على وقع الأخبار التى كانت تناقلتها الفضائيات الأوروبية ذلك الصباح القريب، تذكرت زيارتى الوحيدة لهذا البلد العربى الشقيق الذى تُمزق مجتمعه اليوم الصراعات وتفرق بين مكونات نسيجه الواحد.. الحروب التى تدور فوق أرضه لحساب قوى خارجية. عندما رن جرس تليفونى المحمول صباح اليوم الثانى من أيام العام الجديد منذ عشر سنوات.. رد على صوت أنثوى رقيق «فلانة من سفارة..» قلت.. أهلا وسهلا.. قالت.. «المستشار الاعلامى يود محادثتك» كررت مرة أخرى.. أهلاً وسهلاً.. جاءنى صوته تعلوه نغمة تفاخر وثقة زائدة فى النفس.. عرفنى بنفسه.. أفهمنى أنه يتابع مقالاتى.. أبلغنى أن وزير الإعلام وجه لى الدعوة للمشاركة فى المؤتمر الذى ستقيمه مؤسسة الرئاسة فى الأسبوع الأول من الشهر التالى.. رحبت مبدئياً.. اقترح أن أزوره فى مكتبه لمزيد من التعارف.. ولتناول فنجان من القهوة التى تشتهر بها دولته.. وافقت. . كنت هناك قبل الموعد بقليل.. قام من خلف مكتبه مرحبا.. جلسنا متقابلين. مد يده نحوى بمغلف غاية فى الفخامة.. فتحته.. وجدت بداخله خطابًا محررًا بالخط الثُلث الذهبى البارز.. يقول نصه: «يتشرف فلان الفلانى وزير الإعلام بدعوة سيادتكم للمشاركة فى المؤتمر التأسيسى حول مشكلات الإعلام العربى التى ستعقد جلساته تحت رعاية رئيس الجمهورية خلال الفترة من.. إلى.. بمدينة.. الساحلية».. شكرته، ولما سألت عن التفاصيل.. مد يده مرة ثانية بملف على نفس المستوى من الفخامة وهو يقول: «ح تلاقى رد على كل أسئلتك فى هذه الأوراق».. وأضاف بنبرة الثقة الزائدة التى سمعتها من قبل عبر الهاتف.. «احنا عاملين حسابنا لكل صغيرة وكبيرة.. ما تشغلش بالك بأى حاجة.. وإذا كان فيه عندك أى مقترحات.. ح تلاقينا جاهزين».. تحدثنا فى أمور عدة.. توافقنا على السفر قبل يوم من بداية المؤتمر.. اقترح عليّ أن أترأس وأدير إحدى الجلسات.. طلب منى أن أوافيه بأى إضافات على برنامج الزيارة وما إذا كانت هناك أماكن محددة أود زيارتها.. أفهمنى أنه سيقترح على وزير الإعلام أن يضم اسمى إلى قائمة المرشحين من الضيوف لعقد لقاء خاص ومحدود مع الرئيس. . شكرته فى نهاية اللقاء وانصرفت.. تحصلت على جميع الأوراق الخاصة بالمؤتمر.. حددت جلسة بعينها كى أترأسها.. وأخيراً وافونى بتذكرة السفر بالطائرة.. قضيت ساعات السفر فى القراءة. هبطت الطائرة فى موعدها.. أقلنا أتوبيس إلى المبنى الرئيسى. • كبار الزوار قبل الوصول إلى منطقة فحص جوازات السفر.. وجدت من يحمل لافتة عليها اسمى.. تقدمت منه.. حيانى باحترام شديد «حمد الله على سلامة معاليك».. طلب جواز سفرى.. أعطيته إياه.. ناوله لشاب كان يقف بالقرب منه.. انطلق به بعيداً.. رجانى أن أتبعه إلى صالة كبار الزوار.. فعلت.. قدموا لى خدمة متميزة.. دقائق وعاد إلى جواز سفرى مختوماً بخاتم الدخول.. مع بطاقة تحية من وزارة الإعلام.. تهنئنى بسلامة الوصول.. فى الطريق إلى مكان وصول أمتعة الركاب.. أخذوا منى رقم شحن حقيبتى.. أسرع بها شاب آخر.. تبادلت ومندوب وزارة الإعلام بعض كلمات المجاملة.. فهمت منه أنه سيصحبنى فى سيارة ليموزين إلى الفندق.. وسيمر على فى المساء لكى أتعرف على معالم المدينة.. أومأت برأسى شاكراً.. لم أمر بصالة الحقائب. أشار إلى جواز السفر الذى كنت أمسك به فى يدى، وهو يقول.. «الزيارة مفتوحة.. تقدر تشرفنا فى بلدك التانى أطول مدة ممكنة .. وثق أن ضيافتك تسعدنا».. شكرته دون تعليق.. واصلنا السير.. مررنا بموقع استلام حقائب المسافرين.. تلفت أبحث عن الشاب الذى ذهب للبحث عنها.. ابتسم المرافق وأشار بيده أن أتقدم.. قال بزهو: «الشنطة سبقتنا للسيارة.. تفضل معاليك».. أكملت سيرى.. ومع كل خطوة تقودنا للخارج ترفع اليد بالتحية. فتح لى السائق باب السيارة الخلفى.. دار مرافقى إلى الناحية الأخرى.. انتظر السائق حتى جلست وأغلق الباب الذى بجانبى.. صعد هو ببطء إلى جوارى.. فى سرعة لافتة.. تقدم السائق ليغلق بابه منصتاً لما يقوله بصوت فيه خشونة..: «بسرعة على الفندق.. سامع» أومأ الرجل برأسه وسبقته يده بالتحية قبل أن يحكم إغلاق الباب. . انطلق السائق بسرعة زاعقة مطلقاً نفير سيارته.. تسابق مع كل السيارات رغم هطول الأمطار المفاجئ.. لم يراع أى قواعد مرورية فى مثل هذا الطقس.. كان الجميع يتجنبه.. ولكنه اضطر للتقليل من سرعته بناء على طلبى وتزكية من مرافقى. . تعمد أن يزاحم السيارات الواقفة فى انتظار تحول إشارة المرور بالقرب من دوران واسع.. وما أن وصل إلى المكان الأول بينها.. انطلق بسيارته غير مبالٍ بأى شىء.. لاحقته صفارات الضابط المسئول عن المكان.. فتح زجاج الشباك المجاور له.. أمسك دفتراً ورقياً ولوح به عالياً وهو يقول صارخاً: «رئاسة يا بهيمة».. أعاد يده إلى الداخل.. أغلق زجاج الشباك.. نظر فى المرآة وقال لى بصوت هادئ..: «عفوا سيدى.. كان لازم يعرف مقامه هذا الحقير».. من ركن عينى لاحظت شعور العظمة يتضخم طافياً على ملامح الجالس إلى جوارى.. لم أعلق ولا حتى ابتسمت.. • سيارة رئيس الوزراء الغالبية منكم يعرفونها ومن لا يعرفها ربما سمع عنها.. ومن ليس من هذه المجموعة أو تلك، نقول له إنها الراحلة مارجريت تاتشر. ليس المجال أن نحكى عن قدرتها على الإدارة وبراعتها السياسية. وليس المجال هنا أن نُقيم أداءها كرئيسة وزراء ( 1979 - 1990 ) لم يًجد الزمان بمثلها حتى اليوم. حكاية سيارة تاتشر ليست لها صلة مباشرة بهذه المسائل السياسية والحزبية والإدارية المعقدة.. لأنها وقعت فى آخر أيام رئاستها للوزارة قبل أن تنتقل مسئوليتها إلى جون ميجور.. تقضى تقاليد المراسم التى تحدد بوضوح شديد العلاقة بين القصر الملكى فى المملكة المتحدة وعنوانه «باكنجهام بلاس» ورئاسة مجلس الوزراء البريطانى وعنوانها «10 شارع دونينج» أن يتحصل الفائز بمنصب رئيس الوزراء على وثيقة رمزية بعد لقاء قصير مع جلالة الملكة إعلاناً عن بدء توليه المسئولية بعد أن نالها وفق مقتضيات التداول السلمى للسلطة عن طريق الانتخابات التشريعية التى جاءت بحزب أغلبية على مستوى المجلس النيابى.. وتفرض هذه التقاليد المرعية منذ أكثر من مائتى عام على رئيس الوزراء المستقيل خارج إطار التداول السلمى هذا أن يستأذن جلالتها فى ترك منصبه وأن يحدد لها من الذى سيتولاه بعده مادام موعد الانتخابات التشريعية لم يحن بعد.. أكملت تاتشر جمع كل متعلقاتها الشخصية من مقر رئيس الوزراء.. ونقلتها على دفعات إلى منزلها.. وفى وقت مبكر من صباح اليوم التالى 22 نوفمبر 1990 راجعت لآخر مرة كلمات الخطاب المحدود الذى ستلقيه أمام مجلس العموم وتعلن فيه اسم من سيخلفها. • تقاليد راسخة إنها التقاليد الراسخة المرعية بكل دقة وشفافية، لأن جميع الأطراف كانت تعرف أن جون ميجور سيخلفها.. الشارع السياسى يعرفه.. وسائل الإعلام حللت شخصيته وفتشت فى تاريخه منذ أن شب عن الطوق.. علاقاته العائلية والأسرية.. ميوله الفكرية.. حبه للرياضة.. مجلس العموم شهد صولات وجولات له كوزير فى حكومة تاتشر.. الأحزاب السياسية تدمن تعليقاته الساخرة.. القصر لديه نبذة موسعة عن خلفياته ورؤيته السياسية. خرجت سيارتها من البوابة الرئيسية لمقر مجلس الوزراء.. أمامها دراجة نارية واحدة.. اتجه الركب يميناً فى شارع الدستور.. توقف احتراما لعلامة المرور الحمراء .. مازال فى الوقت متسع.. تبدل لون العلامة.. عبر الركب إلى الإشارة التالية.. ومنها دخل يساراً إلى بوابة مجلس العموم الرئيسية.. رفع طاقم الحراسة يده بالتحية. هبطت السيدة تاتشر من السيارة.. ارتقت درجات السلم.. وعبرت عدة ممرات.. دخلت إلى قاعة المجلس الرئيسية فى سكون.. أومأت برأسها لمن تصادف أن تلاقت عيناها بعينيه.. اتخذت مكانها المعتاد. بعد دقائق افتتح رئيس المجلس الجلسة.. معلنا أن الكلمة لفخامة رئيسة الوزراء.. قامت تاتشر واقفة.. شكرت رئيس المجلس.. وشكرت جميع الأعضاء .. وأعلنت بكلمات بسيطة استقالتها.. رد المجلس لها التحية بموجات متتابعة من التصفيق.. لما عاد السكون إلى القاعة.. أعلنت أنها ستترك المجلس فى طريقها إلى القصر الملكى لتبلغ جلالتها باسم من سيخلفها فى تولى مسئولية وزارة المملكة المتحدة. • المرأة الحديدية جمعت تاتشر أوراقها.. أحنت رأسها لرئيس المجلس الذى رد لها التحية بالمثل.. عادت موجة التصفيق تتردد فى جنبات المجلس.. أحنت المرأة الحديدية رأسها مرات كثيرة.. وانسحبت خارجة من القاعة بهدوء كما دخلتها.. جلست فى مقعدها بالسيارة.. توقف الركب عند البوابة الرئيسية بسبب إشارة المرور الحمراء.. وتكرر هذا المشهد ثلاث مرات فى الطريق إ لى باكينجهام بالاس.. تأخرت تاتشر عن موعدها مع جلالتها.. لكن ما باليد حيلة.. قرر قائد الدراجة البخارية أن يزيد من سرعته فيما بقى من مسافة لا تزيد على المائتى متر.. نجح الرجل فى تعويض جزء من الوقت.. قبل أن يبلغ بوابة القصر .. فوجئ بسيل من المشاة يجتاز الطريق من كلا الاتجاهين.. عليه أن ينتظر فهؤلاء من دافعى الضرائب لهم الأولوية.. وعلى راكبى السيارات الانتظار. أقدم الرجل على فعلة لم يسبقه إليها أحد.. تناول الميكروفون الصغير المعلق على كتفه.. وشرح للمشاة الموقف الحرج الذى تمر به رئيسة الوزراء المستقيلة.. وكيف أنها تأخرت على موعدها مع جلالتها بضع دقائق.. واستأذنهم أن يتوقفوا عن المرور لبعض ثوانٍ لكى يمر الركب فى اتجاه القصر حتى لا يزداد زمن التأخر أكثر.. أدرك المشاة حساسية الموقف.. صفق بعضهم لتاتشر التى رفعت يدها بالتحية.. تراجع العابرون من الناحيتين.. أخلى شريط المشاة تماما فى لحظات. عبر الركب فى سلام متوجها إلى بوابة القصر الرئيسية. •