احذر.. جريمة الغش للحصول على بطاقة الائتمان تعرضك للحبس وغرامة مليون جنيه    هيئة الرقابة المالية تصدر قواعد مزاولة نشاط إدارة برامج الرعاية الصحية    مصر تقرر حظر استيراد السكر لمدة 3 أشهر    مسئول أممي: لا أحد بمنأى عن مخاطر تغير المناخ.. والشرق الأوسط من أكثر المناطق تأثرا    حماس تدعو لتصعيد المقاومة والثأر لشهيدي الخليل    فاو: 75 مليون دولار مطلوبة لإنقاذ غزة من المجاعة.. والسودان يواجه أزمة من صنع الإنسان    الغزاوي يجتمع مع فريق رجال اليد قبل نهائي السوبر المصري بالإمارات    لخلافة صلاح.. جنابري يقترب من ليفربول    وزير السياحة والآثار يتفقد المتحف المصري الكبير لمتابعة حركة الزائرين    أسعار الذهب اليوم.. تعرف على قيمة أعيرة 24 و22 و21    الإيجار القديم بالجيزة: اعرف تصنيف شقتك قبل تطبيق زيادات الإيجار    إنشاء جامعة دمياط التكنولوجية    البحوث الإسلاميَّة: الأزهر يُولِي أبناءه من مختلِف الدول اهتمامًا خاصًّا ورعايةً كاملة    إعلام فلسطيني: وفاة رئيس الأوقاف الإسلامية بالقدس الشيخ عبد العظيم سلهب    الصحفيين الفلسطينيين: الاحتلال يمنع تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب    عبد العاطي يستعرض مع لجنة العلاقات الخارجية ب«الشيوخ» محددات السياسة المصرية    النائب العام يستقبل رئيس وكالة اليوروجست ووفدًا من ممثلي الاتحاد الأوروبي    مستقبل وطن: العامل المصري يمتلك وعيًا سياسيًا قويًا.. واستخدم حقه الدستوري لاختيار ممثليه    الأهلي بطلا لدوري مرتبط سيدات السلة    المصري يحدد ملعبه الثاني لمباريات كأس الكونفدرالية    تحذير عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس واستمرار سقوط الأمطار غدًا    ضبط 3 متهمين فى واقعة إصابة طبيب خلال قافلة طبية بقنا    أمن الإسماعيلية يفحص فيديو طفلة الإشارة    الداعية مصطفى حسني يحث طلاب جامعة عين شمس على المحافظة على الصلاة    بعد استفاقته من الغيبوبة.. محمد صبحي يوجه رسالة ل نقابة المهن التمثيلية من داخل المستشفى (تفاصيل)    وزيرة التنمية المحلية: ندعم جميع المبادرات لوضع الإنسان والإبداع فى صميم الاهتمام    مش هننساك.. أسرة إسماعيل الليثى تعلق صورته مع ابنه ضاضا أمام سرادق العزاء    أغرب عادات الأبراج اليومية.. روتين كل برج    تصريح صادم من المطرب مسلم عن خلافاته مع شقيقته    خالد الجندي: الله يباهي الملائكة بعباده المجتهدين في الطاعات(فيديو)    وزير الصحة يبحث مع نظيره العراقي تدريب الكوادر الطبية العراقية في مصر    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تستعرض جهود مصر في تعزيز الأمن الصحي العالمي    مناقشة تطوير أداء وحدات الرعاية الأولية خلال مؤتمر السكان العالمي    «حققت مليارات الدولارات».. وول ستريت جورنال: حرب غزة صفقة ضخمة للشركات الأمريكية    الشيخ الجندي يكشف فضل انتظار الصلاة والتحضير لها(فيديو)    خالد الجندي: العلاقة في الإسلام تنافسية لا تفضيلية ولا إيثار في العبادات(فيديو)    عبد الغفار: نمتلك 5400 وحدة صحية تعكس صمود الدولة وقدرتها على توسيع التغطية الصحية الشاملة    المتهم في جريمة تلميذ الإسماعيلية استخدم الذكاء الاصطناعي للتخطيط وإخفاء الأدلة    تعليم القاهرة تعلن عن مقترح جداول امتحانات شهر نوفمبر    بتهمة قتل مسنة.. السجن المشدد لعامل بقنا    خالد مرتجي يتحرك قانونيًا ضد أسامة خليل بعد مقال زيزو وأخلاق البوتوكس    مدير التعليم الفني بالمنوفية يتابع سير العملية التعليمية بعدد من المدارس    مصطفى حسني: تجربتي في لجنة تحكيم دولة التلاوة لا تُنسى.. ودوّر على النبي في حياتك    بروتوكول بين الهيئة المصرية البترول ومصر الخير عضو التحالف الوطني لدعم القرى بمطروح    بسبب فشل الأجهزة التنفيذية فى كسح تجمعات المياه…الأمطار تغرق شوارع بورسعيد وتعطل مصالح المواطنين    محمد عبد العزيز: ربما مستحقش تكريمي في مهرجان القاهرة السينمائي بالهرم الذهبي    الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار    عاجل- أشرف صبحي: عائد الطرح الاستثماري في مجال الشباب والرياضة 34 مليار جنيه بين 2018 و2025    نيويورك تايمز: أوكرانيا تواجه خيارا صعبا فى بوكروفسك    التنسيق بين الكهرباء والبيئة لتعظيم استغلال الموارد الطبيعية وتقليل الانبعاثات الكربونية    جراديشار يصدم النادي الأهلي.. ما القصة؟    وزير الصحة يُطلق الاستراتيجية الوطنية للأمراض النادرة    رئيس جامعة قناة السويس يكرّم الفائزين بجائزة الأداء المتميز عن أكتوبر 2025    البورصة المصرية تعلن بدء التداول على أسهم شركة توسع للتخصيم في سوق    باريس سان جيرمان يحدد 130 مليون يورو لرحيل فيتينيا    موعد شهر رمضان 2026.. وأول أيامه فلكيًا    الداخلية تلاحق مروجى السموم.. مقتل مسجلين وضبط أسلحة ومخدرات بالملايين    إعلام فلسطيني: غارات وقصف مدفعي إسرائيلي على غزة وخان يونس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أول أبريل
نشر في صباح الخير يوم 12 - 09 - 2018


بقلم: نجيب محفوظ
فى منتصف الساعة السابعة صباحا وصل على أفندى خليفة إلى المدرسة التى هو سكرتيرها كعادته منذ خمسة عشر عاما وباشر أعماله بالأسلوب الذى تعوده وألفه فصار قطعة من صميم حياته إذ أن كل ساعة من حياته الحكومية كانت تسير على وتيرة واحدة لاتتبدل ولاتتغير يدخل إلى حجرة السكرتارية فيحيى زملاءه - الكاتب والضابطية - تحية الصباح ويجلس إلى مكتبه ثم يحضر عم خليل بالقهوة والماء المثلج فيمضى فى احتسائهما وهو يتحدث إلى القاعدين أو يستمع إليهم ثم يأخذ فى فتح الدفاتر ويراجع ويكتب، ثم تخلو الحجرة حين يذهب الآخرون إلى فناء المدرسة لمراقبة التلاميذ وتنظيم صفوفهم، ثم بعد ساعة من الزمن إلى لقاء الناظر لعرض الأوراق واستشارته فى بعض الأمور وتلقى الأوامر والإرشادات، وإذا جاء اليوم الأول من الشهر ازدحمت حجرته بالمدرسين والموظفين وامتلأت يده بالأوراق المالية فلايزال يوزعها حتى لايبقى إلا وريقات معدودات يودعها جيبه ساعة ريثما يوزعها بدوره أشتاتا على صاحب البيت والقصّاب والبدال، هكذا تدور عجلة حياته فتبدأ من نقطة وتعود إليها ثم تبدأ وتعود بحيث لو شذت عن الخط المرسوم مقدار ذرة - كأن يتأخر عم خليل بالقهوة دقيقة أو يدق الجرس فيبطئ الضابط لحظة فى مغادرة الحجرة - قلق واضطراب واهتز رأسه يمنة ويسرة مثله مثل النائم فى ظل ساقية دائرة إذا وقف الثور لعلة انتفض مستيقظا منزعجا، إلا أن طارئا من الحدثان نزل بساحته أخيرا فبدل طمأنينته رعبا وسكينته قلقا وتفاؤله تشاؤما وكان الكاتب يعلم بخبيئة من دون الآخرين لأنه كان أحب الناس إليه وأقربهم مودة إلى قلبه فلما رآه فى هذا الصباح دنا منه وفنجان قهوته فى يده وسأله همسا:
- كيف حالك؟ فأجابه بصوت ضعيف تمزقه نبرات اليأس:
- يسير من سيئ إلى أسوأ
ألا يوجد بصيص أمل؟
- أبدا.. أبدا.. لابيع ولا شراء، الحركة راكدة والديون متراكمة، والتجار يطالبون ويلحون ولايعذرون وبات شبح الإفلاس منى قاب قوسين أو أدنى فإذا وقع - ولا مرد له - خربت خرابا تاما ودمرت حياتى وحياة أولادى تدميرا وهويت إلى أعماق السجون فتنهد على أفندى من قلب مكلوم وقال بصوت خافت:
- لا أمل فى النجاة.
فسكت الرجل محزونا ثم ذكر أمرا فسأله:
- وعمتك.
- أف.. أف.. لارحمها الله فى دنيا ولا آخرة، إنها تود لو تفقد ذاكرتها كيلا أخطر لها على بال.. ولقد انقطعت عن زيارتها مضطرا منذ حين لأنها لاترانى حتى تصيح فى وجهي: «ماذا جئت تصنع؟، أنا لم أمت بعد!» والمرأة تتبرع كل يوم بمئات الجنيهات للجمعيات الخيرية لا حبا فى الخير ولكن كيلا تخلف لى مالا بعد موتها المتوقع يوما بعد يوم.
فهز الرجل رأسه آسفا وقال:
- ليتك يا على لم ترم بنفسك فى ميدان التجارة غير المأمون.
- هذا هو الكلام الذى لاجدوى منه، ومع هذا هل تنكر أن هذه التجارة هى التى يسرت عليّ أمرى، وجعلت عيشى رغدا وأعانتنى على تربية ستة من الأبناء.
•••
قبل ثلاثين عاما كان على أفندى تلميذا بالمدرسة الابتدائية يجتهد أن يفوز بشهادتها وقد جرّب حظه مرات فى سنين متتابعة فخاب مسعاه فيها جميعا، حتى نفذ صبره وذوى أمله ورأى أبوه أن يفتح له حانوت عطارة فى الغورية لبث فيه عامين يناضل فى معترك الحياة، ولكن لم يكن حظه فى حانوته بأسعد منه فى مدرسته فاضطر إلى إغلاق الدكان، ورجع خائبا إلى بيت أبيه، وهناك فكر فى أمر مستقبله طويلا فوجد أن خير طريقة أو أن الطريقة الوحيدة الباقية لديه هى أن يعود إلى نبش كتبه التى نسج عليها العنكبوت وأن يجرب حظه مرة أخرى كتلميذ مجتهد وان تقدم به العمر، وفعل ونجح، ووظف كاتبا فى وزارة المعارف، واطمأن إلى الحياة بعد أن أشرف على اليأس والقنوط، وغبط نفسه على عمله المضمون الرزق، وأحس فى أعماق نفسه بفخار الرجولة، ونشوة الاستقلال ولما كان عرضة للتنقل إلى أقاصى الوطن آثر - عن حكمة - أن يتزوج - وقد جاب مختلف البلدان فى مصر العليا والسفلى إلى أن انتهى به المطاف رجلا فى ذروة الرجولة إلى مدرسته الحالية فتقلب فى وظائفها جميعا حتى رُقىَّ إلى وظيفة السكرتير.
وكان «على خليفة» مثالا للرجل العادى الذى لايخرج عن المألوف، وانموذجا صادقا للأخلاق، المصطلح عليها والعادات والتقاليد التى يجرى عليها العرف، لايشذ إلى اليسار ولا يجنح إلى اليمين، وجد كل شىء جاهزا فهش له وآمن به واتبعه معتقدا مع المعتقدين، مستحسنا مع المستحسنين، ساخطا مع الساخطين، فإن عرفت جيله فقد عرفته بغير مخالطة، وإن خبرته فقد خبرت جيلا أو - هو الأقرب إلى الحقيقة - خبرت الشطر الجامد من الجيل الذى يفتحه التاريخ إلى ما ورائه من الأحداث التى تخلق التاريخ، ولما تزوج استولت عليه الحياة الجديدة، واستبدت به وتكشفت له حقيقته فإذا به «رجل بيت» بكل معنى الكلمة، فالبيت مأواه ولذته، لا مقهى ولا ملهى ولاسينما ولاحانة ولا أصدقاء ولا هوية ولا أى شىء فى الوجود بقادر على أن ينتزعه من أحضان بيته، وحين كان يعيش منفردا مع زوجه كانت حبيبة وأنيسة وجليسة فلما أن انبثت ذريته - بنين وبٌنية - حابية ساعية لاعبة مشرفة على أنحاء البيت، كان له منها الحبيب والهوية والمأوى يسكن إليه.
وكانت الحياة تسير فى بادئ الأمر هنيئة جميلة ممتعة لايكدر صفوها مكدر، ولايظلل صفحتها البيضاء ظل من الحزن أو الفكر، ولكنها لم تلبث أن فرضت عليه ضريبتها التى لاتعفى منها أحدا من بنى الإنسان حتى صارت عنوانا عليها ورمزا لها وباتت الشكوى منها إنكارا للحياة نفسها وجهلا فاضحا بأمرها، فمات أبوه ونما أطفاله صبيانا وغلمانا وهجروا عشقهم سعيا إلى المدارس الأولية فالابتدائية ثم الثانوية، وتعددت حوائجهم، وتشعبت مطالبهم، وتضاعفت نفقاتهم يوما بعد يوم، فانقلب يسر الحياة عسرا، وراحتها تعبا، وابتسامتها تجهما وانسابت الهموم إلى كل جانب من قلبه، وطفق يردد لنفسه أن كل شىء يهون إلا أن يشقى أو يشكو هؤلاء الأبناء الأعزة، وتذكر أن له عمة أرملة غنية تعيش بمفردها فى بيت كبير تحت رعاية ممرضة وكان يتجافاها وينفر منها من طول ما بث أبوه فى نفسه ففكر فى أن يقصد إليها مضطرا، وكانت عمته امرأة فى السبعين مات عنها زوجها - قبل أربعين عاما - وهما فى زهرة العمر وميعة الشباب، وخلف لها ثروة طائلة وطفلا وحيدا، وقد ترك موت الزوج فى نفس المرأة آثارا عميقة مروعة تغلغلت فى صميم حياتها، ولم تعف مع كر الأعوام ودوران السنين، وأقبلت على العزاء الوحيد الذى بقى فى دنياها تمنحه كل ما فى قلبها الحنون من عطف وحدب وتفان وتضحية، حتى شب طفلا جميلا، ونما شابا رقيقا نحيلا، وبدأت تفكر فى أمر زواجه كى تراه رب أسرة وتسعد بمشاهدة ذريته، إلا أن الأقدار فاجأتها بما لم يقع لها فى حسبان فتردى الابن كما تردى أبوه العزيز من قبل مصدورا ميئوسا منه، وقضى بين السعال من جانبه والتنهد والبكاء من جانبها.
انتهى كل شىء وأقفرت الدنيا من الأمل والعزاء وماتت حية ودفنت مع ولدها الحبيب كل ما ميزها الله به فكانها صارت من الأحجار الجامدة، وصدق عليها كل ما وصفها به أخوها من قبل وما يصفها به ابنه الآن فهى المرأة العجوز القاسية المجنونة التى تكره الخلق وعلى رأسهم أقاربها، وتسئ الظن بكل من يتقرب إليها وتخال أى زائر طامعا فى أموالها، وتقضى حياة الكبر طريحة الفراش مريضة القلب تسهر عليها ممرضة فى بيتها المهجور كأنها مومياء فى أحد معابد الكرنك الحزينة.
هذه هى عمته التى قصد إليها بعد أن اشتدت وطأة الحاجة عليه، وقد استقبلته استقبالا باردا جافا، فلم يأنس فى نفسه الشجاعة أن يفاتحها فيما جاء من أجله، وبرح بيتها أشد يأسا مما طرقه.
وقلّب مسألته على جميع الوجوه فلاح له أن يشتغل بالتجارة وهو حل لابأس به ولكنه شديد الخطورة بالنسبة لموظف حكومى ولكنه لم ييأس واستعان بالكتمان والخفاء وبخبرته التجارية التى اكتسبها فى أول عهده بالحياة العملية، فتاجر فى العطارة ونجحت تجارته، وأقبلت عليه الحياة رغدة ولكن حال النجاح لم تدم فساءت الأمور وركدت السوق النافقة فجزع واشتد جزعه ولعبت يداه فى الدفاتر بغير حق، ولم ينفعه تلاعبه شيئا، وسارت الأمورمن سيئ إلى أسوأ، واضطر - تحت تأثير الخسران إلى زيارة عمته مرات وفاتحها - على رغم تردده - فى طلب المعونة ولكنها كانت أشد عليه من حظه ومن الأقدار جميعا فرفضت أن تمد له يدا أو أن تعيره أذانا صاغية وفى ذلك الوقت بلغت الأمور شدة الفيضان الذى لايكون وراءه إلا الانفجار والهلاك، فالعمة فى أشد حالات الشذوذ وسوء الطبع والمرض، وعلى أفندى على شفا جرف هارِ من الخراب والدمار، والتجار متذمرون جزعون، يطالبون ويلحفون ويطبعون على آذانهم فلايسمعون وقد عينوا له أول أبريل كآخر منزع فى قوس صبرهم فإن لم يسدد دينه ويسوى حالته أشهر إفلاسه وليكن ما يكون بعد ذلك من رفضه من وظيفته أو إيداعه السجن.. كل هذا ينتظره فى أول أبريل، وما بينه وبين أول أبريل إلا أيام معدودات، وقد نفدت حيلته وسُدت فى وجهه المنافذ!، ثم ماذا يكون من أمر هذه الأسرة التى تعيش سعيدة مطمئنة غافلة عما يهددها من الشقاء واليأس اللهم إلا ربتها الصابرة القانتة التى تشارك الزوج أحزانه وتبادله همومه وتكتم فى قلبها الكبير ما لو أطلقته لأحرق الدنيا بأسرها من شدة ما به من هول، ولأحرق أول ما يحرق هؤلاء الأبناء السعداء الذين يمرحون سادرين كالأفراخ اللاعبة الغافلة عن القط الرابض لها من قريب، وذكر فى شدة حزنه أبناءه فهرعوا إلى مخيلته فى صورة تفيض حياة وجمالا، وكان حسين ومحمد فى المدرسة الثانوية فتيين ناميين يحملان طلعة والدهما ورقة أمهما، وهمام وحافظ ويسن فى المدرسة الابتدائية وهم حياة البيت يحيا ويمتلئ هرجا ومرجا ماداموا فيه، ويسكن سكون المقابر إذا غابوا عنه وزينب أو زوزو فى المدرسة الأولية هوية الأسرة ولعبتها، صبوحة الوجه، سوداء العينين، مرسلة الشعر، كانت نبتا بين ستة ذكور كالياسمينة وسط باقة من الورد الندى، حبيبة إلى كل قلب، عزيزة على كل نفس حتى لكأن هذه الأسرة لم يتزاوج فيها الوالدان ويولد الأبناء إلا ليهيئوا المقام لزوزو حيث كانت حُسن الختام ونقطة الانسجام فماذا يكون من هذه الأسرة من بعده؟ بعد أن يُرفض من وظيفته ويزج به فى السجن؟
أواه! دون ذلك ويمكن المستحيل وتقع المعجزات والخوارق!
ولم يجد مناصا من أن يذهب مرة أخرى إلى عمته علّها تلين بعد طول التصلب والصلف والقسوة فسار فى طريقه إليها، وكانت تقيم على مدى منه قريب فى شارع محمد على مهموما متضايقا يعمل ألف حساب لتلك الزيارة الاضطراية الثقيلة، يا الله من هذه المرأة؟.. مالها لاتموت؟ إن حياتها فرض ثقيل عليها وعليه، وإنها كالبنيان المتهدم ينعق فيه ناعق الخراب والمرض، ورغم هذا فذيول الحياة ماتزال متشبثة بها، إن سعادة نفوس عزيزة رهن بموتها فلم يبق الله عليها؟! والضحك المؤلم أنها قد تموت فجأة بداء قلبها بعد اليوم الأول من أبريل بساعات معدودات أو بعد القضاء عليه وعلى أسرته القضاء المبرم، وقد ينفذ هذا القضاء العجيب كما ينفذ أمثاله كل يوم وكل حين مما تحتار فى تعليله العقول، وقديما وقف موسى الكليم حياله جزعا لايستطيع معه صبرا وطرق الباب ودخل حيث قابلته الممرضة بابتسامة صفراء ذات معنى فسألها:
- كيف حالها؟
فأجابته ببرود: بخير.
ووصل إلى مسمعه صوت رفيع مبحوح تدل بشاعته على أنه يخرج من فم خرب يسأل:
- من الذى تكلمين يا عائشة؟
- فارتجف جسمه وسرت فيه قشعريرة مثل مس الكهرباء، وتردد، وجمد ثم كزَّ على أسنانه ودخل إلى الحجرة وهو يقول:
- أنا على.. كيف حالك يا عمتي؟
- فدمدمت وقالت بتأفف وتبرم: على!
فأحنى رأسه ووقف صامتا وعادت هى إلى سؤاله قائلة:
- هل جئت حقا لتطمئن على صحتى؟
- نعم
- وهل يهمك أمر صحتي؟
- طبعا.
- إذا لم تخلط السؤال عنها بسؤال شىء آخر.
فضرب كفا بكف وقال بصوت حزين:
- لاتظنى بى الظنون.. فقد عشت دهرا لا أسألك شيئا ثم..
- ولم تكن ترينى وجهك بتاتا.. ولم تكن صحتى أمرا يهمك السؤال عنه..
- بالله أعيرينى أذنا صاغية.. لقد شرحت لك أحوالى.. أنا مهدد بالخراب بين لحظة وأخرى، اصرفينى عن ذهنك واذكرى أبنائى البؤساء وما ينتظرهم من شقاء.
- لم أر أبناءك طوال حياتى.
فآلمته لهجتها التهكمية وحمى رأسه بنار الغضب ولكنه لم يكن فى حال يأذن له بإعلان ما يبطن فنظر إليها نظرة النمر الواقع فى الشرك وقال وهو يجهد أن يجعل صوته هادئا:
- إذا منعت عنى يدك دمرت لا محالة وهنا هبت قاعدة فى فراشها وصاحت فى وجهه:
- فى داهية!
- عمتى..
- لست عمة لأحد
- لا تكونى هكذا
- هكذا أنا.. أغرب عنى ولا ترينى وجهك مرة أخرى.
وحاول أن يقول شيئا ولكن لم يسعه الكلام فجمد لحظة حيث هو ملتهب العينين محمى الرأس، مرتعش الأطراف، ثم غاب عن ناظريها، ولقى فى الخارج الممرضة واقفة تنصت، فقابلته بنفس الابتسامة وقالت:
- ككل مرة؟!
- فهز رأسه غاضبا وقال:
- إنها شر ما فى الوجود.. إننى أعجب كيف يواتيك الصبر على معاشرتها؟
- إنى أقوم بواجبى.. وهى على كل حال لا تعاملنى نفس المعاملة.
وتوقف لحظة لايدرى ما ينبغى أن يفعل فلاحت منه التفاتة إلى مائدة صغيرة رصت عليها زجاجات الدواء فتنهد وقال بغير وعى:
لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
ولم تكن المرة الأولى التى تسمعه فيها الممرضة يقول هذا القول فارتاعت لتكراره وردت قوله مرتعبة:
- لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
فنظر إليها بسرعة مرتجفا والتقت عيناهما لحظة فلمع بينهما ما يشبه البرق ثم خرج مهرولا وهو ينتفض من هول ما خطر على باله، وهبط السلم مسرعا كأنما يفر فرارا.
وجاء اليوم الأول من أبريل، والأيام تسير فى دائرتها المفرغة غير عابئة بما تحمل للناس من مسرات وأهوال، لا اختلاف فى هذا بين يوم التطير أو يوم التفاؤل، ولم يكن هذا اليوم جديدا فى العام ولا جديدا فى حياة على أفندى ولكن خُيل إليه هذا الصباح أنه يستقبله لأول مرة فى حياته بل عجب كيف أمكن أن يوجد كبقية الأيام وكيف أمكن أن يأخذ مكانه الطبيعى بين أيام السنة وهو يحمل له نذير الخراب ولأسرته الشقاء والفناء!
أواه.. إن موعده مع التجار أصيل هذا اليوم، ولدى هذا الأصيل يتقرر مصيره وأنه ليعلم علم اليقين أى طريق هو موليها بعد حين قليل- بعد ساعات سريعة الجريان ومع هذا فها هو ذا يجلس إلى مكتبه يرتشف القهوة ويقلب الأوراق ويشترك فى الحديث مع هذا وذاك، وكل من حوله منصرف إلى عمله والتلاميذ فى الفناء يضجون ويلعبون والحجرة هى هى، والمدرسة هى هى والدنيا كلها هى هى كأن شيئا لن يحدث وكأن دمارا مروعا لا يوشك أن ينزل بحياة أسرة كبيرة فيذروها ذر الرياح!
والمضحك بعد هذا أن يقال إن الإنسان حيوان عاقل، وهل يستطيع إنسان أن يرد بنور عقله قضاء يعجز الحيوان عن رده لانعدام عقله؟ ها هو ذا لا يستطيع أن يصرف عن نفسه دمارا- مما يجهل قريب لا يستطيع حياله تصريفا، حقا إن الحياة مأساة مؤلمة مضحكة، ما الذى ينبغى أن يفعل؟ إنه يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة المائة والألف، ولا يملك إلا تكراره وترديده كالمخبول.. وقد سمع فجأة صوتا يقول:
حان الميعاد.
فارتجف جسمه وانخلع قلبه فى صدره، الميعاد.. إنه لا يفكر إلا فى ميعاد واحد ولكن الصوت استطرد مرة أخرى ضاحكا:
- الساعة تدور فى الحادية عشر فهيا إلى الوزارة لإحضار المرتبات.
حقا إن اليوم يوم المرتبات، ينتظره آلاف غيره بفارغ الصبر فكيف نسى هذا؟ وخرج متثقالا مهموما يولى وجهه شطر الوزارة. وعلى حين فجأة وبغير تمهيد واع اصطدم فكره الشارد المتوزع فى محيط الشقاء بفكرة وامضة فتنبهت حواسه، وشع من عينيه بريق خاطف، وأحاط به الرعب الذى مسه حين التقت عيناه بعينى الممرضة فى بيت عمته بالأمس القريب، لاحت له هذه الفكرة فى لحظة سريعة جنونية، رأها كمن يفتح عينين ناعستين فى الظلام فتلمحان على غير توقع شبح شيطان نارى يهدد ثانية ثم يختفى تاركا خلفه الصرع والجنون.
وقد جن بغير شك، واستولت عليه الفكرة بقوة مارد مستبد، أى رعب أى شر، أى مصيبة، أى نجاة، أى فكرة نيرة، أى خلاص، أى دمار، أى هول، إنهاتحمل جميع هذه المتناقضات إلى نفسه المضطربة المريضة، وإن من اليأس ما يعجز عن قلقة ذرة من الرمال ومنه ما يزحزح الجبال، وقد جرى منطقه المحموم فى طريق ذى عوج: إذا سرق كان جزاؤه المحتوم الرفت والسجن، ولكن إذا لم يسرق لم ينج لا من الرفت ولا من السجن، إلا أن النتيجة مع السرقة تختلف فهو بها يستطيع أن يكسب التجار وينقذ تجارته فيضمن لأسرته- وأسرته هى قطب تفكيره- حياة رغدة سعيدة، بل إنه ينوى ما هو شر من هذا وأعظم رعبا، إنه ينوى أن يراود الممرضة- بسلطان المال- على.. ! حقا إن هذا فظيع مخيف، ولكن تأخير الدواء لحظة كفيل بالقضاء على تلك المرأة الشريرة التى تقع من حياته موقع الزائدة الدودية الملتهبة، حقا إنها جريمة نكراء ولكنها مضمونة العاقبة وعادلة من الوجهة الإنسانية ونفاذها يضمن لأسرته أرغد العيش وأطيبه، وهب أن الممرضة أبت عليه تحقيق غرضه فلن يضيره إباؤها شيئآ، وتبقى بعد هذا تجارته، وهذا شىء مؤكد.
نعم إن السجن لا مفر منه ولكنها سنوات قلائل يقضيها- مع الاطمئنان على أسرته- صابرا ويخرج بعدها كى يتمتع بعيشة هانئة ثرية فى مكان سحيق.. كل هذا واضح بين ولابد من تنفيذه بدقائقه، وليكن بعده ما يكون.
واستلم المال واستقل «تاكسى» وقال للسائق بصوت حاول ما استطاع أن يجعله هادئا: إلى شارع محمد على، نعم إلى البيت لا إلى المدرسة حيث يجد متسعا للتفكير والتدبير، كم هو مرتعب خائف، إن أسنانه تصطك وأطرافه تنتفض، وأجفان عينيه تتصلب، وريقه يجف، وأنفاسه تبطئ وتثقل كأن يدا جبارة تخنقه، ووصلت السيارة إلى شارع محمدعلى، ود لو لم تصل إليه أبدا، وكان قد دبر الأمر كله فى عقله ولكنه شعر فى تلك اللحظة بأنه فى حاجة إلى معاودة التفكير مرة أخرى من مبدئه كأنه لم يطرقه بعد، وهنا اعترضت الطريق عربة كبيرة عرقلت حركة المرور فاضطر السائق إلى إيقاف السيارة فنظر إلى الأمام ليستطلع ما هنالك فرأى العربة وإلى جانبها شرطى يهدد سائقها، رباه! لقد أرعبه مشهد الشرطى وأثلج دمه فى عروقه، وهم أن يأمر السائق بالرجوع، وعلى حين فجأة سمع صوتا يناديه قائلا:
- بابا..
الأسبوع القادم - بقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.