جلست هى وتلك القبيحة على منضدة واحدة، تحاصرها بنظرات الاشمئزاز. هى.. تريد الانتقام، والثانية.. لا حول بها ولا قوة. نعم.. الانتقام.. الانتقام. هكذا أخذ هذا الصدى يتردد داخلها، ويدفعها دفعا إلى ارتكاب جريمتها دون تراجع أو استسلام، ولم لا؟!! فلتفعل ذلك ثم لتستغفر؟! عندئذ آفاق شيطان عقلها من غفوته - على كابوس الاستغفار - مشجعا لها ومباركا توبتها المعلقة. وجلسا معا شيطانين صغيرين يعدان للمؤامرة الانتقامية. إلا أن تفنن ذاك الشيطان النارى فى إغوائها وهو يزين لها كل الطرق الممكنة وغير الممكنة للتخلص منها، تلك الدخيلة التى أفسدت عليها حياتها وقلبتها رأسا على عقب. لكن فجأة.. وفى لحظة عاقلة ترقرقت الدموع فى عينى هدى عندما تذكرت تحذيرات أمها لها من ترك تلك الرفيقة الجديدة وحدها متعمدة دون أن تأخذها معها إلى المدرسة. فكيف إذن الخلاص؟! فكرت كثيرا وأكثر جدية فى الطريقة التى تنتهى فيها من هذا الكابوس. وتساءلت؟! إذا عقدت النية لتفعل!! فأين ستذهب بجسم الجريمة؟ هل تدفنها فى الجنينة؟! أم تدفع بها خلسة أمام أقرب أتوبيس تراه أمامها دون أن يلاحظ أحد يدها الآثمة وهى تدفع بها نحو الهلاك. ظلت تفكر وتخطط فى سكون بدهاء أنثى ناضجة لا بعقل فتاة فى الحادية عشرة من عمرها، حتى قاطعت أمها أفكارها صارخة لتخرجها مفزوعة من جحيم انتقامها. بنت يا هدى.. ابعدى شوية عن التليفزيون لتنضربى. أسطوانة كل يوم بين الأم وابنتها التى اختارت لنفسها ذلك الركن القريب جداً من شاشة التليفزيون فكانت تعشق الألوان ويبهرها ذلك البريق التليفزيونى الملون بفتيات الإعلانات ونجوم السينما. تشاركت هى وجدها - ذلك العجوز الهادئ دائم الابتسامة - المقعد القريب من التليفزيون ليسافرا معها عبر شاشة واحدة وعقلين مختلفين إلى هذا العالم الفضى وليقفز كل منهما فى اللحظة المناسبة إلى عالمه. ذهبت هدى فى اليوم التالى إلى مدرستها ببسماتها السعيدة بعد ليلة ساهرة ملونة بمزيج من الأفلام الأبيض والأسود لتدخل إلى فصلها فى نشاط، تنظر إلى صديقاتها، وهى توزع عليهن ابتساماتها كأنها إحدى بائعات السعادة حتى تصل إلى مقعدها بالصف الأخير. الوجوه من حولها تثير بعض التساؤلات المتجددة فى نفسها، لماذا دائما ما تبدو وجوه صديقاتها فى الصفوف البعيدة أكثر سعادة وإشراقا من مثيلاتهن القريبات منها؟ هل يكرهنها حقا؟ ولكنها لم تفعل ما يثير غضبهن، إذن فلماذا يبدون دائما مقطبات الجبين؟ كتلة جسدية ضخمة تقطع عليها حبل أفكارها، إنها أبلة عفاف مدرسة اللغة العربية، تنظر إليها فى ضيق وهى تضع أمامها ورقة الامتحان وعليها نتيجة اختبار الشهر وقد لطختها الدوائر الحمراء. لم تسعد هدى هذه المرة باللون الأحمر - الذى كانت تعشقه - لأنها كانت تعلم ما سيترتب على تلك العلامات القرمزية فى كراستها من مثيلتها على جسدها من ألوان الطيف الحمراء والزرقاء والخضراء المائل إلى البنفسجى. تنفست هدى الصعداء وهى تحاول أن تهدئ من روعها، لتنظر فى خلسة إلى وجه أستاذتها الغاضبة الجالسة على كرسيها البعيد، لتنفجر ضحكاتها فجأة - كطلقة مكتومة الصوت - فى براءة طفولية، إنها تلك الأراجوزات تعود مجددا من حولها لترتسم على وجه أبلة عفاف وعلى كل تلك الوجوه البائسة لتلاميذ سيلاقون نفس مصيرها العقابى لتدنى مستواهم التعليمى. نادت عليها أستاذتها فى نظرة محتقنة من خلف نظارتها السميكة وهى تضرب أخماسا فى أسداسا، فهدى طالبة مجتهدة طيلة الأعوام السابقة حتى إن زميلاتها كن يلقبنها بالمنشار؟!! ترى ماذا حدث لتلك الفتاة التى أصابها عته الفشل فجأة دون سابق معرفة، جلست هدى جانبها على المقعد الأستاذى لتبدأ الأخيرة فى استجوابها وهدى تجيب مستسلمة فى شبه جدية بعد أن هرب ولأول مرة ذلك الأراجوز الضاحك عن وجه أبلة عفاف وأصبحت لا ترى فى هذا الوجه القريب منها سوى ملامح بائسة تغطيها الندوب والتجاعيد. ابتعدت هدى قليلا عن وجهها خائفة من هذا الشبح الآدمى وهى تجيب فى صوت أكثر استسلاما «أنا كويسة يا أبلة وبذاكر». أعادت الأستاذة رأسها إلى الوراء قليلا متشككة فيما تقوله تلميذتها، فأملت عليها قطعة إملائية لتختبر صدق كلامها، وكانت المفاجأة فى تخطى هدى لهذا الاختبار المفاجئ دون خطأ واحد. أخذت صاحبة المقعد الأستاذى قصاصة ورق من كشكول تحضيرها وكتبت بعض الكلمات ثم أطبقت الورقة جيدا لتضعها فى يد هدى قائلة «لما تروحى البيت أديها لبابا». أخذت هدى الورقة دون كلمة وهى تبتعد عن تلك الخطوط المتوازية المرسومة على جبين أستاذتها «111» دون أن يدفعها حتى الفضول لفتحها لقراءة هذه الطلاسم. عادت إلى البيت وقدمت الورقة إلى والدها صاحب الوجه الضاحك دائماً - فهكذا كانت تراه - لتنتظر فك شفرة تلك القصاصة العجيبة. فتح الأب القصاصة وبدأ فى قراءتها متمتما حتى انقلبت ابتسامته لأسفل ولم ينطق بكلمة، فالتقطت الأم الورقة من يده وقرأتها ثم ألقت بها صائحة مندفعة نحو المطبخ «نسيت السمك ع النار». هدى تنظر إلى شبح أمها - صاحبة السمك - المغادر دون تعليق، بينما يمسك الأب بيد ابنته متوجها نحو الباب استعدادا للنزول من البيت ليذهب بها - كما نصحته الأستاذة فى قصاصتها - إلى طبيب العيون. انتظرا قليلا فى العيادة حتى جاء دورهما وهى تنظر حولها بفضولها المعتاد لترى فى دوائر اختبار النظر التى ملأت صالة الانتظار من حولها شموسا بلورية وأطواقا كالتى تلعب بها مع صديقاتها فى حصص النشاط. دخلا إلى غرفة الطبيب الذى لم يبد اهتماما كثيرا بوجودها كأنه مبرمج على سؤال واحد، الدائرة دى مفتوحة منين يا شاطرة؟ وكعادتها كتلميذة مجتهدة أجابت عن كل الأسئلة ولكن جميعها خطأ. فقد تراءت لها هذه الدوائر وقد تشابكت جميعها كبالونات الصابون التى كانت تعشقها وتتمنى يوما أن تقفز بداخل إحداها لتطير معها إلى آخر الدنيا. أنهى الطبيب الكشف سريعا بكتابة قصاصة هو الآخر فيها بعض المقاسات للنظارة الطبية المناسبة لابنته. ومن عيادة طبيب العيون توجه الأب بابنته إلى محل النظارات القريب من العيادة ليحصل على النظارة بالمقاسات المطلوبة خلال ساعة كما أخبره العامل، جلس الأب والابنة فى انتظار الانتهاء من إعداد المقاسات المطلوبة. وهنا أخرجت هدى من جيبها ورقة امتحانها بعلاماته القرمزية وهى تنظر إلى وجه أبيها، وقد شجعها ذلك الأراجوز الساكن فوف تقاسيمه مستغلة هذا الحادث القهرى وهو قصر نظرها - كما قال الطبيب - فى رفع العقوبة عنها. وكان لها ما توقعت، فأخذ الأب الورقة من ابنته ليلقى نظرة قصيرة عليها ثم أفلتها من بين أصابعه لتتهاوى على الأرض وهو يحتضن ابنته فى حنان نادر. وأخيرا.. جاءت النظارة وما كان على هدى إلا أن تجربها كما طلب منها والدها. الأب: ده رقم كام فى النتيجة اللى ع الحيطة ياهدى؟ هدى: خمسة يا بابا الأب - فاردا أصابعه العشرة،: ودول كام؟ هدى ناظرة إلى وجه الأب الذى غاب عنه الأراجوز الضاحك - فى محاولة منها لاستيعاب الموقف - عشرة يا بابا. ماذا يحدث، هكذا تساءلت هدى بين نفسها، كيف فى لحظة تحولت حياتها إلى أرقام واختفت منها الألوان. خرجا من المحل وسارت إلى جانب والدها فى الطريق الطويل إلى بيتها وقد تبدل الحال، بعد أن أصبحت من ذوات الأربع «عيون». فالوجوه الضاحكة التى كانت تراها تحولت إلى نظرات شاخصة، والحميمية - المشوشة - التى كانت تتأملها يوميا فى تقارب الناس معا كأجساد مموهة، قد باعدت بينهم الآن تلك العدسات الزجاجية القبيحة. وصلت إلى البيت وكانت قد اكتفت مما رأت فى طريقها الطويل من مفاجآت كان أكثرها حيرة أن الأرض لم تعد مستوية!! جلست هدى إلى المنضدة ودارت بها الدنيا حتى سمعت صوت والدتها يقترب منها فرفعت نظرها نحوها فإذا بالوجه الأبيض الأملس الذى عهدته لوالدتها قد تغير هو الآخر حتى تلك الغمازة على خدها الأيمن لم تكن سوى ندب لجرح قديم. أغلقت هدى عينيها وصمت أذنيها عما قالته الأم من كلمات الاستحسان للرفيقة الجديدة وهى تغادرها سريعا إلى المطبخ لإعداد باقى الطعام. جلست هى وتلك القبيحة على منضدة واحدة تتبادلان نظرات الاشمئزاز. فطاف بها شيطان عقلها يعد لها المؤامرات للتخلص منها، بعد أن أفسدت تلك الدخيلة حياتها وقلبتها رأسا على عقب.. ولكن ترقرقت الدموع فجأة فى عينيها عندما تذكرت تحذيرات أمها لها من تركها عمدا دون أن تأخذها معها إلى المدرسة. فكيف إذن الخلاص؟! فكرت كثيرا فى الطريقة التى تنتهى فيها من هذا الكابوس وأين ستذهب بجسم الجريمة إذا أقدمت عليها. هل تدفنها فى الجنينة؟! أم تدفع بها أمام أقرب أتوبيس تراه أمامها دون أن يلاحظها أحد. ظلت تفكر وتخطط فى سكون بدهاء أنثى ناضجة لا بعقل فتاة فى الحادية عشرة من عمرها. الغضب الصامت على وشك الانفجار لنسف تلك الدخيلة فلم تستطع أن تغفر لها أنها من باعدت بينها وبين عالمها الملون واختفاء أراجوزاتها الضاحكة منه. فحملتها بين كفيها من فوق المنضدة كجسد هامد بعد أن أطلقت عليه حكم الإعدام وهى تشيعها إلى مثواها الأخير لتطوحها ملء ذراعها من الشباك الذى يفتح على الشارع الكبير، وسريعا ما يكتمل المشهد الانتقامى عندما دهستها إحدى السيارات الطائشة لتتحول إلى حطام زجاجى لجريمة مكتملة الأركان. أخذت نفسا عميقا وهى تبتسم ابتسامة المنتصر، لتتابع خطى السائرين فى الشارع بأراجوزاتهم الضاحكة ولتذوب معها مجددا فى دنيا الألوان. •