه المارة بأن نستقل تاكسيا يأخذنا في هذه الرحلة الشاقة عبر قاديشا.. لكنهم كانوا مصرين.. الدليل السياحي بحوزتهم ينصحهم برحلة الهيكينج hiking عبر الوادي، ولابد أن يفعلوها.. الكل يقول: إن الأمر صعب لكنهم متحمسون للغاية.. ليفعلوها وحدهم إذاً.. بعد ساعات طويلة عادوا من رحلتهم مرهقين يحكون لي ويُرينونني الصور التي التقطوها.. وبقدر ما كان الأمر مرهقا بقدر ما كان ممتعا.. ولا عجب؛ فهذا هو وادي قاديشا، الوادي المقدس! الحلقة القادمة والأخيرة: شجر الأرز إضغط لمشاهدة الفيديو: