إن كان ممكنًا أن تختار مصر فنًا يعبِّر عنها واقعًا وتريخًا فهو فن "النحت"، حيث يعتبر هذا الفن هو الصلة الوحيدة بالأجداد، ومن خلاله عرفت الأجيال الحالية فن وتاريخ المصريين القدماء، وحمل هذا الفن حقبًا بأكلمها على أعناق التماثيل. وبتأمل معالم هذا الفن وما احتواه، يمكن التعرف على أنَّ المصريين القدماء برعوا في الطب وأبدعوا البنيان في الأهرامات، وأنَّ آمالهم وأحلامهم علقت فى ثوب امرأة "تمثال نهضة مصر"، فضلاً عن سلسلة من المسوخ المعلقة في الميادين أولها منحوة أُطلق عليها ميدان "البزازة" بسبب ألوانها الفاقعة والتشابه الكبير بينها وبين "البزازة"، وقبلها النصب التذكاري في ميدان التحرير الذي فجَّر غضب الثوار لأنَّه لا معنى له ولا ملمح جمالي ولا صلة له بثورة أو شهداء، وآخر في أحد ميادين المنيا يدّعى أنَّه لنفرتيتي الجميلة التي أجبرت المحافظة على إزالته بعد أن صار أضحوكة أمام الجميع بسبب تشوه ملامحه، وأخيرًا تمثال العقاد الذي أزاح عنه الستار أمس بملامح مشوهة ولا رقبة وإضاءة مخيفة. النحَّات الكبير الدكتور محمد علاوي، قال عن التمثال المشوَّه: "مسخ وُضع في واحدة من أهم مدن النحت فى العالم، هناك تمثال من أعمال الفنان فاروق إبراهيم للعقاد غاية في الروعة والإبداع، لا أدري لماذا لم يوضع واحد منها بدلاً من هذا المسخ المخيف، من وضع هذه التماثيل التي لا تمَّت بصلة للفن، فهذا التمثال لا يخرج من يد طالب بليد في كليات الفنون؟". وأوضَّحت الدكتورة سهير حواس صاحبة مشروع تطوير القاهرة الخديوية بجهاز التنسيق الحضاري: "تماثيل الميادين لها مواصفات خاصة فهناك علم اسمه الفن الميداني أو الفن العام ويهتم بأي أعمال فنية توضع في الفراغ العام وهي أعمال فنية ذات سمات خاصة منها المقياييس الفنية ومدى مناسبة العام لروح الميدان الموضوع فيه التمثال، وتحمل الخامات تغير عوامل الجو والتعرية حتى يستمر التمثال برونقه مدة طويلة، كما يفضَّل أن تكون قاعدة التمثال ملتصقة بالعمل الفني وأن تكون في إطار نفس التصميم". وتعليقًا على الإضاءة المخيفة في وجه العقاد، قال: "كل تمثال لابد أن يكون له إضاءة تكون مناسبة للعمل بحيث تظهر جمالياته ليلاً، وتماثيل الشخصيات لابد أن ينفِّذها محترف ليس مبتدئًا حتى لا يشوه الشخصية وإن كان متبرعًا به". أمَّا الدكتور محمد توفيق عبد الجواد العميد السابق لكلية الفنون التطبيقية بجامعة القاهرة فاعترض على الفكرة من مبدأها قائلاً :"موضة وضع تماثيل لشخصيات عامة في الميادين وتسمية الميادين باسمها بطلت من زمن، فلم تعد أي دولة من الدول المتحضرة تفعل ذلك إلا نادرًا، وإن حدث ذلك فهم يأتون بأفضل الفنانين، كما كان الخديوي إسماعيل يفعل حتى أنَّه كان يأتي بأعظم نحاتي أوروبا لتزيين مدن مصر، لكن وصل بنا الحال إلى أنَّ قرار صار بيد موظفون!". الأمر الغريب أنَّ مثل هذه التماثيل المشوَّهة قد غاب عنها اسم صانع التمثال وهو الأمر الذي علَّق عليه علاوي قائلا: "الفنان حين يصنع تمثالاً يكون فخورًا به، ويريد أن يعمل له دعاية، لا أن يختبئ". أمَّا عبد الجواد فقال: "تماثيل بهذا القبح لابد أن تخرج الناس عليها بالمعاول ويكسروها، وخصوصًا أهل المنطقة فهم المتتضرون الأكبر منها غالبًا، الناس تفاجئ بمثل هذا القبح قد وضع دون استشارتهم وفي أي دولة متحضرة لا يحدث ذلك أبدًا والطبيعي أن تتم استشارة المتخصصين ثمَّ عرض نموذج مصغر على أهالى الحي". ويحكى عبد الجواد وعلاوى قصص حول عشوائية اتخاذ القرارات في المحليات بما يثير الكثير من شبهات الفساد، فيروي عبد الجواد أنَّه أثناء توليه عمادة كلية الفنون التطبيقية، قال إنَّ محافظةً ما قررت تطوير أحد الميادين بعد تبرع شركة بالمبلغ اللازم بشرط استشارة الكلية، وبالفعل صمَّمت له الكلية تصميًما، ثم فوجئ عبد الجواد بأنَّ المحافظ أخذ المال وقال إنَّه يعرف أولويات التطوير في المحافظة دون توضيح ما هي الأولويات. وأضاف: "عمليات التطوير لا قواعد لها، وكثيرا ما صادفنا طلبات مماثلة فى كلية الفنون التطبيقية لكن في النهاية الجهة المنفذة تريد تنفيذ الطلبات بأرخص التكاليف وطوال الوقت القرار في يد المحافظين وغالبًا يلجأون لمقاولين ينفِّذون تصميم ما فيخرج بمواد رديئة وشكل مخز". أمَّا علاوي فأحال قضية التماثيل المشوهة إلى تجربة مرَّ بها شخصيًّا مع رئيس مدينة شبرا الخيمة، الذي ماطل في تنفيذ قرار محافظة بتنفيذ تمثال لعلاوي في مدخل إحدى المدن حتى فوجئ بتمثال مشوه موضوعًا في نفس المكان المتفق عليه مستوحى من تمثاله أو مشوها له بتعبير علاوي الذي انتهى إلى هناك صور الفساد شنيعة في المحليات، وقال: "بالتأكيد وجد المحافظ من يشاركه الذائقة المشوهة بمبلغ أقل أو ربما قاسمه المبلغ، وبدلاً من أن يملئ المسؤول الفراغ العام بالفن والجمال يملؤه بالقبح والتشويه والإعلانات". ربما يظن البعض أنَّ قصة التماثيل المسخ تخص المدن البعيدة فقط لكنها حدثت في قلب العاصمة حين قرر جمهور الميدان صناعة نصب تذكاري للشهداء وتمَّ هدمه أكثر من مرة وقيل وقتها إنَّ الدولة بصدد عمل مسابقة لأفضل تصميم جمالي لميدان التحرير ومن بينها نصب تذكاري لا يعرف أحد من اختار التصميم ونفذته القوات المسلحة وتلخص التصميم في نصب تذكاري عبارة عن حجر خشن لم يفهمه أحد فثار عليه الناس، فأزيل ووضعت سارية العلم. وقال علاوي، وهو أحد المشاركين فى لجنة اختيار التصميم: "لم يكن يتوافر في الأعمال المقدمة أي تصميمات جيدة، لذا فقد اختارت اللجنة عمل من الأعمال التي حازت على جوائز، من المسؤول إذا؟ ليس هناك قانون واضح، وكل محافظة متروكة لذائقة المحافظ"، وقد أطلقت يده خارج أجهزة الدولة جميعا فإما أن يختار أن يستشير أهل الخبرة وإما لا. تتضارب الاتهامات فيلوم دكتور عبد الجواد أولاً الوعي العام ويقول: "الناس في أيام تماثيل الميادين الراقية مثل نهضة مصر كانت صاحبة وعي ويتبرعون لتنفيذها أيضًا، أمَّا الآن فالناس غير معنيين، والقرار بالكامل بيد الدولة بكل أجهزتها التي سمحت بالاسترخاص والاستهانة بالفن بهذه الطريقة، إذًا فهي المسؤول عن هذه العشوائية هي الدولة بكل وزاراتها بداية بوزارة الثقافة وجهاز التنسيق الحضاري وكل الأجهزة المعنية". وذكرت الفنانة التشكيلية الدكتورة إيمان الجمال: "نقابة التشكليلين لديها لجنة مختصة دورها تجميل الشوارع، لماذا لا يتم اللجوء لها؟ الفنان قد يعمل دون أجر فوجود تمثال من أعماله في الميدان هو تخليد لاسم صاحبه، وليس أدل على ذلك من ملتقى البرلوس وعمليات تجميل القاهرة التي كان أغلبها بمبادرات من فنانين موهوبين". وقالت إنَّ مصر مليئة بالفنانين الموهوبين الذين يتمنون تجميل كل ركن فيها، لكن حين تنوى الدولة تجميل الشوارع يلجأون لصنايعية ومقاولون، في نفس الوقت ترى الدكتورة الجمَّال أنَّ المحليات هي منبع الفساد، وهي جهة قادرة على تعطيل أي محاولة حقيقية للإصلاح والتجميل. تمثال العقاد تحديدًا صنعه أكبر نحاتي مصر فهو واحد من ملهميهم بفكرة التنويري، فقد صنعه من قبل جمال السجيني وفاروق إبراهيم وغيرهما، وفقًا للجمال. في حالة أسوان، تقول سهير حواس إنَّ محافظة أسوان لديها بوتوكول مع جهاز التنسيق الحضاري خصوصًا أنَّها محافظة سياحية ويزورها كل الناس من أنحاء العالم، لكن المحافظ لجأ لتنفيذ تمثال بهذا القبح دون الرجوع لأحد. وأضافت: "إذا لم يرد التعاون مع الجهاز فكيف يختار دون عمل مسابقة لأحسن تصميم أو يلجأ لفنان مشهود له بالتميز". في الوقت نفسه، أكَّدت حواس أنَّ السلطة الوحيدة على الميادين تعود للمحافظ ماعدا الميادين المسجلة بأنها ذات طراز معماري متميز وقيمة تراثية، لذا فجهاز التنسيق الحضاري لا تمتد سلطاته لكل الميادين العامة، ومع ذلك فإنَّ الجهاز يقدِّم استشارات لكل من يلجأ له بدون أي أعباء مادية فلما لا يلجأ المحافظون للجهاز قبل أن ينفذ التمثال وتصبح فضيحة في الفراغ العام. واتهمت حواس المحافظين بأنَّهم يشجعون بشكل رسمي الهبوط بالذوق العام وهو ما يؤثر على الأخلاق أيضًا، في الوقت الذي تحاول دول العالم أن تعمل للارتقاء بالذوق العام. وقالت: "نحتاج قرار من مجلس الوزراء ومن وزير الثقافة بوقف الارتجال واللجوء إلى أهل الخبرة، فلا يمكن أن نترك مياديننا مستباحة للقبح"، وطالبت بمحاكمة صاحب القرار غير المؤهل لاختيار أعمال فنية.