مستشار ترامب يدعو إلى فرض عقوبات على مسؤولي الجنائية الدولية    رصدنا جريمة، رئيس إنبي يهدد اتحاد الكرة بتصعيد أزمة دوري 2003 بعد حفظ الشكوى    جوميز يتحدى الأهلي: أتمنى مواجهته في السوبر الأفريقي    حلمي طولان: مستاء من سوء تنظيم نهائي الكونفدرالية.. وأحمد سليمان عليه تحمل الغرامات    أهالي سنتريس بالمنوفية ينتظرون جثامين الفتيات ضحايا معدية أبو غالب (فيديو وصور)    متحدث "مكافحة الإدمان": هذه نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة    برقم الجلوس.. موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 الترم الثاني (الرابط والخطوات)    بالصراخ والبكاء.. تشييع جثامين 5 فتيات من ضحايا غرق معدية أبو غالب    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    زيادة يومية والحسابة بتحسب، أسعار اللحوم البتلو تقفز 17 جنيهًا قبل 25 يومًا من العيد    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    سيراميكا كليوباترا : ما نقدمه في الدوري لا يليق بالإمكانيات المتاحة لنا    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    السفير محمد حجازي: «نتنياهو» أحرج بايدن وأمريكا تعرف هدفه من اقتحام رفح الفلسطينية    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    إبداعات| «سقانى الغرام».... قصة ل «نور الهدى فؤاد»    تعرض الفنانة تيسير فهمي لحادث سير    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    لعيش حياة صحية.. 10 طرق للتخلص من عادة تناول الوجبات السريعة    اليوم.. قافلة طبية مجانية بإحدى قرى قنا لمدة يومين    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    دعاء في جوف الليل: اللهم ألبسنا ثوب الطهر والعافية والقناعة والسرور    «معجب به جدًا».. جوميز يُعلن رغبته في تعاقد الزمالك مع نجم بيراميدز    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    هتنخفض 7 درجات مرة واحدة، الأرصاد الجوية تعلن موعد انكسار الموجة شديدة الحرارة    قناة السويس تتجمل ليلاً بمشاهد رائعة في بورسعيد.. فيديو    شارك صحافة من وإلى المواطن    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 22 مايو 2024    قبل اجتماع البنك المركزي.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 22 مايو 2024    محافظ كفر الشيخ يتفقد أعمال تطوير شارع صلاح سالم وحديقة الخالدين    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    مواصفات سيارة BMW X1.. تجمع بين التقنية الحديثة والفخامة    أول فوج وصل وهذه الفئات محظورة من فريضة الحج 1445    عمر مرموش يجرى جراحة ناجحة فى يده اليسرى    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    بعبوة صدمية.. «القسام» توقع قتلى من جنود الاحتلال في تل الزعتر    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    محمد حجازي ل"الشاهد": إسرائيل كانت تترقب "7 أكتوبر" لتنفيذ رؤيتها المتطرفة    ضد الزوج ولا حماية للزوجة؟ جدل حول وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق ب"كلمة أخيرة"    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    حدث بالفن | فنانة مشهورة تتعرض لحادث سير وتعليق فدوى مواهب على أزمة "الهوت شورت"    أخبار × 24 ساعة.. ارتفاع صادرات مصر السلعية 10% لتسجل 12.9 مليار دولار    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النهر والناس.. يا أعز الحبايب يا أسمر!
نشر في صباح الخير يوم 06 - 09 - 2017


لأنه أعذب نهر نغنى له:
«يا جاى م العلالى محبة عطشان يا أسمرانى عطشان/ يا ساقى الأحبة محبة املالى القنانى املا».
ولأنه رمز الوفاء نغنى له: «يا نيل أنا واللى أحبه نشبهك فى وفاك/ لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك/ وصفونا فى المحبة هو هو صفاك».
ولأنه شاهد على كل قصة حب نستحلفه بكل غالٍ: «يا ضفاف النيل بالله ويا خُضْر الروابى هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب»؟
ولأننا نبادله وفاءً بوفاء نستنهض به الهمم، ونفاخر به الأمم:«سلاما شباب النيل فى كل موقف/ على الدهر نجنى المجد للنيل والفخرا».
ولأنه فى حياتنا، وفى وجداننا، وفى أعماق قلوبنا فله نغنى: «يا واهب الخُلْد للزمان يا ساقى الحب والأغاني/ هات اسقنى ودعنى أهيم كالطير فى الجنان».

• فى خدمة جميع الأمانى
.. مفاتيح قلوبنا، ومفاتيح الحياة مرتبطة به وبمائه، يجرى فى عروقنا ودمنا، نحبه بالفطرة، ونعشقه عشقا من آخر جد إلى سابع جد، بل إلى أول جد، فالشاعر الفرعونى قد كتب أول قصيدة فى مدح النيل - ممثلا فى الإله «حابى» - وقد ترجمها عن الهيروغليفية عالم الآثار «ماسبيرو» ويقول فيها جدناالشاعر الفرعونى:
«هو النيل الذى يفيض على البلدين «الوجه القبلى والبحرى فتمتلئ مخازن الحبوب، وتزدحم المستودعات، وتتوافر حاجات الفقراء، إنه يضع نفسه فى خدمة جميع الأمانى فيجيبها من غير أن ينقص منها شيئا، هو منشئ السفن، وهو فى غنى عن أن تنقش باسمه نُصُب الحجارة أو تنحت له تماثيل عليها التاجان، وهو لا يراه الراءون.. ولا يدفع له الناس ضريبة، ولا يقدمون له الهدايا، ولا يفتنونه بالكلمات ذات الأسرار الخفية».
.. إنها الرؤية الشعرية التى تقوم على أنبل المشاعر والأحاسيس العاطفية بين إنسان ونهر.
«مختار السويفى: 1996 «مصر والنيل» فى أربعة كتب عالمية، الدار المصرية اللبنانية، ص 80.
وهى المشاعر نفسها التى تمتلئ بها قلوبنا وتؤثر فى علاقة الناس بالنهر، الذى كتب فيه شعراؤنا أعذب الأشعار، ومن أشهر القصائد التى كتبت عن النيل فى الفصحى: «النيل» لأمير الشعراء أحمد شوقى، وقصائد لحافظ إبراهيم الذى لقب بشاعر النيل، و«النهر الخالد» لمحمود حسن إسماعيل، و«ليالى كليوباترا»، و«الجندول» لعلى محمود طه، و«مصر» لإبراهيم ناجى، ومن أجمل القصائد التى كتبت فى شعر العامية عن النيل: «شمس الأصيل» لمحمود بيرم التونسى، و«على بلد المحبوب» لأحمد رامى، و«عطشان يا أسمرانى» لمرسى جميل عزيز، و«تحويل النيل» لعبدالوهاب محمد.
• سر النيل
«وفى جميع العصور منذ بدء التاريخ عُنى المفكرون بأمر النيل ووصفه ومحاولة تفسير ظاهراته المختلفة، ذلك لأن حضارة من أقدم الحضارات وأرقاها نشأت فى وادى النيل ونمت وازدهرت، وكانت ينبوعا استمدت منه أمم كثيرة حضارتها ورقيها، وحضارة مصر مصدرها الأكبر هو النيل الذى ترتب عليه جميع ما لمصر من الثروة والرخاء، فكان من الطبيعى أن يفكر الجميع فى أمر النيل وفى مصدر ذلك الفيضان الذى يعم الوادى كل عام بانتظام تام، وكان طبيعيا أن تنشأ حتى فى ذلك العهد البعيد تلك المسألة الجغرافية المشهورة: «مسألة النيل» أو «سر النيل»، ذلك السر الذى لم يتم حله إلا فى عصرنا هذا، وقد شغل المفكرين منذ ستة آلاف سنة، فقد كان المصريون الأول - قبل الأسرة الأولى لا يعرفون عن مجرى النيل شيئا كثيرا، كانت دنياهم التى ألفوها وعرفوها منحصرة فى ذلك الوادى الخصيب الذى كانوا يعيشون فيه، تحده الصحراء من جانبيه والبحر من شماله، والجنادل من جنوبه وكانوا يتوهمون أن هناك بحرا فى أسفل الأرض متصلا بالنيل، وهذا البحر «المحيط» هو الذى تغيب فيه الشمس والكواكب مساء ثم تسبح فيه ليلا وتعود فتظهر منه فى الصباح».
وتجلى ذلك فى أنشودة دينية ألفها «إخناتون» وذكر فيها أن النيل أرضى يخرج من باطن الأرض!
ويقول فيها: «أنت خلقت النيل فى العالم الأرضي/ وأنت تخرجه بأمرك فتحفظ به الناس/ يا إله الجميع، حين يتسرب إليهم الضعف/ يا رب كل منزل، أنت تشرق من أجلهم، يا شمس النهار، يا من تخشاه البلاد القاصية/ أنت موجد حياتهم/ أنت الذى خلقت فى السماء نيلا/ لكى ينزل عليهم ولهم/ يتساقط الفيضان على الجبال كالبحرالزاخر/ فيسقى مزارعهم وسط ديارهم/ ما أبدع تدابيرك يا إله الأبدية/ فى السماء نيل للأمم الغربية/ ولماشية البلاد الأخرى ودوابها، ولكل ما يمشى على رجلين/ فأما النيل الذى يروى مصر فإنه يجىء من باطن الأرض».
«محمد عوض محمد: 1998، «نهر النيل»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 9، ص 10
• منابع النيل
كان للنيل عند المصريين الفراعنة منزلة مقدسة فكانوا يسمونه الإله «حابى»، وكذلك كانوا يدعونه باسم «بى يوما» ويقال إن هذا أصل اشتقاق لفظ «الفيوم»، ومن الثابت أنهم بذلوا مجهودا ليس باليسير فى إزاحة القناع عن جزء عظيم من مجراه، ثم جاء اليونان فتناولوا مسألة النيل ومنابعه بالبحث والاستقصاء، وأول جغرافى درس مجرى النيل بشىء من الدقة هو «إيراتو ستين» وكان أمينا لمكتبة الإسكندرية، ومن أكبر الجغرافيين فى زمانه، ويعد كلاودوس بطليموس وهو رجل مصرى يونانى - ولد بقرية فى شمال الدلتا - أول من وصف مجرى النيل وصفا دقيقا، ورسم خرائط عديدة لنهر النيل، وظلت كتبه وأبحاثه الجغرافية وخرائطه هى المرجع الأكبر لدراسة الجغرافيا، ونهر النيل خاصة إلى أواسط القرن السادس عشر.
وكان جيمس بروس أول من عنى بأمرالنيل واستكشاف منابعه فى الأعصر الحديثة «فى أواخر القرن الثامن عشر».
ويؤكد محمد عوض محمد فى كتابه «نهر النيل» على أن عهد محمد على كان فاتحة عصر جديد فى تاريخ الاستكشاف الأفريقى عامة، والنيل بنوع خاص فأرسل البعثات لاستكشاف منابع النيل عام 1839 فاجتازت منطقة السدود التى كان اجتيازها ضربا من المحال من أول عهد الفراعنة إلى العصور الوسطى مرورا بالعصور الحديثة، كما أرسل محمد على بعثة أخرى عام 1841 فاتصلت مصر اتصالا مستمرا بأعالى النيل، وكلتا البعثتين كانتا تستخدمان السفن الشراعية، ولكن لم يمض زمن طويل حتى استحضرت السفن البخارية فكانت تنقل المسافرين حتى أعالى النيل.
وظل أمر منابع النيل فى الأقطار الاستوائية غامضا الغموض كله، وقد شغل أفكار الكثيرين من المفكرين فى أواسط القرن الماضى، واشترك فى الإجابة على تساؤلاتهم عدد كبير من المستكشفين والعلماء أمثال برتون، وسبيك، وجرانت، وستانلى، وبيكر، وأمين باشا، وشوينفرت، وجيسى،ومارنو.
• فعال للخير وقادر على العطاء
«وقد استطاع «سبيك» أن يواصل رحلته داخل أفريقيا، واتجه نحو الشمال حتى وصل إلى الحدود الجنوبية لبحيرة واسعة جدا سماها «بحيرة فيكتوريا»، وأكد أنها منبع النيل الأول، وتعتبر هذه البحيرة أكبر البحيرات العذبة فى العالم، وتحيط بها دول أفريقية مستقلة هى: أوغندا وتنزانيا وكينيا، وهى الدول التى تحيط ببحيرة فيكتوريا، أما منطقة بحيرتى ألبرت، وإدوارد، ونهر كاجيرا فتحيط بها زائير ورواندا وبوروندى.
وهذه البحيرات: «فيكتوريا»، و«ألبرت»، و«إدوارد» و«كيوجا» هى الخزانات الطبيعية الهائلة والمستديمة التى تغذى النيل بالمياه المتدفقة من قلب أفريقيا، ومعنى ذلك أن هذا النهر العظيم يعطى الخيرات لكل الشعوب التى تعيش على ضفافه، ويثبت أنه منذ لحظة ميلاده فعال للخير، قادر على العطاء».
مختار السويفى: 1996، «مصر والنيل - فى أربعة كتب عالمية»، ص 67، ص 68.
• هبة النيل الأزرق!
إن النيل فى مصر يحصل على مياهه من مصادر رئيسية ثلاثة هى من الشمال إلى الجنوب: نهر عطبرة والنيل الأزرق، والنيل الأبيض، والنهران الأول والثانى ينبعان من هضبة الحبشة، أما النهر الثالث فتمتد منابعه إلى جوف منطقة البحيرات الأفريقية العظمى عند خط الاستواء.
ويعتبر النيل الأزرق أهم هذه المصادر جميعا، حيث يبلغ ذروة فيضانه فى خلال شهرى أغسطس وسبتمبر من كل عام، أما نهر عطبرة فيبلغ ذروة فيضانه فى نفس الفترة ويقوم النهران معا بتصريف كميات الأمطار الكثيفة الهائلة التى تسقط على هضبة وجبال الحبشة فى هذا الموسم، أما طبيعة النيل الأبيض فتختلف تماما عن طبيعة هذين النهرين فهو يتدفق بمنسوب يكاد أن يكون ثابتا طوال العام، حيث يحصل على مياهه من عشرات الروافد والأنهار الصغيرة بمنطقة البحيرات بأفريقيا الاستوائية.
ويرى محمد عوض محمد: «أن النيل الأزرق هو النهر المهيمن على نظام النيل وجريانه، ففيضان النيل معناه قبل كل شىء فيضان النيل الأزرق، وإذا كانت مصر هبة النيل فهى هبة النيل الأزرق قبل كل شىء».
• عيد وفاء النيل
ولقد كان المصريون يسجلون منسوب النيل فى مقياس الروضة الذى بنى بأقصى جنوب جزيرة الروضة بجنوب القاهرة، وظل الرقم 16 مرتبطا بفيضان النيل منذ أقدم العصور حتى وقت قريب، فعندما كان يرتفع النيل لاثنى عشر ذراعا، فإن الناس تحس بالمجاعة، وكذلك عندما يرتفع النيل إلى ثلاثة عشر ذراعا، ولكن عندما يرتفع النيل إلى أربعة عشر ذراعا تأتى الناس الفرحة، وعندما يرتفع إلى خمسة عشر ذراعا يتحرر الناس من الهموم، وعندما يرتفع إلى ستة عشر ذراعا يجىء الخير وتتم السعادة.
ومن المرجح أن الاحتفال بوفاء النيل كان يقام فى شوارع القاهرة عندما كان النيل يصل فى ارتفاعه إلى منسوب ستة عشر ذراعا كان هذا يمثل الإشارة المفرحة بقطع الجسور والسماح لمياه النيل بالدخول إلى أحواض مصر الزراعية، وكان احتفال جبر الخليج هو عيد وفاء النيل، والذى كان يعنى كسر الجسور أو قطعها.
ويحتفل فى مصر بعيد وفاء النيل فى الخامس عشر من أغسطس من كل عام.
وكانت مراسيم ذلك فى الزمان القديم: أن تعد العدة لقطع السد، وتجتذب هذه العملية حشدا كبيرا من المشاهدين، وكان هناك بناء حجرى صغير فى الجانب الشمالى للخليج يشرف على السد،ويقام عليه سرادق كبير لاستقبال وجهاء القاهرة ليشاهدوا قطع الخليج، وتقام أيضا خيام أخرى للزائرين، وتكون هناك بعض الألعاب النارية لتسلية الزائرين فى الليلة السابقة لقطع السد وأثناء تنفيذه فى الصباح الباكر، كما كانت تنصب خيم صغيرة لبيع الحلوى والفاكهة والمأكولات والقهوة بطول ضفة جزيرة الروضة مقابل مدخل الخليج، وكان البعض يستأجر المراكب يتقدمها مركب ضخم يسمى «العقبة»، يتجهز للمناسبة، ويحمل مدفعين صغيرين أو أكثر وتعلق إلى حباله عدة مصابيح مختلفة، وكانت «العقبة» تغادر بولاق حاملة ركابا من الرجال والنساء مقابل أجر، وتركب النساء داخل الخيمة الكبيرة، ويربط المركب إلى ضفة جزيرة الروضة المقابلة مباشرة لمدخل الخليج، وتظل أغلب المراكب بجانب المركب «العقبة» طوال الليل على شاطئ الجزيرة، ويتسلى الملاحون والركاب بالغناء بمصاحبة الدربكة والزمامير، ويبتهج الحشد فى الحفل مع توزيع «الشبك» للتدخين والقهوة ويبدأ العمال فى قطع السد قبل الشروق، ويقطع السد من الخلف بجاروف حتى يدق تدريجيا، ويتم ذلك بعد الشروق بساعة، وقبيل هذا الوقت عندما تجتمع الحشود المكدسة بجوار السد على ضفتى الخليج يقدم حاكم العاصمة وينزل فى الخيمة الكبيرة بالقرب من السد، ويحضر بعض كبار الموظفين الآخرين، ويحضر القاضى ويكتب «حجة النهر» ليشهد بأنه بلغ الارتفاع الكافى لفتح الخليج، وأثناء ذلك يستمر إطلاق المدافع وعرض الألعاب النارية، ثم يقذف حاكم العاصمة كيسا من النقود الذهبية، ويدفع بعد ذلك بمركب مأمور الوالى إلى حرف التراب الضيق فيحطم الحاجز الرقيق ويمر خلاله الشلال أو أول فيض للماء.
ويظل الناس طوال الليل فى المكان يلعبون ويتحممون فى الماء، ويظل المنادى ينادى فى اليوم التالى لقطع السد، ويستمر هذا إلى العاشر أو الحادى عشر من سبتمبر أو قبل ذلك بيومين، كل منادٍ فى قسمه يصحبه صبى فى أحسن ملابسه على أنغام الطبل والمزمار، مطالبا بعطية، وفى أواخر سبتمبر «26 أو 27 سبتمبر» عندما يبلغ النهر أقصى ارتفاعه يعود المنادى أيضا مطالبا بالعطية مرددا النداء نفسه كما ردده فى يوم الوفاء:«إن أبا رداد - شيخ المقياس فى ذلك الحين - يستأهل أجرا من أهل الحكومة عن كل ذراع يزيده النهر فنحن نستأهل أجرا من أهل الكرم نأتى لتناوله بكل أدب، إن نهر النيل السعيد قد غادرنا فى رخاء وروى البلاد بفيضانه»!
ويقدم المنادى فى هذه المناسبة ليمونا وفاكهة لمتوسطى الحال، كما يقدم أقراصا من طين النيل المجفف التى كانت تأكلها النساء ويشتهينها فى فترات «الوحم» أثناء الحمل.
وقد ظلت هذه الاحتفالات تجرى بنفس الطقوس حتى ردم القناة التى كانت باسم الخليج، والتى كانت تخرج من مصر القديمة وتمر فى شارع بورسعيد «الخليج سابقا»، وقد ردمت هذه القناة فى أواخر القرن التاسع عشر.
«ويعد الاحتفال بوفاء النيل من أقدم الأعياد التى ظلت قائمة عبر آلاف السنين، وليس هناك عيد آخر استمر قائما مثل هذه المدة الطويلة فى أى مكان فى العالم وبين أى شعب من شعوب الأرض.
استمر حتى أواخر القرن التاسع عشر إذ وجد فيه المصريون عناقا بين تراثهم الفرعونى، وبين حبهم العميق للنيل.
وقد بقى من هذا الاحتفال على مر السنين الاحتفال بكتابة «حجة النيل» وهى وثيقة رسمية تعلن عن مدى ارتفاع النيل فى مقياس الروضة - وقد ظل هذا الطقس حتى بعد ثورة يوليو 1952، أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين.
السد العالى:
وببناء السد العالى عام 1964 فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر توج الإنسان المصرى تاريخه وتاريخ النيل، المصرى الذى بذل كل ما بذله من جهد للتحكم فى نظام النهر وضبطه إذ يعتبر القرن العشرون واحدا من أكثر القرون انخفاضا بالنسبة لتصرف النهر متمثلا فى فيضانات منخفضة متتالية ولولا جهد الأهالى والحكومات للتحكم فى النهر وضبطه لعانى السكان من متاعب كثيرة، ويعتبر السد العالى إنجازا بكل المقاييس فقد كان من الصعب تصور دولة حديثة يعيش أهلها تحت خطر الغرق كل بضعة أعوام، فقد أوقف السد العالى النيل عند أسوان، وحول مجرى النهر إلى الشمال إلى قناة رى ضخمة، زودت الزراعة المصرية بزاد منتظم ومأمون من المياه بطريقة لم يسبق لها مثيل، وحجز المياه التى كانت تذهب سدى إلى البحر الأبيض المتوسط بعد كل فيضان كما حمى بناؤه البلاد من تقلبات النهر ومن مخاطر الفيضانات العالية التى كانت تهددها بين الحين والآخر.
السد العالى الذى يرمز إلى قدرة الإنسان المصرى على قهر الطبيعة، وقدرته على ترويض النهر الذى يجرى بين يديه الآن ساكنا وديعا.
نعشقه عشقا من آخر جد إلى أول جد، وله نغنى:
«يا أعز الحبايب يا أسمر عطشان والهوى عطشان/ شرباتك ده ورد وسكر اسقينى كمان وكمان».•


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.