رحلة ليست بالقصيرة، تنطلق فيها هاربا من ضوضاء المدينة حيث القاهرة الساهرة لتصل إلى القرية بطًلتها الناضرة حيث البرلس المدينة الهادئة، وفى أثناء الرحلة التى تكون عبر الطريق الدولى «طنطا - كفر الشيخ» تمر على محطات متباينة تتدرج ما بين المدنية إلى البساطة والفطرة. قرية برج البرلس، التى تقع ما بين بحيرة البرلس والبحر المتوسط، حيث هواية ممارسة الفن والجمال العفوى، أطفال عكست بسماتهم الرقيقة شهور انتظارهم للملتقى والذى يحدث من السنة للسنة، تلك الطاقة والشحنة الإيجابية التى تدب فى المدينة كلها وكأن قوى سحرية مست كل ما بها فتحولت إلى مدينة تنبض بالحياة، عندما يحين هذا الموعد لملتقى البرلس الدولى الثالث للرسم على الجدران والمراكب، والذى تقيمه مؤسسة عبدالوهاب عبدالمحسن للثقافة والتنمية، والذى شارك فيه أربع عشرة دولة لمجموعة من الفنانين من مختلف الجنسيات بما لديهم من أفكار وثقافات، خرج فيها هؤلاء الفنانون عن التقليدى والمألوف فانطلق كل فنان كان قد اعتاد العمل داخل مرسمه، أو قاعات العرض المغلقة، بما لديه من مريدين من صفوة المجتمع لينزل إلى الشارع وليتعامل مع المجتمع بطبقاته الأكثر واقعية ليضيف إليها بعضا من لمساته الفنية بما أتاه الله من موهبة، حيث إن كل فنان مشارك فى الفعالية يختار المشروع الذى يعمل عليه بكل حرية وفق رؤيته الفنية الخاصة، فاختلفت نكهات فنونهم فظهرت فى سيمفونية رائعة من الفن والإبداع على حوائط ومراكب البرلس. وانطلقنا بين حواريها الضيقة نسير، وعلى جدرانها الأسمنتية شاهدنا عملا فنيا كاملا يمثل ملحمة من الجمال العفوى الحر حيث تحولت الجدران الجامدة الصلبة إلى لوحة فنية بديعة تنطق بجمال فريد ومميز لمدينة البرلس، وتعكس من البهجة والسرور على جميع سكانها من الأطفال إلى آبائهم وأجدادهم، فالجميع لديه حب للفن ولكن مع اختلاف التذوق أو التعبير عنه، إلا أنهم اتفقوا على إعجابهم بفكرة تلوين المدينة ببيوتها و«دكاكينها» لتنتشر فوضى الألوان ولتقهر هذا اللون الرمادى الكئيب، «لون الأسمنت الذى عادة ما يكون هو الشكل الأخير للمبنى» والمنتشر بشكل كبيركوجه للمدينة الحالمة. لتتحول البرلس إلى كرنفال شعبى حى، وتتحول المراكب إلى حكايات جديدة تحكى أساطير ورحلة صيد وعودة مسافر. • وجوه غريبة سيدة عجوز تطل من النافذة تتأمل تلك الوجوه الغريبة عن القرية.. فنان يشد خطوط فنه وإبداعه على جدار قهوة بلدى.. هذا التلاحم بين الفنانين والبسطاء له دلالات وإشارات ورسائل كانت أعمق من أن تنتهى سريعا ويزول أثرها بمجرد انتهاء تنفيذ هذا العمل الفنى. وكان من قارئى هذه الرسائل الست غالية، امرأة تبدو فى الخمسين من عمرها تبدو وكأنها قارئة للكفوف لا للفنون، نظرت نحوى نظرة مبتسمة مرحبة باعتبارى أحد تلك الوجوه الغريبة عن القرية التى تعرفها جميعا من أصغر طفل حتى الشايب فيها، ويبدو أنها كانت قد تعلمت أيضا أسلوب التعامل مع الغرباء وماذا يريدون وإلى أين يكون حديثهم حتى فاجأتنى «أهلا بالناس الحلوة» واسترسلت فى حديثها العفوى قائلة «أول ما وصل الفنانين استقبلناهم بالفرحة زى كل سنة، لأن أهالى البرلس عشريين وبيحبوا الناس بسرعة ولما بدأوا يرسموا خرج الولاد عشان يشاركوهم ويرسموا ويلونوا، وجم هنا لونوا البيت من بره وولاد ابنى كملوا تلوين بمدخل البيت، الدنيا كلها بتضحك لما ييجوا ويسهروا معانا من غير كبر ولا نفس عالية، ناس طيبة وبشوشة، وكل سنة نستناهم»، وعن قريتها الهادئة تحدثت «البرلس دى الأصل الطيب، الناس هنا كافية خيرها شرها، وكله بيفرح للتانى وقلبه على التانى، الصيد علم الناس الصبر، اللى يروح على مركبه يصطاد ندعيله يرجع بالرزق الواسع، واللى بيسعى ربنا بيديله من خيره. والناس هنا قانعة وراضية. وودعتنى بكلمات قليلة عن الأمل والصبر وغنى النفس. أكملت طريقى فى المدينة متعرجة الطرق كثيرة الانحناءات لأفاجأ أمامى ب «حارة الورد»، هى حارة كتب عليها هذا الاسم، وكانت مشروعا للفنان عادل مصطفى قام فيه برسم ورد على جدران أحد الشوارع حتى أصبح أشبه بحديقة ليس عليك سوى أن تقترب منها لتشم عبيرها الندى. الفكرة كانت من إبداعها أن حولت الحارة إلى درب مختلف من دروب الجمال. يقول الفنان محمد أبوالوفا أحد المشاركين بالملتقى أنه قد سعد كثيرا بهذا التواجد والتعامل بروح الفريق، فالجميع يستمتع بتنفيذ إبداعه الشخصى ثم تلوين هذه الأفكار وتحويلها إلى إبداع حقيقى سواء على الحوائط أو المراكب ولتحكى كل مركبة بلغة واحدة عن إبداع صاحبها. وعن العمل الذى قام به «الفنان أبوالوفا»، قال «عملت جدارية وهيّ الليلة الكبيرة لأن حببت أعمل شىء يمس التراث الشعبى المصرى وركزت أكثر على موضوع (الأراجوز) لأنه مصرى جداً، ويلاقى إعجاب وفرح الأطفال. البرلس المدينة الفقيرة ماديا الغنية بأهلها والتى استقبلت هؤلاء الفنانين فى تفاعل وترحيب حيث كان الهدف الأسمى لهم من وراء هذا المشروع هو محاولة تغيير حياة البسطاء الذين يعيشون فى هذا المكان إلى الأجمل، ومحاولة تغيير سلوك الأطفال إلى الأفضل بواسطة الفن، لنشر عدوى الفن والتجميل إلى هذه المناطق، وهذا ما قام به بالفعل هؤلاء الفنانون لينثروا هذا الفرح وهذه البهجة على تلك البقعة الفريدة، التى هى بالفعل واحة من الجمال الذى يحوى بين جنباته البحر والنخيل والكثبان الرملية. مشاهد من الجمال عندما تندمج معها ترسم هذا الاسم فى قلب الطبيعة النادرة. ودعنا المدينة الجميلة ومازالت المشاهد الأخيرة تتبعنا.. فرحة الأطفال.. أهلها الطيبون.. الحوائط المكسوة بالألوان.. والمراكب التى تستعد للانطلاق فى بحرها البرىء كوجه أطفالها تحمل عبارات الحمد والشكر وخليها على الله. •