ريشة الفنان: عبدالرحمن أبوبكر .. وفعلها حاتم القاضى.. زميل الدراسة بكلية الإعلام، وبواكير العمل الأولى فى القسم الفنى ب«صباح الخير» أوائل التسعينيات، ليحقق حلمه الأول والأثير لقلبه فى أن يصدر روايته الأولى أخيرًا بعد أكثر من ربع قرن من العمل الإدارى،ليثبت للأجيال القادمة أن الحلم يمكن أن يتحقق فى أى مرحلة عمرية. يحاول صديقى «القاضى»- وهو يذكرنى طوال الرواية براوى السَير على المقاهى قديمًا- أن يكشف ما بداخل عقول ونفوس شخوص الرواية، ولكنه يؤكد أنه لا يعلم الحقيقة، فالحقيقة كما يقول «هى جزء مخفى ولا يعلم سرها إلا أصحابها وحدهم وسرهم مدفون معهم». ولعل عصر «المماليك»- والذى استمرت دولتهم قرابة الأربعمائة عام وانتهت بشنق آخر سلاطينهم طومان باى معلقًا فى باب زويلة بالقاهرة القديمة عام 1517- هو عالم فريد ومتنوع، كل منا يستطيع أن يراه ويقرأ عنه، ثم يحكى الأحداث بطريقته لكثرة ما فيه من عجيب وطريف. «المملوك».. رواية من النوع الأدبى المسمى بالخيال التاريخى أو historical fiction، وهو نوع روائى غير منتشر فى الأدب العربى كثيرًا فيه حال من المزج بين الأحداث المتخيلة والأحداث التاريخية، قريبة من جورجى زيدان ورواياته التاريخية، لكن فى المملوك تجد مساحة التاريخ ووصف الأماكن الموجودة حتى الآن أكثر انتشارًا خلال الرواية. تدور الأحداث فى مصر وبعض البلدان المحيطة كالشام والدولة العثمانية خلال الحقبة التاريخية لحكم سلاطين المماليك ما بين القرن الثالث عشر وحتى بدايات القرن السادس عشر مع سقوط مصر تحت الاحتلال العثمانى، ومن ثمّ تحولها إلى ولاية عثمانية، وهو الاحتلال الذى استمر على قلب المصريين قرابة خمسة قرون. مقتل قطز.. وعمق التاريخ ! يدخل بنا «القاضى» فى جو الرواية منذ الكلمة الأولى بلا تمهيد للمكان أو الزمان أو شرح للأشخاص لأنه يعتمد على معرفة القارئ بالشخوص التاريخية والأحداث فى بعضها، لذلك يتخذ من الحركة السريعة فى أول الرواية وحادث مقتل قطز تمهيدًا يدخلك فى عمق التاريخ سريعًا لتعتاد على الشخصيات والأحداث وحتى اللغة المستخدمة - مع التعمق فى الصفحات - تكتشف أنك أصبحت داخل مصر المملوكية بحذافيرها، ففى حوارى الجمالية تتجول فى القلعة وشارع المعز حرفيًا، الأشخاص متخيلة تمامًا، ولكنهم ينتمون لذلك العصر بكامل هيئتهم، تستمر الحكاية فى ذلك العمق ويطعم الكاتب الأحداث بالتواريخ وأحداث التاريخ الواقعية وكأنه يمسك بك داخل الإطار التاريخى فلا تفلت منه أو يتشتت تركيزك عن الحكايات، ومن الجميل أن القارئ بعد فترة لا يستطيع التفرقة بين الواقع التاريخى المحكى وبين الأشخاص والأحداث المتخيلة، مما يعطيها سحرًا من نوع خاص تذكرك بأحداث ألف ليلة وليلة، الزناتى خليفة، وسيرة على الزيبق. تجد أن الأحداث التاريخية للرواية بمثابة الجدران التى تحكم البناء السردى والقصصى المتخيل داخل فصول الرواية، ارتباط موت الملك الفلانى أو توليه العرش بزواج وطلاق وموت وولادة أحد شخصيات الرواية، انهيار شخص من داخل الرواية مرتبط بصعود أو هبوط نجم شخص حقيقى مذكور بالتاريخ. التصوير بالرواية موجود، لكن خلف ظلال تسمح لك بالخيال، فتقرأ وكأنك ترى دهاليز قلعة صلاح الدين وباب زويلة وقصر السلطان وبيوت الأمراء، يطعم ذلك الخيال بأماكن موجودة بالواقع مثل بيت القاضى، وقبة الملك الصالح ومسجد قلاوون وحمام السلطان الأشرف إينال.. أى الأماكن التى تستطيع زيارتها بشارعى المعز والحسين وغيرهما. فكرة الرواية تكتمل عندما يأخذك الكاتب إلى الكثير من القصص الرومانسية وعشق الجوارى والملوك، منها ما هو حقيقى كعشق جهاد والسلطان قطز، ومنها ما هو متخيل كالقاضى ونسيبة، وهو عشق من نوع آخر أو من طرف واحد كما يقولون، ومن العشق للطريف من الحكاوى كقصة الجارية السمراء «اتفاق» التى تزوجت من ثلاثة ملوك إخوة ووزير، وهى قصة حقيقية مذكورة فى كتب المؤرخين وبشكل يعجب له القارئ. ..فى اختيار وعشق النساء! قصة الجارية «اتفاق» نكتشف منها الذوق فى اختيار وعشق النساء فى تلك الفترة، فرغم كل العشق من الملوك لها نرى المؤرخ ابن تغرى بردى لا يعجبه ذلك ويتعجب منه بشكل يبدو عنصريًا، وهو ما دعا المؤلف لذكر أنه لا يميل لرأى المؤرخ، بل يعتبره نوعًا من العنصرية فى زمانهم. وعند منتصف الرواية نجد المؤلف يبين الأخطار الخارجية التى كانت تحدق بمصر بعد التتار الذين ذكرهم فى بداية الرواية، فيذكر تيمورلنك وهجومه على الشام وبغداد والتدمير الذى أحدثه، وكيف حمى الله مصر من شروره، ولكن لم ينس أن يطعم الجزء بقصص العشق والغرام بل والشعر، فيمزج الحب بالخوف والرهبة. كما لا ينسى الراوى أن يتحدث عن مدعى الدين والتدين فى صورة الشيخ الذى استفاد من تصديق الناس له ليتكسب ويفعل بسلطة الدين ما لم يستطع فعله أحد. الكاتب أيضًا قام بالعديد من الاقتباسات من الشعر القديم فى العصر المملوكى ليجعلك دائمًا داخل الزمن المنشود فلا تخرج منه وهو ما يزيد التشويق فى الحكايات وخاصة لغته السهلة السلسة التى لا تميل إلى التعقيد ولا يحاول وضع الكلمات الملتبسة التى يتوه معها القارئ فى تفاسيره عند قراءتها، بل إنها تستطيع أن تصل لأعمار أقل من الشباب والنشء، كما تتماشى أيضًا مع عدة مستويات فى العمر والثقافة لبساطة حكاياتها وقصر الفصول فلا تشعر أبدًا بالملل، فرغم أن الرواية تتحمل الكثير من الحكى والاسترسال فى السرد والشخصيات، بل إن كل عصر من العصور داخل الرواية يتحمل بعض الاسترسال، بل يمكن أن يكون رواية وحده، إلا أنك تشعر أن الخروج من تعقيدات الكتابة والروايات الطويلة هدف رئيس من أهم أهداف الكاتب الأساسية. الرواية تعمل على المزج بين الأسلوب السردى الروائى والأسلوب اللغوى والسردى التاريخى، ويحاول الكاتب استخدام لغة تتناسب مع العصر المذكور مع بعض التماهى لقصص ألف ليلة وليلة وحكايات الأدب الشعبى فى الظاهر بيبرس. «بروجيكتور» لعرض وجهات النظر والراوى لا يتبنى وجهة نظر معينة فهو يجعل النص بمثابة «البروجيكتور»-جهاز عرض أفلام- الذى يعرض وجهات النظر بشكل حيادى وإن غلبت عليه مصريته فى الجزء الأخير والخاص بالاحتلال التركى العثمانى لمصر، فتبدو لهجته الكارهة فى حديثه عن سليم الأول حتى إنه ربط نهاية شخصية مهمة بالرواية مع مقتل السلطان طومان باى الذى حارب الأتراك دفاعًا عن مصر. ونلاحظ من خلال السرد أن مصر كانت دائمًا محاطة بالضباع الذين يريدون افتراسها، وتبدأ الحكاية من طمع المغول ومحاولاتهم لدخول مصر والتى انتهت بهزيمة نكراء مرورًا بجيوش تيمورلنك ومذابحه فى الشرق والتى انتهت أيضًا بفشله فى اختراق مصر، ثم فى النهاية الاحتلال التركى العثمانى بقيادة سليم الأول الذى جثم قرونًا على صدور المصريين وسلمها ورثته للاستعمار البريطانى. ورغم الاحتلال والرغبة فى السيطرة من كل عابر على مصر، نجد على طول الرواية صورًا مضيئة مثل طومان باى الشاب الذى أحبه المصريون ومثل السقا الطيب وجهاد الملكة التى ماتت شهيدة، ونجد سمعان الحافى وأم يعقوب الدلالة وزوجها وأم يحيى وأحمد سعيد الذى أوقعه حظه العثر فى المحتالة زوجته، كما نجد العثمانى زوج نسيبة الذى يدافع عن مصر مع سلطانها وأهلها ضد سلطان الترك، فيهدر دمه ويضطر إلى الهروب بعد شنق السلطان طومان باى، ونجد القاضى العادل، كما نجد المصرى المحتال الذى يدعى الدين وهو منه برىء. ختام الرواية يبدو وكأنه جزء أول وله بقية تنتهى بالسقوط، ولكن به من الأمل فى شاب آخر يحل محل السلطان طومان باى الذى حارب لمنع الغزو التركمانى وحاول أن يحرر مصر من الاحتلال، وتلك القفزة الأخيرة بعد شنق السلطان طومان باى وحتى اندحار العثمانيين، وكأن الكاتب يلفت انتباهنا إلى أن الاحتلال الذى طال انتهى فى غمضة عين، وأن الغريب مهما طال الأمد قد خرج مدحورًا. «المملوك»..رواية تستحق أن تقرأها وتتمتع بحسن اختيار الراوى للزمن والأبطال والشخصيات، وبراعته فى مزج الخيال بالأحداث التاريخية وحرفية التنقل بين الأزمنة داخل نفس الحقبة التاريخية ببساطة الأسلوب وقصر الفصول، وإن كنت أرى فقط أنه كان بإمكانه أن يزيد من جرعة الدراما فيها، ولكن يبدو أنه لم يرد أن يطيل على القارئ فى زمن رقصة «الكيكى»! •