من الذي يكتب التاريخ؟ سؤال قتل طرحا، وتعددت إجاباته بين المنتصرين والمؤرخين، والهواة، وصناع الأكاذيب، وكذلك المحققون، لا توجد معايير ثابتة في كتابة التاريخ ،لأنه في النهاية يخضع لرؤية كاتبه أيا كانت مصداقيته وتظل الرواية، رغم ما تملكه من خيال هي الوحيدة التي تنبع من واقع معاش في زمن ومكان حدث بالفعل، بأحداث متخيلة كرد فعل لواقع في زمن الحدث، مجسدة جانبا أسطوريا لا يخلو من الحقيقة لحقبة من الزمن سواء قصرت أم بعدت لشخصيات روائية تشبه أبطال الواقع وإن جاءت من صنع خيال المؤلف. فن الرواية ولد من أجل إحياء الزمن وإن صح التعبير هي إحياء التاريخ زمنا ومكانا مكللة بالاشخاص الذين صنعوا الحدث، فالناس كما يقول الروائي الأمريكي بول أوستر» تحتاج للقصة والرواية بقدر حاجتها للغذاء». بل إن الرواية وجدت من أجل كشف المستور، وفي جملة للروائي الياباني هاروكي موراكامي؛ »إن الروائي بقصه وحيله السردية وأكاذيبه يأتي بالحقيقة تحت المجهر، يسلّط عليها الضوء من جديد، وفي الكثير من الحالات؛ يكاد أن يكون من المستحيل فهم هذه الحقيقة في شكلها الأصلي، وهنا يأتي الروائي ليجسدها ويعيد بعثها من جديد بشكل أكثر دقة. الرواية التاريخية تنعم بشعبية واسعة، ومن أبرز ممثلي هذا النوع من الرواية، والتر سكوت في الإنجليزية، وتولستوي في الروسية، ألكسندر دوماس الأب في الفرنسية وجورجي زيدان في العربية. وتبقي روايات صاحب نوبل الروائي نجيب محفوظ أحد أبرز من كتب الرواية التاريخية بالمفهوم العصري واللغة الحديثة، التي سجل فيها خريطة المكان وجغرافية الحدث التي تظل دليلا علي الزمن والمكان التاريخي مثل عبث الأقدار1939، رادوبيس 1943 ، كفاح طيبة 1944 وغيرها من الروايات ذات البعد الإجتماعي علي خلفية تاريخية كأولاد حارتنا والثلاثية الخالدة، وهناك العديد من الروايات التي روت التاريخ علي هذا النحو. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه القضية: هل الروايات التاريخية قادرة علي سرد الأحداث التاريخية أفضل من المؤرخ الذي يكتب التاريخ موثقا بالوثائق والاحداث، في هذه المنطقة أكد الباحثون أن التاريخ لا يكتب مثلما حدث بالضبط هناك دوما وجهات نظر متعددة لنفس الحدث يرجع إلي اختلاف الرؤي السياسية والاتجاهات الفكرية. لكن هذا لا ينفي أن هناك روايات في الآونة الأخيرة روت تاريخ شعوبها مثل رواية » »فرانكشتين في بغداد» لأحمد السعداوي في العراق، التي يروي فيها قصة هادي العتاك (بائع عاديات من سكان حي البتاويين وسط بغداد)، يجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية خلال شتاء 2005، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من المجرمين الذي قتلوا مالكي أجزائه المتكون منها. يسرد هادي الحكاية علي زبائن مقهي عزيز المصري، فيضحكون منها ويرون أنها حكاية مثيرة وطريفة ولكنها غير حقيقية، لكن العميد سرور مجيد، مدير هيئة المتابعة والتعقيب يري غير ذلك، فهو مكلف، بشكل سري، بملاحقة هذا المجرم الغامض. وتتداخل مصائر الشخصيات العديدة خلال المطاردة المثيرة في شوارع بغداد وأحيائها، وتحدث تحولات حاسمة، ويكتشف الجميع أنهم يشكلون، بنسبة ما، هذا الكائن الفرانكشتايني، أو يمدونه بأسباب البقاء والنمو، وصولاً إلي النهايات المفاجئة التي لم يتوقعها أحد. وهناك رواية »شوق الدراويش »لحمور زيادة من السودان، التي تناولت أحداثها أحد أكثر فترات تاريخ السودان حساسية وقسوة، عن أحداث سنوات قليلة لا يمكن أن تحدث سوي في قرون لزخمها. لقصة حياة »بخيت منديل» لحظة سقوط الثورة المهدية التي حكمت السودان لمدة أربعة عشر عامًا وهو الذي سُجن لأجل غير مسمي بسبب سكره، في حياة بخيت مأساة يعرفها القارئ خطوة بخطوة من خلال السرد. وفي رواية »كلاب الراعي» للروائي أشرف العشماوي نجد أنها تدور أحداثها خلال سنوات الفوضي وفي فترة مظلمة ومنسية من تاريخ مصر في الفترة ما بين جلاء الحملة الفرنسية عام 1801 وحتي تولي محمد علي حكم المحروسة عام 1805 وما دار خلال تلك الفترة العصيبة من مؤامرات داخل أروقة القلعة وقصور حكام المماليك ودواوين الحكم. من خلال بطلي الرواية وهما أخوان غير شقيقين هما كمال سيف الدولة نائب محتسب القاهرة والمسئول عن حفظ الأمن والنظام، والمهادن والموالي لكل سلطة من حكام المماليك وسلاطين الأتراك للحفاظ علي منصبه، والأخ الأكبر الحسن جمال الدين الرومي كاتب الديوان، المغامر، والفارس الشجاع الموالي لمحمد علي والذي أنهك جيوش المماليك وعساكرهم من جراء متابعته وملاحقته بالقاهرة والجيزة والمنيا وصحراء أسيوط. وتنقلنا الرواية إلي أجواء ذلك العصر وثيابه وعاداته وتقاليده وصور الحياة اليومية، والحروب التي كانت تدور في شوارع القاهرة وحواريها بين المماليك والمصريين، ودور الأقباط في الحفاظ علي الهوية المصرية ومقاتلتهم العدو جنبًا إلي جنب مع المسلمين، كما تبرز الرواية الدور السياسي الذي لعبه القناصل الأجانب طوال سنوات الفوضي الثلاث السابقة علي تولي محمد علي عرش مصر، وكيف كانوا يتدخلون في الحكم من وراء الستار أحيانًا ومن أمامه في أغلب الأحيان. وفي »رواية الطنطورية» تذهب الروائية رضوي عاشورإلي قرية الطنطورة الفلسطينية الواقعة جنوب حيفا عام 1947، حيث تصاحبنا في هذه الرحلة رقيّة الطنطورية التي عاشت مأساة المذبحة التي تعرّضت لها قريتها علي يد العصابات الصهيونية عندما كانت طفلة وإضطرت للنزوح مع الناجين من قريتها للبنان، حيث تصف لنا حياتها في فلسطين قبل الإحتلال وتفاصيل حياة اللاجئين في لبنان بعد النزوح من فلسطين وحالهم خلال الأزمات التي مرّت بها لبنان مثل الحرب الأهليّة و الإجتياح الصهيوني لجنوبلبنان 1982، لفترة تمتد لأكثر من نصف قرن.