جامعة عين شمس تنشئ وحدة داخلية لمتابعة ودعم جائزة مصر للتميز الحكومي    محافظ أسيوط يتفقد مجمع الصناعات الغذائية ومنتجات الرمان بالبداري (صور)    انخفاض البطاطس.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور 27-6-2025    وزير السياحة يعتمد الضوابط الجديدة لرحلات العمرة موسم 1447 ه    الأمم المتحدة: إسرائيل تصطاد الفلسطينيين عبر المساعدات الإنسانية    ماكرون: ترامب عازم على التوصل لوقف إطلاق نار جديد في غزة    رقم تاريخي يحصده الهلال بعد حجز بطاقة التأهل فى مونديال الأندية    محافظة أسيوط تعلن عن نقاط ثابتة ومواقع الحملة القومية للتبرع بالدم    المراجعات النهائية للغة الإنجليزية الثانوية العامة 2025    أروى جودة تساند ياسر جلال ليصل للقمة في مسلسل للعدالة وجه آخر    طريقة عمل سلطة التونة بمكونات بسيطة    مستشفى الناس تُبهر مؤتمر القلب العالمي في فرانكفورت بتقنيات إنقاذ نادرة للأطفال    الصحة تطلق حملة قومية للتبرع بالدم في جميع محافظات الجمهورية    بينها القضاء على 11 عالما نوويا.. الجيش الإسرائيلي يجمل محصلة هجومه على إيران    "هآرتس" تكشف عن جهة أمرت بإطلاق النار على الفلسطينيين عند نقاط توزيع المساعدات    تحقيقات موسعة حول مصرع 3 وإصابة 10 آخرين في حادث تصادم بالجيزة    مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الجمعة 27 يونيو 2025    النشرة المرورية.. سيولة بحركة السيارات بمحاور القاهرة والجيزة    استقرار سعر الجنيه الإسترليني اليوم الجمعة 27-6-2025    وسام أبو علي يقترب من الرحيل عن الأهلي مقابل عرض ضخم    نجم الزمالك السابق: الفريق يحتاج لصفقات قوية.. وعمر جابر قدم موسمًا مميزًا    ميسي لا يُقصى وراموس لا يشيخ.. 15 رقمًا قياسيًا تحققت بعد انتهاء دور المجموعات في كأس العالم للأندية 2025    جلسة علمية حول تخدير جراحة التوليد ضمن "مؤتمر الرعاية المركزة" بطب عين شمس    مرموش ضد بونو مجددًا.. مواجهة مرتقبة في مونديال الأندية    عادل إمام يتصدر تريند "جوجل".. تفاصيل    أوروبا تُصعّد لهجتها.. دعوة لوقف النار في غزة ومراجعة العلاقة مع إسرائيل    "ياحراق اللجان".. شقيق رامي ربيعة يثير الجدل بهذا المنشور بعد خروج العين من المونديال    السيطرة على حريق هائل في مصنع زيوت بالقناطر الخيرية    ضبط المتهم بالتخلص من شقيقه ونجله وإصابة جارهما في قنا    حوار| رئيس اتحاد نقابات عمال الجيزة: الاقتصاد شهد تحسنًا بعد ثورة 30 يونيو    سطو مسلح على منزل براد بيت بلوس أنجلوس أثناء تواجده بالخارج    "لازم واحد يمشي".. رضا عبدالعال يوجّه طلب خاص لإدارة الأهلى بشأن زيزو وتريزيجيه    قمة الاتحاد الأوروبي تفشل في إقرار الحزمة ال18 من العقوبات ضد روسيا    حريق ضخم في منطقة استوديو أذربيجان فيلم السينمائي في باكو    بكام الفراخ البيضاء؟ أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية الجمعة 27 يونيو 2025    يكسر رقم أبو تريكة.. سالم الدوسري هداف العرب في تاريخ كأس العالم للأندية (فيديو)    بكام طن الشعير؟ أسعار الأرز اليوم الجمعة 27 يونيو 2025 في أسواق الشرقية    كم فوائد 100 ألف جنيه في البنك شهريًا 2025؟ أعلى عائد شهادات في البنوك اليوم    حنان مطاوع تروي كواليس «Happy Birthday»: صورنا 8 ساعات في النيل وتناولنا أقراص بلهارسيا    مصطفى بكري: 30 يونيو انتفاضة أمة وليس مجرد ثورة شعبية    «البنت حبيبة أبوها».. أحمد زاهر يوجه رسالة مؤثرة لابنته ملك في عيد ميلادها    دعاء أول جمعة فى العام الهجرى الجديد 1447 ه لحياة طيبة ورزق واسع    فضل شهر محرم وحكم الصيام به.. الأزهر يوضح    ملف يلا كورة.. جلسة الخطيب وريبييرو.. فوز مرموش وربيعة.. وتجديد عقد رونالدو    وزير قطاع الأعمال يعقد لقاءات مع مؤسسات تمويل وشركات أمريكية كبرى على هامش قمة الأعمال الأمريكية الأفريقية بأنجولا    بالصور.. نقيب المحامين يفتتح قاعة أفراح نادي المحامين بالفيوم    الورداني: النبي لم يهاجر هروبًا بل خرج لحماية قومه وحفظ السلم المجتمعي    إصابة سيدتين ونفوق 15 رأس ماشية وأغنام في حريق بقنا    هل التهنئة بالعام الهجري الجديد بدعة؟.. الإفتاء توضح    "القومي للمرأة" يهنئ الدكتورة سلافة جويلى بتعيينها مديرًا تنفيذيًا للأكاديمية الوطنية للتدريب    بحضور مي فاروق وزوجها.. مصطفى قمر يتألق في حفلة الهرم بأجمل أغنياته    لجان السيسي تدعي إهداء "الرياض" ل"القاهرة" جزيرة "فرسان" مدى الحياة وحق استغلالها عسكريًا!    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 9 مساجد في 8 محافظات    صحة دمياط تقدم خدمات طبية ل 1112 مواطنًا بعزبة جابر مركز الزرقا    المفتي: التطرف ليس دينيا فقط.. من يُبدد ويُدلس في الدين باسم التنوير متطرف أيضا    حسام الغمري: الإخوان خططوا للتضحية ب50 ألف في رابعة للبقاء في السلطة    حجاج عبد العظيم وضياء عبد الخالق في عزاء والد تامر عبد المنعم.. صور    وزير السياحة والآثار الفلسطينى: نُعدّ لليوم التالي في غزة رغم استمرار القصف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بريد الجمعة يكتبه : أحمد البرى
عائدة إلى الحياة!
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 09 - 2016

قصتى حزينة، فأنا مجرد سيدة تائهة فى عالم الخيال، نشأت فى أسرة كثيرة العدد، حيث إن لى خمسة أشقاء ذكور، وأنا أصغر فرد فى البيت، وكان جدى وجدتى يعيشان معنا فى بيتنا، وقد تعبت من الطلبات المنزلية الملقاة على عاتقي، والتى تتحمل والدتى جانبا منها، لكنى مضيت أؤدى مهمتى بعزيمة ورضا وتفوقت فى الوقت نفسه فى كليتى التى اخترتها بإرادتى وخصصت أغلى وقتى للقراءة وأصبح خط سيرى من البيت إلى الجامعة، ثم العودة إلى مهامى المنزلية دون كلل أو ملل، واقتصر حديثى مع الآخرين على الاجابة عن أسئلتهم، وأحببت القراءة،
وهى متعتى الوحيدة فى الحياة، وحاولت صديقاتى أن يخرجننى من عزلتى التى فرضتها على نفسي، فاندمجت بعض الشيء معهن، وأنا فى الفرقة الثالثة، وأحسست بالراحة والطمأنينة، وأصبحت أكثر إقبالا على الحياة، وطرق بابى مهندس شاب من بلدتنا طالبا خطبتي، وما أن فاتح أهله أسرتى فى رغبته الزواج بي، حتى ثار إخوتى وأبى وأمي، ورفضوا هذه الزيجة، نظرا لسمعة أهله السيئة، ومواقفهم المحسوبة عليهم فى تعاملاتهم مع الجيران، ففاجأتهم بموافقتى عليه، فتسمر الجميع فى أماكنهم، ولم ينطقوا بكلمة واحدة، واتخذوا قرارا بعدم حضور إعلان الخطبة، وانضمت إليهم عماتي، ولم ينقذنى من هذا الموقف العصيب سوى أحد أشقائى الذى قال لهم إن هذا الشاب صديقه، وأنه مختلف عن أهله تماما، وقد ساعده على ذلك أنه يعمل فى الخارج منذ عشر سنوات، ويزور مصر على فترات متباعدة، وبعد الخطبة التى تمت بشكل مقتضب، سافر خطيبى لمدة عام، ووجدتنى سعيدة به، وتواصلت اتصالاتنا، وبعد حصولى على شهادتى الجامعية تزوجنا، وانضممت إلى عائلته، ولم يمض شهران حتى مات عمى بالمرض اللعين الذى انتشر فى أنحاء جسمه، وهو فى سن الثلاثين من عمره، ويالها من صدمة مروعة هزت كياني، فلقد كنت متعلقة به، وأجده الملاذ الآمن الذى أستأنس برأيه برغم صغر سنه، وبعدها سافر زوجى وتركنى مع أسرته، ووجدتنى حاملا فى توءمين، وتصورت وقتها أن أهله سيهتمون بى فى غيابه، فإذا بهم يذيقوننى كل ألوان الاهانات والشتائم التى لم تدر أبدا ببالي، علاوة على تلفيقهم التهم واختراع الأكاذيب، ولم أستطع الاستمرار معهم، وعدت إلى أهلي، وكان جدى يعانى وقتها بعض المتاعب والآلام، وقد أسلم الروح إلى بارئها، ونحن ملتفون حوله، بينما كانت جدتى تصارع الموت فى الحجرة المجاورة ولحقت به بعد أسابيع.
وخيّم الحزن على العائلة، ولم تجف عيوننا من البكاء على رحيل عمى وجدى وجدتي، وكنت وقتها على وشك الولادة، فطلب منى زوجى أن أعود إلى بيتي، فذكرته بما يفعله أهله معي، فأبوه دائم الإهانة لي، بل إنه يتلذذ ببذاءاته، ويتمادى فيها عندما اتجاهلها، وكذلك أمه، فرد عليّ بأنه رجل مريض وهو وأمه كبيران فى السن، ورجانى أن أتحملهما إلى أن يأخذنى معه فى البلد الذى يعمل به، فعدت مكرهة الى منزله، وظللت أدعو عليهما، ولم أرتح من العذاب اليومى إلا بعد رحيل أبيه عن الحياة، ومرت الأيام وجهز زوجى أوراق السفر لي، ولحقت به، وعرفت الحياة الرغدة لأول مرة معه. فلقد كان راتبه الشهرى كبيرا، واحتل فى الشركة التى يعمل بها مركزا مرموقا، وأبلغته برغبتى فى العمل بالتدريس الذى أحبه، وبالفعل التحقت بإحدى المدارس وأقبلت على الحياة بحب ونشاط، فكنت أصحو من نومى مبكرا، فأعد طعام الإفطار، ونتناوله معا ثم يذهب كل منا إلى عمله، ويجمعنا عشنا الهادئ من جديد آخر النهار، وحققت أول أحلامى بالاستقرار والزواج والوظيفة، ولكن للأسف لم أستعن بالكتمان والصمت، فأخبرت أهلى بما أعيشه وما وصلت إليه خلال فترة وجيزة، وكان هذا هو الخطأ الفادح الأول لي، فبعد شهرين فقط، ذاع الخبر فى كل مكان بالمنطقة التى نعيش فيها، فوجدتنى مصابة بنزلة برد شديدة، وأصابنى الإعياء لدرجة لم أستطع معها الوقوف على قدمي، فترددت على أكثر من طبيب، ووصف لى كل منهم علاجا مختلفا، واستمرت حالتى فى التدهور، وبعد ثلاثة أيام فقدت القدرة على التنفس الطبيعي، وأحسست بضيق شديد فى صدري، فنقلنى زوجى إلى أحد المستشفيات، ودخلت إلى غرفة الطوارئ، فوضعونى على التنفس الصناعى يومين كاملين، وتبين أن رئتى تنزفان دما، وكنت أفيق أحيانا وأفقد وعيى أحيانا أخرى، وسمعت الطبيب وهو يقول لزوجى إننى أصبت بأنفلونزا الخنازير، وأنهم سيبذلون أقصى ما فى وسعهم لإنقاذى لكن الأمل ضعيف، فدمعت عيناي، ودعوت ربى أن يخرجنى من هذه الحالة، وأن يشفينى بقدرته وعظمته، ونظرت إلى زوجى فوجدت عينيه وقد اغرورقتا بالدموع، فسحبت الدبلة من يدي، وأعطيتها له، ولم أدر بعدها بشيء.
وفى لحظة ما أفقت وفتحت عينىّ لأجد زوجى وعددا من الأطباء والممرضات ينظرون إليّ فى ذهول وهم يرددون «سبحان الله.. سبحان الله» وقد تهلل وجه الجميع فرحا بنجاتى من موت محقق، وقال لى زوجى «إنت حصلت لك معجزة، بقالك خمسين يوما فى غيبوبة، والحمد لله انت سليمة تماما من أنفلونزا الخنازير»، يا الله.. قلتها فى نفسى، وحاولت أن استفسر عن المزيد وهل سأخرج من المستشفى أم أن حياتى ستنتهى فيه؟ لكن صوتى لم يخرج، فقال لي: لا تحاولى الكلام فالأطباء أجروا لك شقا حنجريا، لأن رئتيك كانتا غارقتين فى المياه، فسكت، وأوكلت أمرى إلى الله، وبفضله سبحانه وتعالي، تعافيت تدريجيا، وعرفت أنهم كانوا يطلقون عليّ طوال ما يقرب من شهرين «الحالة الميتة» على أساس اننى مت اكلينيكيا، وأن قلبى ورئتى كادا أن يتوقفا عن العمل، لكن المسألة فى النهاية «أقدار وأعمار» والحقيقة أننى لم أستوعب شيئا مما حدث لي، وكنت ألمح «نظرات الشفقة» فى عينى كل من يراني.
وتعجب الأطباء أن أظل محتفظة بحملى وأنا على هذه الحال، ولم تمض أسابيع حتى وضعت التوءمين، وكانا ولدا وبنتا، وبقيت البنت على قيد الحياة، وتعجب فريق الأطباء الذى تابع حالتى مما حدث لي، وقالوا إنها معجزة بكل المقاييس، فعلاوة على مرض «انفلونزا الخنازير»، فإنهم وجدوا أن حالة قلبى سيئة كما أنه موجود جهة اليمين، ولولا ما تعرضت له ما اكتشفوا حقيقة مرضي.
سمعت الكثير، ودار حول صحتى جدل شديد، فلم ألتفت إلى أى كلام، وسمح لى الأطباء بالخروج والعودة إلى المنزل مع متابعة الفحص الدوري، وتلقى العلاج الدائم إلى حين البت فى أمر المرض الذى أعانيه فى القلب، وبعد نحو أسبوعين طلبت من زوجى أن أزور أهلى فى مصر للاطمئنان عليهم، وسيكون وجودى فى بلدنا فرصة لفحص حالتي، وما أن دخلت بيتنا حتى انهال الناس من كل صوب وحدب. لكى يروا الميتة العائدة إلى الحياة، وتصوروا أنهم سيرون جثة هامدة، جاءت لتموت فى مصر، فإذا بهم يروننى فى منتهى السعادة والاطمئنان والشياكة أيضا، وحتى أخوتى لم يصدقوا أعينهم عندما رأوني، فالكل كانوا ينتظرون وصول جثمانى لتشييعه، لكنهم فوجئوا بى سليمة تماما، وأمضيت أسبوعا فى استقبال من جاءوا لزيارتنا وتقديم التهنئة لأسرتى بشفائى ثم زرت طبيبا شهيرا فى أمراض القلب بالقاهرة، ولما فحصنى قال لي: إننى فى حاجة إلى عملية قلب مفتوح فورا، وأبلغ شقيقى الذى جاء معى إلى الطبيب أسرتى بأمري، وتم حجزي، وتكرر ما حدث من قبل، فتمددت على السرير، ودخلت إلى حجرة العمليات وشريط ما حدث لى من قبل يمر أمامي، وأنا فى شدة الخوف والألم، والحمد لله كتب لى ربنا النجاة مرة أخري، والجميع فى ذهول مما تعرضت له مريضة تتعافى فى كل مرة وتعود إلى الحياة من جديد!
أما ما أراح بالى وجعلنى مطمئنة فهو أننى واظبت على أداء الصلوات فى مواعيدها، وكنت أنادى الممرضة، وأطلب منها أن تمسح جسدى بالماء، ثم أصلى وأنا نائمة، ولم أترك الصلاة حتى فى أشد الحالات المرضية، وأيقنت أن خالقى لن يخذلني، وكيف ذلك، وهو يقول فى حديثه القدسي: «أنا عند ظن عبدى بى فليظن ما يشاء»، وبالفعل أحسنت الظن به عز وجل، وخرجت إلى الحياة مرة أخرى، ولما انتقلت إلى غرفتى تحسنت حالتى النفسية كثيرا، ولم أتوقف عن الضحك مع الممرضات، وعندما يجيء الطبيب لمتابعة حالتى ويرانى كذلك يقول مازحا: «إنتى مريضة ولا بتهزري»، وشيئا فشيئا أصبحت قادرة على الحركة، والجلوس بغير مساعدة، وحان وقت سفرى الى زوجي، وحاول أبى إقناعى بالبقاء فى مصر إلى أن تتحسن أحوالي، فاستأذنته أن ألحق بزوجى أنا وابنتي، وأن وجودنا معا سيخفف عنى المتاعب، فهو متفاهم وأجد راحتى معه، ووعدتهم بالزيارة كل صيف ولما وصلت إلى البلد العربى عرفت أنهم استغنوا عنى لطول فترة غيابي، فلم أيأس، وأحاول الحصول على عمل جديد، من منطلق أن الأمل ولو بنسبة واحد فى المائة من الممكن أن يتغلب على التسع وتسعين فى المائة لو أحسن المرء استخدامه، وعرف الطريق إلى تحقيق ما يصبو إليه ويتمناه، والحق أننى أصبحت أقرب إلى الله بكثير مما كنت عليه من قبل، ولم تعد الدنيا تساوى شيئا بالنسبة لي، فلقد جربت فقدانها، وعانيت تقلباتها مبكرا جدا ومع ذلك أجدنى يائسة فى أحيان كثيرة.
إننى الآن فى سن الثالثة والعشرين، لكنى أعانى حاجزا نفسيا، وتنتابنى كوابيس لا حصر لها، ومنها ما يتكرر كثيرا مثل شعورى بوجودى فى مستشفي، ولا أعرف متى ولا كيف سأخرج منه، وأيضا رؤيتى أنى فى امتحانات، ولم أذاكر، وخائفة من الفشل، وأحيانا أرى فى منامى أننى أتعرض للعديد من الحوادث، وأموت فيها.. سلسلة من الأحلام والكوابيس تنتابنى يوميا، بل يمر شريط الذكريات من البداية وحتى الآن كل ليلة فى ذاكرتي، ولا يفارق لسانى وقلبى الدعاء بأن يكون كل ما أراه فى منامى مجرد أوهام، إذ أننى لم أؤذ أحدا، ولم أظلم أى مخلوق، وأخاف الله، وأحمده سبحانه وتعالى على كل شيء، وقد بذلت أقصى ما فى استطاعتى للخلاص من أسر هذه الكوابيس فلم أستطع، فهل أجد لديك ما يساعدنى فى استعادة نفسي، والخلاص من العذاب الذى يتملكني، ولا أجد له مخرجا؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
من عانت تجربتك ونجت من الموت المحقق مرتين بمقاييس الطب المتعارف عليها، لا تضل ولا تشقى بعد أن أدركت أن الأعمار بيد الله، وأن الذى نجاها من مرضها قادر على أن يزيح عنها أى مكروه، ومن ثم التسليم بأنه سبحانه وتعالى هو الشافي، فما تعانيه من كوابيس وأحلام مزعجة ليس إلا رد فعل طبيعى للتجربة التى مررت بها، ولا يمثل شيئا فى الحقيقة، وربما تحتاجين إلى بعض الوقت لكى تتأكدى من ذلك، ولن يستطيع أحد أن يخرجك من هذه الدوامة ولا سبيل أمامك للخلاص من حالة الخوف والتردد التى تعتريك إلا اليقين بأن المولى عز وجل عنده مفاتيح كل ما يخفى علينا، حيث يقول فى كتابه الكريم؛ «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين»، ويقول أيضا «ما أصاب من مصيبة فى الأرض، ولا فى أنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير»، فالإيمان بالقدر خيره وشره هو الذى يجنب الإنسان القلق النفسى ويحميه من الصراع والحسرة والجزع، فلابد أن يتقبل الإنسان الأحداث التى تواجهه بنفس راضية، فيشعر بالطمأنينة وراحة البال، فالخشية الحقيقية يجب أن تكون من الخالق، أما الحرص والخوف من فقد المكاسب الدنيوية فهو من الصفات التى تشير إلى ضعف الإيمان لقوله تعالى «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون»، وفى موضع آخر يقول «فعسى أن تكرهوا شيئا، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا».
والاتزان النفسى هو السبيل الأمثل نحو حياة مستقرة، حيث يطلب الله منا التوازن فى انفعالاتنا، إذ لا يحب لنا الفرح الشديد، ولا الحزن العميق، فقال «لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور»، ولنا فى رسول الله أسوة، فلقد حزن عند وفاة ابنه إبراهيم وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما نرضى به ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وإنى أراك عقلانية فى كل تصرفاتك، فلا تتوقفى كثيرا عند ما يسيطر على تفكيرك من أن إعلان التحاقك بفرصة عمل مجزية، قد جعلك موضع حسد من الأهل والمعارف، ولذلك أصبت بانفلونزا الخنازير ثم توالت متاعبك الصحية، صحيح ان الإنسان يستعين على قضاء حوائجه بالكتمان، لكنه لا يخفى ما أفاء الله عليه به من نعم لقوله تعالى «وأما بنعمة ربك فحدث»، والله هو الرزاق، وما على المرء إلا أن يأخذ بالأسباب، ولا يقلق ولا يتوتر، ولا يخالف منهج الله لكى ينال بعض المكاسب الدنيوية، وليشعر بالاطمئنان لأن الله تكفل برزقه، وقدر له ما هو فيه ويقول الشاعر:
اقنع بما ترزق يا ذا الفتي
فليس ينسى ربنا نملة
إن أقبل الدهر فقم قائما
وإن تولى مدبرا نم له
إن النتيجة الحتمية لعدم الرضا بما قسمه الله، والقلق والخوف هو الضغط النفسى الذى يؤثر على الأعصاب فى الدماغ فتقل كميتها وتشابكها مع بعضها وتتعرقل وظائفها، وقد تؤدى إلى الإصابة ببعض الأمراض ومنها الأمراض الجلدية، والشعور الدائم بوجود مرض عضوى على غير الحقيقة، وتخيل أشياء لا وجود لها فى الواقع، والسبيل الوحيدة أمامك للتغلب على ما تعانينه هو أن تجلسى بمفردك، وتراجعى موقفك من الهموم التى تشغلك وليكن دعاؤك إلى الله بأن يمنحك القوة لتغيير الأشياء التى تستطيعين تغييرها، وقبول ما لا حيلة لك فيه، ولتضعى الأمور فى حجمها الصحيح، ولا تحمليها أكثر مما تحتمل، فما ترينه فى المنام دليل على حالة القلق التى تعتريك مثل وجودك فى مستشفي، وأنك تخوضين امتحانا صعبا، وما إلى ذلك من رد فعل طبيعى لخوفك من أن تتكرر تجربة مرضك، ولو فكرت قليلا لأرجعت الأمر الى مصدره الصحيح، ولأيقنت أن الله منحك الكثير من فضله وكرمه.
وتذكرى دائما أحوال الأشد منك بلاء، فمن يرى بلاء غيره يهون عليه بلاؤه، قال سلام بن ابى مطيع: «دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، واذكر الذين لا مأوى لهم، وليس لديهم من يخدمهم ويقوم على شئونهم، ثم دخلت عليه بعد ذلك، فسمعته يقول لنفسه: أذكرى المطروحين فى الطريق، واذكرى من لا مأوى لهم، ومن لا يجدون من يخدمهم»، وتذكرى أيضا لطف الله عليك الذى نجاك مرتين من مرض عضال لدرجة أنهم أطلقوا عليك «الحالة الميتة»، ولتتأملى موقف عروة بن الزبير، فلقد مات له ابن، ومن قبل ذلك بترت ساقه، فقال رضى الله عنه «اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت، فقد أبقيت، أخذت عضوا، وأبقيت أعضاء، وأخذت ابنا وأبقيت أبناء»، فالبلاء من قدر الله المحتوم، وقدر الله لا يأتى إلا بالخير.. قال ابن مسعود، لأن أعض على جمرة، أو أن أقبض عليها حتى تبرد فى يدي، أحب إلىّ من أن أقول لشيء قضاه الله، ليته لم يكن»، ويقول ابن الجوزى «رأيت عموم الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت!.. وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟
لكل ذلك عليك ألا تجزعي، وقد تلاشى بلاؤك بما كتبه الله لك من الشفاء، واذا كنت قد فقدت عملك فإن الله سوف يهيئ لك ما هو أفضل منه، ولتضعى نصب عينيك قول الله تعالى «ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون»، واذا سيطر عليك التفكير فى أى أمر من الأمور التى تثير قلقك، غيّرى مسار تفكيرك إلى شيء إيجابي، وافتحى صفحة جديدة من حياتك، قوامها الإيمان بالله والتوكل على الله وحينئذ سوف تتجاوزين الحاجز النفسي، وتجدين نفسك تحلقين فى عالم جديد من السعادة مع زوجك وابنتك، ويكفيك الحب والحنان اللذان تتمتعين بهما من إخوتك وأبويك، وفقك الله وسدد خطاك وهو وحده المستعان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.