ولد خليل بعد وفاة أبيه ببضعة أسابيع، ولم يكن اليتم أشد ما ادخرته له الحياة، لأن أباه كان قد عاش عهدى الشباب والكهولة فى فقر مدقع قضى به عليه نزاع بينه وبين أبناء عمومته على قطعة كبيرة من الأرض ما زال يؤجل الفصل فيه أمام المحاكم أعوامًا كثيرة حتى تقضت حياة الرجل فى ضيق، وشب الطفل بين أحضان أمه مع إخوة ثلاثة له يعيشون جميعًا على ريع ثلاثة فدادين لأمهم، فكان من أمر الإخوة الثلاثة أن عملوا فى الحقل على قناعة بما قسم لهم فى حاضرهم، وعلى أمل أن يعوضهم الله عن جهدهم وصبرهم خيرًا فى مستقبلهم، وكان من حظ خليل أن أرسل إلى الكتاب ثم إلى مدرسة الزقازيق الابتدائية على كره من إخوته، وآزره النجاح فنال الشهادة الابتدائية وأدخل المدرسة الثانوية، ومازال مثابرًا على نشاطه صابرًا على فقره حتى نال شهادة الكفاءة، وبث النجاح فى نفسه إيمانًا وطيدًا وعزمًا أكيدًا وثقة مطمئنة، لولا أن قدّر لحياته غير ما بشرته به طلائعها فزلّت به القدم وخانه الحظ فسقط فى امتحان البكالوريا، وأذهله السقوط إذ باغته من حيث لم يقدّر فصكّه صكًا وزعزع ثقته بنفسه، ولم يستطع البقاء فى المدرسة معفى من المصروفات المدرسية فرجع إلى قريته حزينًا ينوى صادق النية أن يدرس فى داره ويتقدم إلى الامتحان مرة أخرى، ولكن كانت الحياة شاقة مضطربة يكتنفها القلق والانزعاج إذ إن إخوته ضايقهم أن يقبع فى عقر داره مطمئنًا بين كتبه ويجهدوا هم أنفسهم طيلة يومهم، فران الهم على صدره وتقهقر درجات وهوى لدى الامتحان فكان سقوطه هذه المرة أنكى من المرة الأولى وأشد وسرعان ما انبرى به إخوته قائلين: إما العمل معنا فى الحقل وإما أن نرى لك رأيًا غير المذاكرة، فساءه تعصبهم عليه واستبدادهم به فحزم أمتعته وقال لهم غاضبًا: «لا عجب أن يتربص بنا أبناء عمنا ويقيدونا بالفقر كما قيدوا أبانا من قبل، مادمت- وأنتم إخوتي- تأخذكم القسوة عليّ فتفسدون مستقبلى.. فلتكن أمنيتكم، وهأنذا هاجركم وهاجر القرية والمديرية، ولسوف يأتيكم نبأى بعد حين»، وترك القرية غير مستمع إلى توسلات، يدفعه الغضب الشديد، ويخيل إليه أنه سيغزو المدن ويقهر البلدان، ويلم المال حتى يعلو شأنه عن كل شأن. وكان له قريب يدعى عبدالباسط الغر، يدير مدرسة أهلية فى العاصمة، فجعل غايته إليه، وبنى آماله عليه. وكان خليل يبدو محافظًا على دينه، وإن وقف به إسلامه عند حدود المظاهر، فكان يصلى الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويقرأ القرآن، ولكن قل أن تهتز نفسه لعواطف الإيمان العميق، أو تنبعث فى قلبه خلجات التدين الصادقة، ولذا أمكن أن تستقر فى وجدانه آراء يبرأ منها التدين والأخلاق الفاضلة كإيمانه بالشطارة واعتقاده أنها فضيلة مادامت تعين على العيش والظفر فى معترك الحياة.. ولم يتحرج من الكذب والرياء والاحتيال مادامت هذه جميعها من دعائم الشطارة التى تسدد خطاها نحو أهدافها النافعة، ولم يتنبه ضميره إلى التنافر القائم بين هذه المبادئ خيرها وشرها فنجا من الأزمات النفسية والأخلاقية كأنه أشخاص مستقلون فى كينونة واحدة، وظل راضيًا هادئًا يعمل لدينه بما يفرضه عليه من العبادات، ويعمل لدنياه بما يغريه به الهوى، وسار فى طريق الحياة قدمًا تدفعه هذه البواعث المتناقضة كأنه آلة صماء يستعين بها الطبيب على إنقاذ النفوس ويستعملها الأثيم فى إزهاق الأرواح الأبرياء.. وعلى هذا النحو كان تلميذًا مجتهدًا متعبدًا، ولكنه استعمل مكره وحيلته، فشارك الآكل طعامه، والمكسو ثيابه، والقارئ كتبه، حتى ساءت سمعته وامتهن ذكره، وخاض التلاميذ فى سيرته، ولكنه كان يعد نفسه دائمًا المظفر المنتصر مادام يستطيع الاحتيال على أساس العيش، وهون عليه الفقر كبرياؤه وكرامته. ••• حط خليل فى القاهرة وقصد لساعته- مستعينًا بإرشاد الناس- إلى شبرا حيث قريبه الناظر. وكان الرجل يقيم فى بيت كبير قديم، مكوّن من طابقين، جعل من الطابق الأول فصول مدرسته، ومن الثانى نصفه للإدارة ونصفه سكنًا له، وكانت زيارة خليل مفاجأة لم يتوقعها فرحب به قائلاً: «أهلاً وسهلاً.. كيف حال والدتك وإخوتك؟ أهلاً.. أهلاً.. لم لمْ تنبئنى بمجيئك؟» فأجابه مبتسمًا: «لأنى حتى مساء الأمس لم يخطر لى السفر على ذهن، ولم أكن أقدر أنى تارك القرية قبل استدارة عام دراسى كامل»، فبدت الدهشة على وجه الناظر وتساءلت عيناه، فاستطرد خليل قائلاً بلهجة حزينة: «ضاق بى إخوتى وضقت بهم فالتمعت فى ذهنى فكرة الهجرة، وسرعان ما أبرزتها إرادتى إلى حيز الحقيقة فارتحلت عنهم»، فضحك الأستاذ وقال: «إن تاريخ أسرتنا يتلخص فى قصة نزاع شقى منذ القدم، يأكل فيه أبناء العم أبناء عمومهم، والإخوة أبناء أبيهم، وعلى كل حال فحسنًا فعلت فإن القرية لتضيق على مواهبك، ولكن على فكرة.. قل لى ما شأن قضيتكم الآن؟» فلم يتمالك خليل نفسه من الضحك وقال: «كعهدك بها، ميتة حتى يأذن الله فيبعثها.. وقد قابلنا المحامى منذ أجل قريب فوعدنا ومنانا وما يعدنا إلا هواء كما وعد أمنًا من قبل، وكما وعد أبانا محاميه رحمة الله عليهما من قبل القبل.. «كل شيء رهن بمشيئة الله فاصبر الصبر الجميل والآن أخبرنى علام عزمت؟» فنظر إليه بعينين مستطلعتين وقال: «أرغب فى أن جد عملاً» «أى عمل؟» «آمل أن أجد فى مدرستك وظيفة مناسبة» فصمت الأستاذ مفكرًا لحظة ثم قال: «أظنك لم تحصل بعد على البكالوريا؟» «نعم ولكن معلوماتى لا تقل عن أحد من حامليها» «فليكن.. فإن عندى مدرسين لا يحملون سوى الكفاءة.. فما هى المواد التى ترى أن تدرسها؟» فأنعش الأمل نفس خليل وتيقظت ثقته بنفسه وتنبهت شطارته فقال بثبات: «كل ما تعهد به إلى.. عربى.. إنجليزى.. حساب.. رسم.. ديانة.. ألعاب رياضية». «حسن.. وفضلا عن ذلك فسأعهد إليك بقسط فى إدارة الحفلات» «أى حفلات..؟» «الحفلات المدرسية.. التى تدر على المدرسة ريعها الحقيقى خاصة بعد أن أصبحت الإعانة الوزارية غير مضمونة». «وما سبب ذلك والوزارة لا تنى عن تشجيع المدارس الأهلية..؟» فتنهد الأستاذ وقال: «لأنى تورطت فى تأييد الوزارة السابقة وخطبت فى حفل عام أقيم لتكريم الرئيس المستقيل، ولا أظن الوزارة الحاضرة- والعداوة بين حزبها وحزب الوزارة المستقيلة مشهورة- تنسى هذا «للعبد لله» وعلى كل حال انتظر فستعلم كل شيء فى حينه». ••• ومن غداة اليوم التالى ابتدأ الأستاذ خليل عمله كمدرس، ولم يكن ذا استعداد خاص للتعليم، ولكن ذخيرته من الحياة أيدته بالقوة والثقة فقام خير قيام بما يتطلبه عمله من الثبات والظهور بمظهر العلم والعرفان وألهمته مواهبه ما يسوس به الأطفال ويضبط النظام؛ على أنه لم يلبث أن فطن إلى أن جميع زملائه يستندون فى الغالب إلى التهويش والتضليل لا إلى العمل الصادق والدرس الحق، فاطمأنت نفسه وهوش وضلل وكان من المتفوقين، وكان يهاب قريبه وناظره ويعمل له الحساب، ولكنه- بطول الممارسة- اطلع على خبيئة نفسه، فألفاه لا يحتفل بالتربية والنظام احتفاله بالحفلات وإيراداتها، ففى الحفل المدرسى توزع بطاقات الدعوة بالمئات على أولياء أمور التلاميذ، وبالعشرات على كبراء الحى وأغنيائه، وفى أثناء الحفل يدور صغار التلاميذ على كبار المدعوين بالورد وغيره من الأشياء الخفيفة الثمن فيدفع المتورطون منهم ثمنه أضعافًا مساهمة فى تنشئة الفقراء.. وكانت وظائف القائمين على هذه الحفلات أقرب ما تكون شبها بوظائف محصلى الضرائب، وقد لعب الأستاذ خليل دوره بمهارة جلبت له العطف والثقة فأضحى لدى ناظره فى منزل مكين. ولدى نهاية الشهر الأول من حياته الجديدة قصد مع القاصدين إلى حجرة سكرتير المدرسة، ليقبض مرتبه- ولم يكن قد سأل عنه تأدبًا منه واطمئنانًا إلى تقدير قريبه- ولشد ما كانت دهشته حين سلمه الرجل ثلاثة جنيهات لا غير، وراجعه فى الأمر ولكن الرجل أكد له أنه سلمه مرتبه بالكامل، فهرول إلى حجرة الناظر والجنيهات فى يده، وما إن رأى الرجل «المرتب» فى يده وطالع الدهشة المرتسمة على وجهه حتى فهم بداهة ما وراءها، فابتسم ابتسامة صفراء وقال بهدوء:- «أغير راض أنت؟...» طبعًا.. خصوصًا أنى أرى أن من المدرسين- ممن هم دونى عملاً ونشاطًا- من يجاوز مرتبهم الخمسة جنيهات أو يزيد...» فاستطرد الرجل وهو لايزال محافظًا على هدوئه:- «لا يغرنك قولهم ولا ما هو مقرر لهم، فهذا شيء والقبض شيء آخر.. وثق أنك أوفرهم حظًا، ولا تنس أنك تشاركنى سكنى وأنى لن أغفلك من المكافأة كل حفل مدرسى». «هذا حسن، ولكن...» «لا لكن يا أستاذ خليل، أنت قريبى ويعز على أن تشكو، ولكن ما حيلتى وأنا مدير أعمال خاسرة لا تكاد أرباحها تفى بمتاعبها؟.. فلتقنع بهذا الآن وعزاؤك أن إخوانك لا يجدون فى الحكومة عملا، وإذا وجدوا فلن يطمعوا فى مثل مرتبك هذا». وهنا ذكر غضبته الفرعونية أمام إخوته وتلويحه لهم بقبضة يده وهو يقول: «ولسوف يأتيكم نبأى بعد حين» فشعر بخزى قاتل وخيبة أمل مريرة. إذا كان الأمر كذلك فينبغى أن يرى لنفسه حيلة، وهل تنقصه الحيلة؟ وها هى ذى المظاهر جميعًا- من عبادة وصلاة وتلاوة قرآن- تدفع عنه الظنون وتنفى عنه الريب، أو فما أهون الحياة جميعًا وما أعبث الجهد يضيع فى سبيلها. واستأنف أساليب الحياة التى كان يتبعها بإخلاص على عهد التلمذة فى مدرسة الزقازيق، وتربص بالحفلات المدرسية التى قال الناظر إنها تدر على المدرسة ريعها الحقيقى، تلك الحفلات المغرية حيث تتراكم بطاقات الدعوة أكداسًا، أكداسًا وتتجمع التبرعات من كل صوب، ويسهل اللعب على من كان مثله نشيطًا شاطرًا حذقًا، وجرت يده فى خفة ودبت الحياة فى جيوبه المهجورة فاطمأن نوعًا إلى الحياة واستطاع أن يمتع نفسه ببعض ليالى القاهرة الفاتنة طورًا فى المقاهى وطورًا فى الحانات، ولكن الأيام لم تتركه فى غيه يهمع فلم يلبث أن أحس بمراجعة رئيسه تحيط به، وبحذره يأخذ عليه المسالك، فكف مقهورًا خيفة أن يفقد الرهان كله ويخرج «من المولد بلا حمص» ولكن أنى له الصبر ونداءات الشهوات لا تخمد لها نار فى قلبه أو يخف لها صراخ! وهداه تحريه إلى مقهى قريب من المدرسة تسهر فيه شرذمة من إخوانه المدرسين يلعبون الورق إلى ساعة متأخرة من الليل فارتأى أن يسلك جماعتهم وأن يجرب حظه، وقد قابلوا رغبته بدهشة لا تخفى لأنهم ظنوه بادئ الأمر حنبليًا لا يراجع نداء دينه الحنيف إلا واحدًا منهم تحداه بنظرة ظفر وقال وهو يقهقه: «ألم أقل لكم إنى أعلم ما لا تعلمون؟» وشاركهم فى لعبهم، وجاء الحظ مخيبًا لآماله، فتنبهت فيه غريزة الشطارة وانصرف بكليته إلى ترويض يده على الخفة والرشاقة.. وسرعان ما تنبه الرفاق إلى هذا الرابح أبدًا.. وكان من العسير أن يخفى سره إلى الأبد فحامت حوله الشبهات، وتجلت فى عيون لاعبيه الريبة والحذر؛ ومازالوا يدافعونه حتى قاطعوه صراحة ونحّوه عن مائدتهم فآب ملومًا محسورًا. ومرت عليه الأيام الطويلة وهو يعانى الفقر واليأس، وأخيرًا فتش فى جعبته فلم يجد سوى الاقتراض مخففًا عن نفسه ومشبعًا لرغباته وشهواته فاقترض، اقترض من الناظر من المدرسين ومن البواب نفسه، ولما طولب بأداء الدين ماطل وسوّف وأجل وتهرّب، فارتفعت الشكوى منه على كل لسان، واضطر سكرتير المدرسة أن يحجز على مرتبه فلم يف بالمبالغ المطلوبة، وهنا اشتد الغضب بالناظر واستدعاه إليه وقال له معنّفًا: «إنك تخيب أملى فيك، وتضعنى فى مركز دقيق أمام مرءوسى، وإنى أصارحك بأنى لن أصبر على تصرفاتك بعد الآن». ثم جمع إليه الموظفين وقال لهم فى لهجة حازمة قاطعة: «من يقرض خليلاً بعد الآن فستقع عليه تبعة عمله.. ولن يكون مرتبه ضمانة لأحد...» وهكذا وجد نفسه فى عزلة رهيبة، يعيش بين أناس لا تربطهم به صلة عطف أو مودة، يضيقون به ويضيق بهم، ويتحاشونه ويتحاشاهم، فأحاط به الهم وعاش عيشة نكدة يتحمل الحرمان فى جزع، ويتلهف على الأمل يمينًا وشمالاً فلا يلقى إلا وجه القنوط يطالعه فى كل مكان. ••• وفى أول مارس دس الجنيهات الثلاثة فى صدره وترك المدرسة هائمًا وإخوانه يتغامزون، ولم يلتفت إليهم لأنه كان مشغولاً بإشباعه نهمه فى حدود الأغلال التى قيده بها الدهر، ولم يكن يبرأ- حتى فى هذا اليوم السعيد يوم أول الشهر- من الابتئاس والكآبة، لأنه يعلم أنه لا يملك حق التصرف فى المبلغ الذى معه على ما يشتهى وإلا عرض نفسه لثلاثين يومًا قاحلة ينسى فقر ساعة منها ليل هذا اليوم السعيد، ولكنه لم يدر بخلده حسبان تلك المفاجأة التى كان يدّخرها له الدهر. ففيم هو يضرب فى الأرض إذ رأى رجلاً يمر به مسرعًا، عرفه من النظرة الأولى، فأسرع نحوه حتى لحق به، وأحس به الرجل فتوقف والتفت إليه واستولت عليه الدهشة فصاح:- «خليل أفندى.. ما الذى أتى بك إلى هنا؟ إنها مصادفة عجيبة تجمعنى بك حين أفكر فيك، فتعجب معى وأشكر الله كثيرًا.. «ولم تفكر فيّ يا حضرة المحامي؟» «كى أبشرك يا سيدى فقد كسبتم القضية وردت إليكم أرض أبيكم وريعها المتجمع... وكانت كل كلمة تخرج من فم المحامى تهز قلب خليل هزًا عنيفًا حتى خارت قواه وأحس أن الأرض تميد به فاستند إلى الحائط، أنه فرح فوق ما يحتمل، أما المحامى فاستطرد وهو يهم بالمسير:- إنى مسافر هذا المساء إلى الزقازيق، وسوف أقابل إخوتك غدًا...» «خذنى معك...» «إذا شئت.. ولكن ينبغى أن تعلم أن أمامكم عدة أيام- ربما بلغت الأسبوع- تتم فيها بعض الإجراءات القانونية قبل أن تتسلموا أموالكم. «إيه...» فاه بها وقد جمد وجهه، فضحك الأستاذ وقال: «أحرى بمن انتظر السنين راغبًا أن ينتظر الأيام راضيًا».. فليكن، لقد أصبحت السعادة منه قاب قوسين أو أدنى، ورأى أن من الحكمة أن ينتظر هذه الأيام فى القاهرة لأنه كره أن يقيم بين إخوته فقيرًا، ولو أيامًا معدودات وهو الذى هجرهم غاضبًا متكبرًا. وإنها لسعادة عظمى أن ينتقل الإنسان فجأة من الفقر إلى الغنى، شبيه به أن يجد عبد نفسه على عرش دولة من السادة، فأى سعادة بعد بؤس، وعز إثر ذل، وظفر عقب خذلان؟ وقد تحسست يده محفظته فشعر بغبطة، وذكر أمانيه منذ لحظة فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عذبة وهمس لضميره: «أستطيع أن أعيش أول ليلة فى حياتى». واستسلم للأحلام، فغمرته تياراتها المضطربة، ولفحة لهيبها، فتشبعث به المسالك، واختلط عليه الأمر، وخيل إليه أن جنيهاته الثلاثة لن تشبع نهمه أو تطفئ شهوته. فلما أن هدأت نفسه واطمأنت عواطفه الثائرة رأى الأمر سهلاً يسيرًا ووجد «خطة» السهرة جاهزة بين يديه حاضرة فى قلبه من طول ما صورتها له أمانيه، وصاغتها أحلامه. فسار بأقدام مطمئنة إلى «الحاتى» وآثر الحاتى على غيره، لأن اللحمة كانت أعز المأكول لديه وأشده تمنعًا عليه، وطلب ما أملاه عليه نهمه وانكب على المائدة يلتهم ما عليها بجشع وشراهة، فسكت عنه الجوع، ولم يكف حتى اضطر إلى الامتلاء والشبع، وأخطأ تقديره إذ ترك للمائدة لحمًا شهيًا. ثم عرج بعد ذلك إلى حانة هادئة شرب فيها وعل حتى دارت رأسه. ثم قادته الخمر- عند منتصف الليل- إلى فراش لا يذوق النوم الراقدون عليه. ••• وعند الضحى غادر البيت كأنه غير رجل الأمس، كان تعبًا متهافتًا مصفر الوجه، يدوى الصداع فى رأسه، وتلتوى شفتاه من الاشمئزاز، فتعجب كيف تنتهى اللذة إلى هذه الحالة المريضة التى تزهد فى الدنيا بأسرها.. وذكر تلهفه على الملاذ، وتحرقه على الطعام والشراب والشهوات، وذكر أنه كيف روى نفسه من هذه جميعًا حتى أتخمها فردت إلى ما يعانى من سوء وضراء، وكل هذا فى ليلة واحدة.. ليلة واحدة لا أكثر..! واأسفاه.. لقد كان يظن خطأ أنه ذو موهبة وقدرة على الاستمتاع بالحياة الدنيا فإذا به عليل مسكين يتقلب على وجهه عند الكرة الأولى.. ألا سحقًا للدنيا التى لا ترضى فى فقر ولا تسعد حين الثراء، وسرت به روحه متلهفة- وهو يعانى الألم والاشمئزاز- إلى قريته الحبيبة وتمنى على الله لو يجد نفسه سريعًا بين ديارها، يزرع أرضه ويهنأ بعيشة زوجية هادئة بعيدًا عن مهالك النفوس ومثيرات الشهوات، وبعيدًا عن الناس جميعًا الذين يعيش بينهم فى عزلة رهيبة وسط سياج من الحذر والمقت. وانتهى عند ذاك إلى المدرسة، وتذكر وهو يضع يديه فى جيوبه أنه خالى الوفاض وأنه أنفق آخر قرش من جنيهاته الثلاثة وخرج مشكورًا مصحوبًا بالسلامة. إن ما ينبغى له الآن أن يقترض مبلغًا زهيدًا يسافر به إلى بلدته ويسدل ستارًا كثيفًا على هذه الحياة النكدة؛ وإذا كان عشر هذا المبلغ مما يستحيل عليه اقتراضه وهو مفلس مشهور بالاحتيال فما يظن أنه يعز عليه الآن اقتراضه وهو غنى من الأغنياء وعين من الأعيان. وقصد من فوره إلى أول من لاقاه من مدرسى المدرسة فحياه على غير توقع وقال له: «من فضلك يا شكرى أفندى.. إنى فى حاجة شديدة إلى مبلغ زهيد لأنى...» فدهش الرجل وقاطعه متسائلاً وهو لا يخفى دهشته: «أتقترض ولما يمض غير ليلة على أول الشهر؟ يا حظ من كنت ضيفهم أمس...» «إنك لا تدرى من الأمر شيئًا، لقد ربحنا القضية، ألم تعلم أنه كان بيننا وبين أبناء عمنا قضية منظورة أمام المحاكم منذ أعوام عديدة؟ هى الحقيقة ولقد ربحنا القضية وصرت من الأغنياء المعدودين، إلا أن جيوبى خالية من النقود وأنا فى شدة الحاجة إلى أجرة السفر وسوف أرد إليك نقودك أضعافًا لدى وصولى القرية... «قد كنت لا ترد وأنت مقيم بيننا..» «تغير الأمر وصرت من الملاك» فاقترب منه الشاب وشم فمه، وارتد مشمئزًا وهو يقول: «صدقت.. لاريب أنك تملك الضياع الواسعة.. أنا أيضًا أملك مثلها حينًا قصيرًا من الليالى السعيدة.. ولكن أعجب كيف تبقى ريح هذه الخمر فى رأسك حتى منتصف اليوم الثانى...» لا تهذ.. إن ما قلت لهو الحق المبين». فضحك الشاب وهو لا يستطيع تصديقه وسأله بلهجة تصنع فيها الجد: «أى خمر هذه؟ سمها لى وأنا أشرب وأملك الضياع وأقرضك ما تشاء...» فولى عنه يائسًا وهو يعض على أسنانه، ولم يكن حظه أعظم توفيقًا مع غيره، فسألهم واحدًا واحدًا وردّوه جميعًا فى لهجة صارمة حتى لم يبق ممن لم يسأل سوى حضرة الناظر والبواب، وكان يخشى الناظر ويتحاشاه فذهب إلى البواب، ولما أحس الرجل بأن الحديث يحوم حول الاقتراض قال مسرعًا. «معذرة يا سيدى، لقد سبق منى يمين الطلاق ألا أقرضك بعد المرة الأخيرة، وقد طلقت امرأتى مرتين- بدافع الخلافات الزوجية- ورددتها «والثالثة ثابتة» وخراب بيتى قضاء لا يرضيك». فصاح فى وجهه غاضبًا: - «الله يخرب بيتك» ثم قصد إلى قريبه يائسًا منفعلاً، وحادثه فى الأمر وارتاب الرجل فى حقيقة القضية الرابحة لأنه لم يتعود من خليل الصدق، وساءه أن يقترض فى اليوم الثانى من الشهر فقال له باستياء شديد:- «إنك تتصرف تصرف القّصر المتهورين، وتسيء إلى سمعتى وشرفى» فرد عليه بحماسة قائلاً: «أقسم لك بشرفى أننا كسبنا القضية، وأن الذى أكد لى الخبر هو المحامى نفسه». «أسف لأن أصارحك بأنى لن أؤمن لك حتى يأتنى الخبر من إخوتك، ولن آمن إن أنا أقرضتك اليوم أن تأتينى غدًا وتمثل أمامى نفس المهزلة، فلتتحمل عاقبة نزقك». «أرجو أن تصدقنى...» «لا تلح... إنى بدأت أحس بأن ما يفرق بين أهلينا جميعًا من الشقاق سيفرق بيننا». فانتفض خليل من الغضب، وامتلأ غيظًا ويأسًا فضرب المكتب بقبضة يده ضربة شديدة وخرج وهو يدمدم بصوت خانق غير مفهوم. وكانت غضبة اليائس، لأنه رمى بنفسه فى عزلة قاتلة وغدا لا مال له ولا معين ولا صديق، فاستسلم للغضب وسب ولعن من دون جدوى لأن الغضب لا يستطيع أن يطوى به هذه الأميال التى تفصل بينه وبين قريته أو بينه وبين الراحة والطمأنينة. وضرب فى الأرض على غير هدى تقوده قدماه ذاهل الفكر، حائر النفس، لا يرى بصيصًا من النور، ولا يهتدى إلى حل، تتردد عيناه بين المارة والحوانيت والبيوت والمركبات كأنه يتمنى أن تظفر بمنقذ مجهول ينتشله من ورطته وإفلاسه.. لو يجد صديقًا لا يزال على حسن ظنه به؟ ولكن هذا بعيد، فليته يجد عملاً ولو نصف يومه المنكود هذا وبدا له هذا أعسر مطلبًا من الأول، فألقى بنظرة فى أركان الطريق يرجو وهو يائس أن يجد كيسًا مملوءًا منسيًا. وحملته قدماه وهو لا يدرى إلى ميدان المحطة فنظر إلى بنيانها وتنهد بحسرة موجعة، وجاس خلالها يطالع القطر المتأهبة للرحيل بلحظ حزين كئيب ويشهد المسافرين المتدافعين المهرولين بحسد أليم. وانتزع نفسه من المحطة، واستأنف السير، ومر الوقت لا يحس به، حتى أدمى المشى قدميه، ونال التعب منه كل منال، وخيل إليه فى تدهوره أن مفاصله ينفك بعضها عن بعض، وشعر- بعد طول الجهد- بقرصة الجوع تمزق بطنه الذى لم يستقبل شيئًا منذ عشاء الأمس الفاخر، فسار يتخبط، وذكريات القرية، ومائدة الحاتى، والمحامى، والناظر. تتمثل أمام مخيلته فى صورة مثيرة تاركة خلفها الألم والجزع. والتقى فى بعض تجواله الضال بشحاذ- وكانت آية الليل تحتل الآفاق التى ولت عنها أشعة الشفق- يسير متوكئًا على عكازه، وعلى ظهر جولق مملوء بما فيه من كسر الخبز، فتعجب غاية العجب أن يرجع هذا الشحاذ إلى مأواه آمنًا مطمئنًا، سعيدًا بما على ظهره وما فى سراويله، وأن يعانى هو- غنى مديرية الشرقية السَّري- ألم الجوع والقهر.. فأى دنيا هذه... وأجبر الجوع تيار تأملاته على الانقطاع فتبع الشحاذ عن كثب وقد جمدت عيناه على جولقه فسال لعابه وانخلع قلبه، وتلهف إلى أقذر لقمة فيه، ولا عجب فلو أنه نوى أن يصوم يومه لحل له الإفطار منذ ساعة على الأقل. وخيّل إليه أنّه أيسر على نفسه أن يمد يده بالسؤال إلى هذا المتسول من أن يمدها إلى أفندم محترم فى مثل بزته، ولكن كيف يفعل ذلك...؟ وعرج الرجل إلى منعطف هادئ فاقترب منه وقلبه يدق بعنف فى صدره وقال له بتضرع: «يا عم.. أعطنى كسرة خبز لله». فنظر إليه الشحاذ دَهشًا وفحصه من الرأس إلى القدم، أو بعبارة أخرى من الطربوش إلى الحذاء، ثم هز رأسه منكرًا مستغربًا وقال بلهجة مرّة: «على الله!» فتوسل إليه بلهجة صادقة ووجه ناطق: «لا تغرنك ثيابى.. إنى أكاد أموت جوعا» فتردد الرجل بين مصدّق ومكذب ثم دسّ يده فى جولقه وناوله نصف رغيف، فارتد به إلى ركن مظلم كأنه ظفر بكنز لا يثمّن والتهمه بشراهة ولذة لا تقاس بها لذته بالأمس وهو جالس إلى مائدة الحاتى، ولكنه لم يتمالك عواطفه فسحّت عيناه دمعًا ساخنًا كما ينبغى لرجل يملك ما لا يقل عن خمسين فدانًا ويمد يده بالسؤال إلى شحاذ عاجز.. وإذ سكت عنه الجوع عاد إلى السير على غير هدى، وإلى التفكير اليائس فى معضلته، ووجد نفسه فجأة فى عماد الدين، فتذكر ليلة الأمس القريب.. حقًا إن الحياة عدو فى ثياب صديق، ولعل أبا نواس- وقد كانت حياته ليالى متصلة من نوع ليلة الأمس- رد فى نهايته إلى مثل ما رد إليه هذا الصباح وهذا المساء من الألم والمحن فأطلقها صرخة داوية كما ينفجر البركان من شدة تفاعل باطن الأرض، ولكن واأسفاه نحن لا نذكر العظات إلا حين لا تنفع إلا للعزاء والتأمل، وعرج إلى اليمين وثقلت خطاه وهو يمر أمام البيت الذى ولجه بالأمس مترنحًا. أمن الممكن أن يرجو هنا خيرًا...؟ ومع هذا فمن الذى أطعمه من جوع...؟ وصعد مسرعًا وطرق الباب ثم دخل، فقابلته بترحاب وقالت له ضاحكة: «لعلى رقت لك...؟» فقال مضطربًا: «طبعًا.. طبعًا.. ولكنى لست هنا لذاك» «فلم أنت هنا إذًا...؟» فتردد لحظة ولكنه خشى أن يعقله التردد عن الكلام فقال: «إصغ لك يا سيدتى، لقد فقدت نقودى كلها ولا ناصر لى ولا معين، وأنا فى بلدكم هذا غريب، وينبغى أن أعود إلى قريتى بالشرقية، وأنا- أقسم لك أنى غنى والحمد لله، فأقرضينى ريالاً فقط أرده إليك جنيهًا ذهبيًا، وخذى عليَّ ما تشائين من الضمانات، ولكن بالله لا ترفضى لأن الرفض معناه الموت والقنوط». «لعلك وجدت أن ثمن زجاجة الجعة أرخص بكثير مما دفعت بالأمس فجئت...» «أبدًا أبدًا.. والله العظيم» «فلعلك إذًا بلطجي؟» «بل أنا بائس قانط» فدقت على صدرها وقالت: «يا لسوء حظى.. غيرى لا يرجع إليها فى مثل حالتك هذه إلا من يكون قد بذر تحت قدميها أموالاً وضياعًا وأنت لم تنفق على سوى جنيه أعرج». «أتوسل إليك أنا فى ورطة شديدة». فقالت بتهكم: «إن كنت عاطلاً.. أوظفك فى بيتى». «يا للداهية»... فقالت غاضبة: «أتغضب وأنت تمد يدك سائلاً..؟» فأجاب: «هاك طربوشى رهينة» فصمتت هنيهة، وتناول الموضوع من ناحيته الجدية، ورمقت الطربوش والجاكتة بعين حالمة.. ثم قالت: «والجاكتة أيضًا.. لأن الطربوش وحده لا يساوى شيئًا». فتنفس الصعداء وخلع الجاكتة مسرعًا وقبض الريال وفر من أمامها كأنما اختطفه اختطافًا، ولم يبق أمامه سوى أن يحزم متاعه التافه، فقصد من توه إلى حجرته بالمدرسة، فلما وقع نظره على الفراش خارت قواه فارتمى عليه ببدلته أو على الأصح ببنطلونه وراح فى سبات عميق، واستيقظ مبكرًا فنهض من فراشه وأخذ حقيبته وترك المدرسة دون أن يودع أحدًا، وعند منعطف الطريق التقى بأحد الفراشين، وكان قادمًا من بيته قاصدًا المدرسة فحياه الرجل بأدب- على رغم كل شيء- وأبدى استعداده لخدمته بحمل الحقيبة إلى محطة الترام فأعطاها إياه شاكرًا، وسارا جنبًا إلى جنب، وسنحت منه نظرة عارضة إليه فارتجف جسده لأنه خيل إليه أنه يرى جاكتته عليه، كان الرجل يرتدى جلبابًا وجاكتة وطربوشًا ويسير مطمئنًا لا يقع له فى حسبان ما يقوم فى نفس صاحبه من الشك والرعب، أما خليل فكان ينعم النظر فى الجاكتة ولا يكاد يصدق ما ترى له عيناه. إنها جاكتته نفسها بقماشها وتفصيلها، بل هذا الزر المكسور شاهد لا ترتقى إليه الشبهات، فكيف حصل عليها؟ أيكون قد سرقها؟ إنه لا يهضم هذا الفرض، ألعلها إذا أعطته إياها أو بمعنى آخر أهدتها إليه؟ إن هؤلاء النسوة اللاتى يرتمى تحت أقدامهن خيرة الشبان يرتمين بدورهن تحت أقدام أحط المخلوقات وأدنسها، إنه يعرف ذلك تمام المعرفة، فلا مجال للشك.. وتحاشى النظر إلى الرجل وأبت كبرياؤه أن يوجه إليه أى سؤال أو يفاتحه فى أى حديث، ومشى إلى جانبه شارد الفكر ساخن الرأس ملتهب العواطف حتى انتهيا إلى المحطة وكر الرجل راجعًا دون أن يسمع كلمة شكر... أواه...! لقد كان وهو فى محنة الفقر شاطرًا محتالاً لا يشق له غبار، يأتيه عيشه رغدًا من كل مكان، ولكن هذا لم يمنعه- وهو أخو مكر ودهاء- من أن يرى رجلاً هلفوتًا يسلبه لباسه علانية فلا يستطيع له ردًا، كما لم يمنعه- وهو صاحب ضياع وأموال- من أن يمد يده بالسؤال إلى شحاذ من أبناء السبيل وأن يطعم رغيفه القذر وهو يبكى على قارعة الطريق.. نجيب محفوظ