ضمت جلسة مسائية عددًا من الأصدقاء؛ سأل أحدهم فى حيرة: فى يوم ما قبل عام 52 وبعده كانت جماعة الإخوان الفاشية أكثر عددًا وأشد تنظيمًا، ولكنها لم تستطع التسلل إلى العقل أو الوجدان المصري؟ والدليل أن الإخوان فى ذروة قوتهم عام 1950 خسروا الانتخابات النيابية وفاز عدد ليس بالقليل من الأقباط وهى انتخابات عرفت بنزاهتها. ظهور التيار السلفى ابتسم صديق آخر قائلاً: بنات وزوجات الإخوان وقتها لم يكن يعرفن حتى الحجاب، أما الآن فالاختفاء خلف النقاب أصبح شبه قاعدة اجتماعية. عاد صديقنا الحائر ومعه سؤال آخر: الأغرب أن التيار السلفى الظلامى ظهر منذ منتصف عشرينيات القرن الماضى، ولكن ظل كامنًا غير مؤثر وفجأة تفشى خطره فى المجتمع؟! انتهت الجلسة المسائية وبقيت الأسئلة تطاردنى تبحث عن إجابة أثناء سيرى فى «وسط البلد» أو القاهرة الخديوية. قدم الكتاب المفتوح لفن العمارة فى وسط البلد إجابة ميسرة لجميع الأسئلة الحائرة.. عندما كانت شمس المدينة عفية تبدد الظلام. أصاب المدينة فيروس «الترييف» ففقدت عافيتها ومصطلح «الترييف» هنا ليس المقصود منه الاستعلاء، ولكنه يصف حال العشوائية والضعف التى وصلت لهما مدينة فى حجم وعراقة القاهرة. يعنى «الترييف» دخول أنماط من السلوك الاجتماعى والاقتصادى والسياسى الإقصائى والفوضوى لا يناسب تسامح المدينة وتنوعها الكزموبليتان ونظامها. أعطى الكتاب المفتوح راحة الإجابة، ولكنه أعاد لى ذكرى هزيمة المدينة عندما انتصر الظلام واحتل قلبها. ظهر الوجه الكالح على شاشة التلفاز فى إحدى ليالى صيف 2012 ليعلن انتهاء المواطن ومدينته وهزيمة الحداثة على يد الأهل والعشيرة، كان الفصل الأخير فى الحرب بين الظلام وأنوار المدينة .. انتصر الظلام! هذا المساء الكئيب كانت عربدة الظلام واستباحة المغول الجدد لقلب المدينة تصل بالمواطن إلى حد البكاء مع تهليل قبائل الأهل والعشيرة فرحين بانتصارهم. فى هذا المساء الكئيب ارتعد تمثال طلعت باشا حرب وتحت قدميه تمرح «التكاتك» وحوله الأرصفة التى احتلها كل ما هو عشوائى، ثم يقتحم أحد الرعاة قلب القاهرة الخديوية بقطيع من الخراف ليعلن مروره الختام المهين لسيرة مدينة. انتصرت المدينة انتصارًا مرحليًا بعد ثورة 30 يونيو حررت القلب من سطوة الهمجية، ولكن بقيت محاصرة بجيوش الظلام! أسرع قلب القاهرة فى محاولة متعجلة يبحث عن جمال ضائع فأعاد طلاء الوجه وحرر الأرصفة، ولكن بقى داء «الترييف» كامنًا ينتظر فرصة أخرى للانقضاض. حرب العصابات هذا الانتصار الظلامى و«الترييف» لم يأت فجأة.. صنعته حرب عصابات منظمة ضد المدينة الحديثة تشكل تحالفًا من المتاجرين بالدين والفساد برعاية خارجية، كان هدفه الأول إنهاء عصر التنوير وسحق المشروع النهضوى المصري. بدأت الحرب بالنكسة التى تعرض لها الوطن، فانشغلت الدولة بإزالة آثار العدوان وتركت المدينة نهبًا للظلاميين، فتحت الأقفاص لمسوخ الجماعة الفاشية فى بداية السبعينيات - بفعل فاعل - فرقصوا فرحًا أمام نيران دار الأوبرا المشتعلة. تحرك المسوخ بخبث ليستولوا على قلب المدينة بالقطعة، فتحت الخزائن أمامهم لينفقوا بسخاء، انقلبت المكتبات إلى محلات بيع الأحذية وما بقى منها عرضت واجهاتها كتب زعيم التكفير سيد قطب.. انطلق المسوخ يلتهمون أماكن التسامح.. صادروا بالشراء كل مكان دار فيه نقاش حول الحرية والفن والثقافة وفرضوا بداوتهم عليها، بقيت بعض الأماكن عصية على المصادرة. تعلم المسوخ الدهاء من الأسياد الخارجيين، تأديب العصاة يلزمه طرق أخرى حاصروا العصاة بمئات الزوايا، لنشر البركة فى قلب المدينة الفاسق ليتطهر من ذنوب الثقافة والفن والتسامح والذنب الأكبر.. الحرية. جاء بعدها الفساد يسعى ليضع لمساته التخريبية على مذبحة قلب المدينة، فاختار أرض الحريق الأوبرالى ليقيم عليها نصبًا للقبح مخلدًا انتصار المسوخ فأقام «جراج»! قبل أن ينهى الفساد لمسته التخريبية أعطى مكافأة للمسوخ النشطة هدم مقهى «متاتيا»، ظل تمثال إبراهيم باشا صامتًا، لكن إصبعه الممدود فى الفراغ أشار لمكان الجريمة وفاعليها. انطلق الفساد، لم يكتف بالسعى شرع الخراب ليحيط المدينة بأحزمة الفقر والعشوائية قاصدًا متعمدًا ليعطى للترييف احتياطيًا استراتيجيًا لا ينضب من القبح. انشغل مسوخ الجماعة الفاشية بالتحضير للعبة الحكم، وأنهى الفساد ما عليه من واجب تدميرى فسلما أرض المعركة والراية إلى جراد أكثر شراسة ووحشية.. السلفيين. اتجهت أنظار الوجوه المغطاة باللحى المشعثة إلى الاحتياطى الاستراتيجى الذى صنعه الفساد، لم يقتنع الجراد الوحشى بالقلب فقط أراد التهام المدينة بكاملها، سمى التهريب وتدمير الصناعة والغش واستيراد قمامة العالم بالرزق الحلال. حمل فقراء الأحزمة العشوائية بضاعة الجراد الوحشى وجلسوا على الأرصفة يبيعونها، ومن خلفهم تزعق فى الزوايا والكاسيت أصوات شيوخهم تعطيهم البركة وترهبهم من شيطان مريد اسمه العمل والإنتاج.. أراد الجراد الوحشى إعطاء جوستاف أيفيل وهوسمان دروسًا فى فنون العمارة والتفوق على مسوخ الجماعة الفاشية فى التدمير، وبدلاً من طرز الباروك والركوكو أسسوا عمارة القبح لينشروها فى كل شارع ليتأكدوا من أن وجه المدينة لن يعود صبوحًا. أثنى الفساد على همة وتفانى الجراد الوحشى، فأعطاهم هدية كما أعطى أسلافهم المسوخ «الجراج».. وهبهم لقيطًا كارثيًا بحجم همتهم اسمه «التوك توك».. لتتحول المدينة إلى مأساة. كان ظهور الوجه الكالح فى هذا المساء الكئيب هو ذروة اكتمال هجمة التدمير، وكان الانتصار المرحلى بتطهير قلب المدينة البداية. يلوح سؤال جديد: هل الأزمة فى القادمين من الريف؟ صناع التنوير من رحم الريف المصرى أتى أغلب صناع التنوير المصرى من ريف مصر الطيب، ولن نحص الأسماء يكفى لنا مثلا د. طه حسين وكوكب الشرق أم كلثوم.. الأزمة فى ضعف المدينة التى لم يعد فيها ما تعطيه للقادمين الجدد.. تعطى المدينة التسامح، المواطنة، قبول الآخر، احترام الرأى، تهمس فى آذانهم بأن المرأة إنسان وليس سلعة ومادة للتحرش. تغسل المدينة القوية القادم إليها من أدران البداوة، تحرره من التعصب، تعلمه قواعد الخصوصية، تقوده فى رزانة وهدوء إلى صناديق الديمقراطية، ليختار على أساس الفائدة وليس الدينى أو الطائفى والعرقي. عندما تنضب المدينة تتكالب المسوخ وجيوش الجراد على عقول وأرواح القادمين الجدد تسممها وتغرس فيها عكس كل ما سبق وتدور الدائرة وينطلق وحش الإرهاب. نعم حققنا انتصارًا مرحليًا فى إعادة الانضباط لقلب المدينة، وانتصارًا سياسيًا كبيرًا فى كشف الوجه الحقيقى للمسخ الإخوانى، وحجمنا جيوش الجراد ويتم الآن تفريغ الاحتياطى الاستراتيجى للقبح الذى صنعه الفساد من أحزمة الفقر والعشوائية... لكن بقى الداء كامنًا متربصًا. تحتاج المدينة الآن إلى مناطق محررة تمامًا من الظلام والفاشية وقبح العمارة، هذا التحرير ليس ترفًا. إنه المدرسة التى ستعلم الأجيال القادمة قيم المدينة والحصن الذى سيحمى العقول الشابة من الوقوع فى براثن المسوخ والجراد قبل أن يحولوهم إلى أحزمة ناسفة أو متنطعين باسم الرزق الحلال. كيف نعيد النبض للخديوية؟ نبدأ التحرير بقلب المدينة.. القاهرة الخديوية.. نعيد له نبضه.. لا نكتفى بالطلاء، نحول القصور المهملة إلى مسارح، نزيل العشوائية المحيطة بالمجموعة المسرحية التى بنيناها بعرقنا ونحن نحيى مشروع النهضة فى الستينيات، ندمر نصب القبح الشاهد على إحراق أجمل ما كان فى القاهرة، الذين بنوا الأوبرا بتكنولجيا القرن التاسع عشر يستطيع أحفادهم الآن صنع ما هو أروع. نجعل عمارة وسط القاهرة متحفًا مفتوحًا من الخارج والداخل، نغذى عيون المصريين بالجمال، نحشد جيوش الخير من شباب المعماريين والفنانين ليدشنوا هذا المتحف فيحاربوا من أجل بقائه وتطويره ويقفوا سدًا أمام المسوخ والجراد. دعونا نسمع الشعر والموسيقى من شقق البنايات المعمارية التراثية التى تحولت إلى ورش ومخازن للبضائع مجهولة المصدر، يمكن لأى مكان آخر فى القاهرة أن يسع هذه الأنشطة.. بدلا من أن نسمع دعوات تكفيرنا. يبدو حلمًا.. لكن من كان يصدق أن هذه الأمة بعد عام واحد كشفت وأزالت غش وتدليس المسوخ المتاجرين بالدين الذى استمر ما يقرب من قرن! نبدأ فقط بمنطقة محررة من الظلام تكشف لهذه الأجيال مدى القبح والهمجية التى صنعها المسوخ والجراد.. ولتقول لهم كم هى قيم مدينتنا جميلة ورائعة.. بعدها ستتولى هذه الأجيال تحرير المدينة بكاملها. •