«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرض وسرد الجحيم.. رواية دان براون الحلقة الرابعة
نشر في التحرير يوم 18 - 10 - 2013

رواية «الجحيم» للكاتب الأمريكى الأشهر دان براون فاقت جميع التوقعات، إذ باعت منذ صدورها نحو 12 مليون نسخة، كما احتلت صدارة قوائم مبيعات كل من دار نشر «أمازون» و«بارنز آند نوبل»، وهو ما سبق أن تحقق لرواياته السابقة، التى باعت مئتى مليون نسخة عبر أنحاء العالم، منها 80 مليون نسخة لرواية «شفرة دافنشى» وحدها.
فى روايته الجديدة يصطحب دان براون قرّاءه إلى قلب إيطاليا عبر مشاهد مستوحاة من ملحمة الجحيم للشاعر الإغريقى الأشهر دانتى.
«التحرير» تنشر خلال أيام العيد الأربعة عرضًا وسردًا لفصول من الرواية قام به بجهد ودأب الكاتب والمترجم والطبيب د.هانى حجاج.
أخذ العميد المظروف، وأدخله فى ملف الرجل ودوّن بعض الملاحظات اللازمة لتأكيد جديته فى تحقيق رغبات عميله
يكمل براون أحداثه المثيرة بعد أن وجد لانجدون فجأة أمامه المرأة التى كانت فى رؤياه، لكنه يأخذنا معه إلى اليخت أولا.
انطلق العميد خارجا من غرفة التحكم وركض بخطوات واسعة يقطع السطح الطويل لسفينته الكذَّاب، يحاول لملمة أفكاره المتناثرة المبعثرة. الأخبار التى جاءته الآن من البناية السكنية فى فلورنسا كانت غير معقولة بالمرة.
دار فوق متن اليخت مرتين قبل أن يدخل مكتبه ويخرج زجاجة هايلاند بارك عمرها خمسون عاما. دون أن يصب الخمر فى الكأس. وضع الزجاجة وأعطاها ظهره، تذكار شخصى أنه ما زال صاحب الكلمة العليا والمسيطر.
تحرَّكت عيناه على نحو غريزى فى اتجاه مُجلَّد ثقيل عتيق على رف كتبه، هدية من عميل.. العميل الذى يتمنى الآن لو لم يقابله أبدا.
عام كامل مضى.. وكيف كان لى أن أعرف؟
فى العادة لم يكن العميد ليجرى أى مقابلات شخصية مع أى عميل منتظر، لكن هذا العميل قد جاء إليه من مصدر موثوق به، من ثم وافق على الاستثناء.
كان أحد الأيام الهادئة الميتة بالبحر عندما وصل العميل إلى سطح اليخت «الكذّاب» على متن الهليكوبتر الخاصة به. كان الزائر، وهو شخص يشار إليه بالبنان فى مجاله، يبلغ من العمر أربع وستون عاما، أنيق، لامع، وطويل بشكل لافت للأنظار، وله عينان خضراوان نظراتهما ثاقبة كاسحة.
- «كما تعلم» بدأ الرجل كلامه. «نصحنى صديق حميم باللجوء إلى خدماتك»، ومد الزائر ساقيه ليشعر كأنه فى بيته وهو يجلس فى مكتب العميد الفاخر. «لذلك، دعنى أخبرك عما أحتاج إليه».
- «فى الحقيقة؛ لا!» قاطعه العميد، ليريه من هو المسؤول هنا. «نظامى يقتضى أن لا تخبرنى بأى شىء. سوف أشرح الخدمات التى أقدمها، وسوف تقرر أيها، أو لا شىء منها، قد أثار اهتمامك».
بوغت الزائر وبدا أنه قد أُخذ بمبادرة العميد لكنه عاد بظهره فى مقعده وأنصت بهدوء واهتمام.
فى النهاية، اتضح أن ما يرغب فيه الزائر الجديد ممشوق القوام لم يكن أكثر من مهمة عادية جدا تقوم المنظمة بالعشرات منها، المسألة ببساطة هى أن يصير «خفيا» لبعض الوقت ليتمكن من تعقّب ما فر من العيون المراقبة. لعب أطفال. تستطيع المنظمة تحقيق ذلك بأن تمنحه تحقيق شخصية مزورا، وموقعا آمنا، خارج نطاق أى تعقب؛ حيث يتمكن من إنجاز عمله فى سرية تامة. أيا كان هذا العمل. لا تطلب المنظمة أى توضيحات تخص غرض العميل طالب الخدمة، ولا تسأل على الإطلاق، وتفضل أن تعرف أقل ما يمكن عن هؤلاء الذين تعمل من أجلهم.
لعام كامل، مقابل ربح معقول، قدم العميد الغطاء الآمن للرجل صاحب العيون الخضراء، الذى اتضح أنه عميل نموذجى. لم يتصل به العميد، لكن كل الفواتير كان يتم دفعها فى الوقت المحدد.
بعد ذلك، منذ أسبوعين مضيا، تبدّل كل شىء.
بشكل غير منتظر، اتصل العميل، يطلب مقابلة شخصية مع العميد. وبالنظر إلى حجم المبالغ المالية التى دفعها العميل، اضطر العميد إلى الموافقة. أما الرجل المشعَّث الذى وصل إلى اليخت، بالكاد كان يمكن التعرف عليه على أنه ذات الرجل الرصين، الأنيق، النظيف الذى أجرى العميد معه الصفقة منذ عام مضى. فى عينيه الخضراوين نظرات ذائغة مهتاجة. العيون التى كانت حادة جادة فى يوم ما. بدا كأنه... مريض.
ما الذى حدث له؟ ما الذى كان يفعله بالضبط؟
أشار العميد للرجل المهلهل ليدخل مكتبه.
هتف العميل:
- «الشيطانة ذات الشعر الفضى. إنها تقترب كل يوم أكثر».
ألقى العميد نظرة على ملف العميل، وتأمَّل صورة المرأة الجذابة ذات الشعر الفضى، وقال:
- «نعم، شيطانتك ذات الشعر الفضى. إننا على علم تام بأعدائك. ولأنها شديدة القوة أبعدناها عنك لمدة عام كامل، وسوف نستمر فى ذلك».
الرجل المذعور صاحب العيون الخضراء لف خصلات من الشعر المشحم حول أطراف أصابعه فى خبال:
- «لا تدع جمالها يخدعك، إنها خصم خطير».
صدقا وحقا، فكّر العميد، من المؤسف والمزعج أن يجذب عميله انتباه شخص له هذا التأثير. المرأة ذات الشعر الفضى كانت ذات نفوذ جبار ومصادر منيعة، لم تكن العدو الذى يرغب العميد فى تحديه على الإطلاق.
- «إذا تمكنت هى أو عفاريتها من تحديد مكانى، فإن».
بدأ العميل يهلوس، لكن العميد قاطعه مطمئنا:
- «لن يقدروا على ذلك. ألم نخفك عن عيونهم طوال هذه الفترة، وقدمنا لك كل شىء طلبته؟»
غمغم الرجل:
- «نعم، ومع ذلك فلن يغفو لى جفن إلا إذا..».
وصمت لحظة يجمع فيها شتات نفسه:
- «أحتاج إلى معرفة أنه إذا حدث لى أى شىء فسوف تحقق لى أمنياتى الأخيرة».
- «وهذه الأمنيات هى…؟».
مد الرجل يده فى حقيبة وأخرج منها مظروفا صغيرا مغلقا بإحكام:
- «محتويات هذا المظروف تعطيك صلاحية دخول صندوق ودائع آمن فى فلورنسا. داخل الصندوق، سوف تجد شيئا صغيرا. إذا حدث لى أى شىء، أحتاج منك إلى أن تسلم هذا الشىء بدلا منى. إنها هدية من نوع ما».
- «حسن جدا».
وأمسك العميد بقلمه لتدوين الملاحظات.
- «ولمن تريدنى أن أسلمه؟».
- «للشيطانة صاحبة الشعر الفضى نفسها».
رفع العميد نظره إليه:
- «هدية للشخص الذى يعذّبك؟».
- «بل شوكة فى حلقها». ولمعت عيناه ببريق مجنون. «هدية صغيرة أنيقة فى قلب عظمة. سوف تعرف أنها خريطتها.. فرجيل الخاص بها... مرشد أمين إلى مركز الجحيم الذى يخصها».
تأمله العميد طويلا وأخيرا قال:
- «كما تشاء. اعتبر المسألة منتهية».
حثَّه الرجل:
- «الوقت مهم وحرج. لا يجب تسليم الهدية فى وقت قريب جدا. يجب أن تحتفظ به فى مكان خفى حتى..».
وصمت لحظة ليذوب فجأة فى أفكاره.
شجّعه العميد على المتابعة:
- «حتى ماذا؟».
وقف الرجل فجأة وسار خلف مكتب العميد، وأمسك قلم التعليم الأحمر ورسم بأصابع مرتعشة وروح مجنونة، دائرة حول تاريخ ما فوق التقويم الشخصى لمكتب العميد:
- «حتى هذا اليوم».
جز العميد على أسنانه ونفث زفيرا حانقا ثم ابتلع امتعاضه من شذوذ الرجل وفى النهاية قال:
- «مفهوم لن أفعل شيئا حتى الوقت المحدد بالدائرة، حتى يحين موعد تسليم الشىء المودع فى صندوق الأمانات، أيا كان ما هو، للمرأة ذات الشعر الفضى. خذها منى كلمة».
وعد الأيام على تقويمه حتى الموعد المنشود والمحاط بدائرة ركيكة:
- «سوف أحقق أمنياتك بعد أربعة عشر يوما على وجه الدقة بدءا من الآن».
ولوّح العميل كالمحموم:
- «ولا يوم واحد قبل الموعد المحدد».
أكدّ العميد:
- «أفهم. ولا يوم واحد».
أخذ العميد المظروف، وأدخله فى ملف الرجل ودوّن بعض الملاحظات اللازمة لتأكيد جديته فى تحقيق رغبات عميله بمنتهى الدقة. وبينما لم يصف عملية الطبيعة الفعلية للشىء فى صندوق الودائع، إلا أن العميد كان يفضل أن تتم الأمور على هذا النحو. الانعزال والاستقلال، حجرى الأساس فى فلسفة المنظمة. قدِّم خدماتك. لا تسأل أى أسئلة. لا تطلق أحكاما على الأشخاص وتصرفاتهم.
ارتخى كتفا العميل وتنفس الصعداء للأعماق:
- «أشكرك».
سأله العميد:
- «أى شىء آخر؟».
وكله شغف فى التخلص من عميله المتحوّل.
- «نعم، فى الحقيقة هناك».
مد يده فى جيبه وأخرج بطاقة ذاكرة رقمية صغيرة فى غلاف قرمزى.
- «هذا ملف فيديو».
ووضع بطاقة الذاكرة أمام العميد؛ وتابع:
- «أريد رفع هذا للإعلام على مستوى العالم».
تأمّله العميد بفضول واهتمام متصاعدين.
عادة ما تقدم المنظمة معلومات واسعة الانتشار لعملائها، ومع ذلك فثمة ما يُقلق بصدد طلب هذا الرجل تحديدا.
سأله العميد وهو يشير إلى الدائرة الحمراء المحيطة بالتاريخ المنشود فى التقويم:
- «فى نفس الموعد؟»
أجاب العميل:
- «فى نفس الموعد بالتحديد. دون دقيقة واحدة قبل ذلك».
- «مفهوم» وضم بطاقة الذاكرة إلى ورقة المعلومات، ثم أردف:
- «إذن، هذا هو كل شىء؟».
ثم إنه وقف مزمعا إنهاء المقابلة. لكن عميله ظل جالسا.
- «كلا. هناك شىء آخر.. وأخير».
جلس العميد من جديد. وبدت عينا العميل الخضراوان مخيفتان الآن وهو يقول فى نشوة غريبة:
- «بعد تسليمك لهذا الفيديو، سرعان ما سأصير شهيرا. رجلا مشهورا جدا».
أنت بالفعل رجل مشهور؛ خطر فى بال العميد وهو يتأمل الظروف المثيرة المحيطة بهذا العميل تحديدا. وقال الرجل:
- «وأنت تستحق بعض الفائدة. الخدمة التى قدمتها لى مكَّنتنى من خلق تحفتى.. سيمفونية سوف تغير العالم. يجب أن تفخر بدورك فى الموضوع».
- «أيا كانت تحفتك». وبدأ صبر العميد ينفد. «فأنا سعيد بالخصوصية التى حصلت عليها من أجلها».
- «وعلى سبيل الشكر والعرفان، ابتعت لك هدية مناسبة».
ومد الرجل غير المتزن يده فى حقيبته:
- «كتاب!»
تساءل العميد إذا كان هذا الكتاب هو تحفته وسيمفونيته التى ظل يعمل عليها العميل طيلة ذلك الوقت.
- «وهل قمت بتأليف هذا الكتاب؟».
- «لا».
ورفع الرجل مجلدا ضخما وضعه على المنضدة.
- «بل على العكس.. تم تأليف هذا الكتاب من أجلى».
بعيون حائرة تأمّل العميد الكتاب الذى قدّمه العميل. يعتقد أن الكتاب مؤلف من أجله؟ الطبعة التى أمامه، كما هو واضح، عمل أدبى كلاسيكى للغاية.. لكنه مكتوب فى القرن الرابع عشر!
- «اقرؤه!»
حثه العميل بابتسامة غامضة.
- «سوف يساعدك على فهم كل ما فعلته».
وهنا وقف العميل وقال وداعا، ثم رحل فجأة.
راقب العميد من خلال زجاج مكتبه هليوكوبتر الرجل وهى تغادر سطح السفينة متوجهة رأسا إلى ساحل إيطاليا. بعدئذ أعاد العميد انتباهه إلى الكتاب العملاق أمامه. بأصابع غير واثقة، رفع الغلاف الجلدى السميك وفتح الصفحات حتى وصل إلى المقدمة. مدخل الكتاب كان صفحة مكتوبة بحروف خطاط عريضة ملأت الصفحة الأولى بالكامل.
ويبدأ دان براون لغزا جديدا مع صفحات الكتاب الغامض.. الجحيم.
الجحيم
فى منتصف طريق رحلتنا فى الحياة.
وجدت نفسى بين أعطاف غابة مظلمة.
لأن الصراط المستقيم قد ضاع منى.
فى الصفحة المقابلة، وقَّع عميله الكتاب برسالة بخط اليد:
صديقى العزيز، أشكرك لمساعدتى فى العثور على الطريق. العالم يشكرك أيضا.
لم تكن لدى العميد أدنى فكرة عن معنى هذا الكلام، لكنه قرأ ما يكفى. أغلق الكتاب ووضعه فوق رف كتبه. الحمد لله أن علاقته المهنية بهذا الشخص الغريب سوف تنتهى قريبا. أربعة عشر يوما أخرى. ثم إنه ألقى بناظريه على الدائرة الحمراء المزعجة على تقويمه الشخصى. فى الأيام التالية لذلك اليوم، شعر العميد لأول مرة أنه على الحافة بخصوص هذا العميل، الذى جاءه أشعث أغبر مهووسا. وبالرغم من تحفُّز العميد، مر الوقت دون وقوع حادثة.
ولكن، قبل الموعد المحدد بالدائرة الحمراء مباشرة، حدثت سلسلة سريعة من حوادث مثيرة فى فلورنسا.
حاول العميد أن يتعامل مع الأزمة، لكنها سرعان ما خرجت عن السيطرة. تفاقمت الأزمة إلى ذروتها مع صعود العميل متقطع الأنفاس برج باديا.
لقد قفز.. إلى حتفه.
بالرغم من رعبه لفقد عميل، خصوصا بهذه الطريقة، ظل العميد ذلك الرجل البار بقسمه، المحافظ على كلمته ووعوده. بدأ بسرعة فى إعداد نفسه للوفاء بوعده الأخير للمرحوم على أكمل وجه -تسليم محتويات صندوق الودائع الآمن للمرأة ذات الشعر الفضى فى فلورنسا- فى الوقت الحاسم، الحرج كما فهم.
ليس قبل التاريخ المحدد على تقويمه.
أعطى العميد المظروف الذى يحتوى على شفرات فتح صندوق الودائع ل«فاينثا»، التى سافرت إلى فلورنسا لاستعادة الشىء الموجود داخل الصندوق -هذه «الهدية الصغيرة الخاصة. التحفة. الشوكة فى الحلق»- عندما هاتفته فاينثا وكانت الأخبار التى لديها مزعجة ومنذرة.
لقد اختفت محتويات الصندوق بالفعل قبل أن تصل إليه وبالكاد هربت فاينثا من محاولة القبض عليها. بشكل ما، تمكّنت المرأة ذات الشعر الفضى من معرفة الحساب المذكور واستخدمت نفوذها المطلق فى معرفة كيف يُفتح، بل وتركت مذكرة للقبض على أى شخص آخر يظهر فى المكان ويحاول أن يفتحه.
كان ذلك منذ ثلاثة أيام.
من الواضح أن العميل قد قصد اختلاس الشىء كإهانة أخيرة للمرأة ذات الشعر الفضى، ضحكة ساخرة من القبر. لكن يبدو أن هذا قد فات أوانه.
ومنذ ذلك الحين والمنظمة فى رعب شديد. تستخدم كل مصادرها لحماية رغبات زبونها الأخيرة، وحماية نفسها كذلك. فى أثناء هذه العملية، عبرت المنظمة سلسلة من الخطوط، عرف العميد أنه من الصعب بعدها أن تعود الأمور كما كانت.
والآن، بعد أن كُشف كل شىء فى فلورنسا، حدّق العميد فى سطح مكتبه يتساءل عن الذى يحمله المستقبل.
على تقويمه، نظرت إليه الدائرة الحمراء التى خطّها العميل، بعناد وتحدٍّ.
حلقة مجنونة من الحبر الأحمر حول يوم خاص جدا.
الغد!
ويبدأ فصل جديد من الإثارة مع دان براون فى فلورنسا بأشجارها الكثيفة وطرقها الملتوية وسياراتها الفيرارى.
فيالى نيكولو مكيافيللى، قالوا عنه إنه أكثر رحابة وبركة بين كل طرقات فلورنسا. بطرق واسعة ملتوية كممرات الثعابين عبر غابات ثرية سخية وأشجار متشابكة فى كل مكان، وبينها طريق مريح لهواة ركوب الدراجات وقادة السيارات الفيرارى الفارهة.
ناورت سيينا بمهارة خلال قيادة للدراجة البخارية عبر كل منحنى قابلها بعدما غادرا المنطقة السكنية بما شهدته من أحداث وانطلقا نحو الهواء الطلق النظيف للجانب الغربى الطبيعى من المدينة. مرا بساعة كنيسة أعلنت الثامنة صباحا.
تمسَّك لانجدون جيدا وعقله يتأرجح بين الصور الغامضة لجحيم دانتى.. والوجه الغامض للمرأة الجميلة ذات الشعر الفضى التى رآها منذ قليل محاصرة بجنديين عملاقين فى المقعد الخلفى للسيارة الفان السوداء.
أيا كانت هذه المرأة، فقد نالوا منها فعلا.
سألته سيينا من فوق مقود الدراجة:
- «المرأة التى كانت فى السيارة. أنت متأكد أنها هى ذات المرأة التى رأيتها فى رؤياك».
- «تمام التأكيد».
- «إذن فلا بد أنك قد قابلتها فى وقت ما خلال اليومين الماضيين. السؤال هو لماذا لا تنفك تراها؟ ولماذا لا تظل تخبرك بأن تبحث وأن تجد؟».
وافقها لانجدون:
- «لا أعرف.. لا أذكر أننى قد قابلتها من قبل، ولكنى فى كل مرة أرى وجهها، يغلبنى الشعور بأننى أريد أن أساعدها».
آسف جدا. آسف جدا. فيرى سورى! فيرى سورى!!
تساءل لانجدون فجأة. إذا كان اعتذاره الغريب موجَّها للمرأة ذات الشعر الفضى بالذات. فهل خذلتها بشكل أو بآخر؟ وأصابه الخاطر بغصة فى الحلق.
بالنسبة للانجدون، شعر كأن سلاحا حيويا قد تم سلبه من ترسانته.
أنا بلا ذاكرة.
منذ الطفولة، وكانت ذاكرة لانجدون هى أداته الذكية التى يعتمد عليها. بالنسبة لرجل اعتاد أن يتذكر كل التفاصيل الدقيقة فى كل ما يحيط به، يغدو الأمر دون نشاط ذاكرته كأنك تحاول الهبوط بطائرة فى الظلام دون رادار.
قالت سيينا:
- «يبدو أن فرصتك الوحيدة للعثور على إجابات هى أن تسترشد بالخريطة. أيا كانت الأسرار التى تحملها.. يبدو أنها السبب فى أنك مطارد».
أومأ لانجدون برأسه، يفكر فى كلمة كاتروفيسر، المكتوبة على خلفية الأجساد المعذبة فى جحيم دانتى.
فجأة بزغت فكرة رائقة فى ذهن لانجدون.
لقد استيقظت فى فلورنسا.
لا توجد مدينة على سطح الأرض لها هذا الارتباط الوثيق بدانتى أكثر من فلورنسا. لقد ولد دانتى أليجيرى فى فلورنسا، نشأ فى فلورنسا، وقع فى الحب، وفقا للأسطورة، مع بياتريس فى فلورنسا، وطرد من بيته بمنتهى القسوة فى فلورنسا، وحُكم عليه بأن يكون مصيره الهيام فى الجانب الريفى من إيطاليا لسنوات، تهفو روحه بالحنين للديار.
يجب أن تترك كل شىء تحبه من صميم قلبك، هكذا كتب دانتى فى المنفى.
هذا هو السهم الذى أطلقه قوس الهجران أولا.
تذكّر لانجدون هذه الكلمات من القسم السابع عشر من الجنة، نظر إلى اليمين، تأمل عبر نهر آرنو نحو أبراج فلورنسا القديمة البعيدة.
تخيّل لانجدون مشهد المدينة القديمة، متاهة من السياح، اختناق مرورى فظيع فى الشوارع الضيقة حول المعالم الشهيرة فى فلورنسا، الكاتدرائيات، المتاحف، الكنائس، وأماكن التبضع. توقع أنه إذا تخلصا من الدراجة، يمكنهما أن يتبخرا فى شلال الناس.
شرح لانجدون فكرته لها:
- «يجب أن نذهب إلى المدينة القديمة. إذا كانت هناك إجابات، فى الغالب سوف تكون هناك. فلورنسا القديمة هى كل عالم دانتى».
أومأت سيينا برأسها موافقة، وقالت من فوق كتفها:
- «كما أنه سوف يكون أكثر أمانا. توجد أماكن عديدة للاختباء. سوف أنطلق من بورتا رومانا، ومن هناك يمكننا أن نعبر النهر».
تذكّر لانجدون مع رعدة فى أوصاله أن رحلة دانتى الشهيرة لدخول الجحيم بدأت بعبور النهر أيضا!
رفعت سيينا سرعة قيادتها وراحت الموجودات تمر بجوارها لبعيد بينما راح عقل لانجدون يراجع ويفحص صورا متتالية من الجحيم، الموتى ومن هم فى طريقهم للموت، فى الأخاديد العشرة لمالبيلج، وطبيب الأوبئة، وكذلك الكلمة الغريبة: «catrovacer».
راح يكرر الكلمات المخطوطة تحت خريطة الجحيم -لا ترى الحقيقة إلا بعيون الموت- وتساءل ما إذا كانت العبارة الساخرة الكئيبة هى قول مأثور لدانتى. أنا لا أتذكرها.
طبيعة عمل دانتى مألوفة بالنسبة للانجدون، وعمله البارز كأستاذ فى تاريخ الفنون تخصص فى علم الأيقونات يجعله مطلوبا أكثر من مرة لتحليل بعض الرموز وفك شفرتها مما ورد فى أعمال دانتى. وبالمصادفة، أو ربما لم يكن الأمر صدفة تماما، أعطى محاضرة عن جحيم دانتى منذ عامين، تحت عنوان: «دانتى الإلهى: رموز الجحيم».
لقد صار دانتى أليجيرى أحد أيقونات العالم الخفى الحقيقية على مر التاريخ، فأشعل شرارة البدء لعديد من جمعيات دانتى حول العالم. الفرع الأمريكى الأقدم كان فى كامبريدج، ماساشوستس، أسسه هنرى وادس وورث لونجفيلو عام 1881. كان شاعر نيو إنجلاند الشهير هو أول أمريكى يترجم الكوميديا الإلهية، وظلت ترجمته ضمن الترجمات الأكثر توقيرا وقراءة حتى اليوم.
كتلميذ مخلص لأعمال دانتى، طُلب من لانجدون أن يلقى كلمة فى حدث بارز كانت ترعاه إحدى أقدم جمعيات دانتى فى العالم، جماعة دانتى أليجيرى بفيينا. وكان المؤتمر سينعقد فى أكاديمية فيينا للعلوم. الراعى الرسمى للحدث وهو عالم ثرى وعضو فى جمعية دانتى، قام بتأمين حضور ألفى زائر فى قاعة المحاضرات الكبرى. عندما وصل لانجدون للمؤتمر، قابله مدير المؤتمر وقادة للدخول. عندما عبرا البهو الرئيسى، لمح لانجدون خمس كلمات مكتوبة بحروف ملونة فى لوحة تشكيلية بطول الحائط الخلفى:
ماذا لو كان الرب مخطئا؟
- «إنه (لوكاس تروبرج)». همس المدير. «خبير الفن الجديد لدينا. ما رأيك؟».
تأمل لانجدون العبارة الضخمة، غير واثق من الإجابة المناسبة:
- «إممم... ضربات فرشاته سخية لكن سيطرته على اتصال الخطوط تبدو مفككة نوعا».
نظر إليه المدير مستغربا، فتمنَّى لانجدون أن يكون أداؤه مع الجمهور أفضل.
عندما خطا فوق المنصة، قوبل لانجدون بتصفيق متصاعد من طائفة النظارة. وبدأ لانجدون كلامه عبر مكبرات الصوت:
- «ماين دامين أوند هيرين. ويلكومن، بيينفينو، ويكلوم».
ضحك الجمهور بصخب إزاء هذه العبارة الشهيرة التى اقتبسها من فيلم «كباريه»!
- «لقد أخبرونى أن الحضور الليلة لن يضم فقط أعضاء جمعية دانتى، ولكن أيضا عديد من العلماء الزائرين والطُلّاب الذين قد يتعرفون على دانتى للمرة الأولى. ولذلك، أقول للحاضرين الذين شغلتهم الدراسة عن قراءة الملاحم الإيطالية فى العصور الوسطى، أعتقد أننى سأبدأ بكلمة قصيرة عن دانتى: حياته، أعماله، ولماذا نعتبره أحد أبرز الشخصيات وأكثرها تأثيرا على مر العصور».
تصفيق أكبر.
باستخدام جهاز تحكُّم عن بُعد فى حجم الكف، استدعى لانجدون عدة صور لدانتى، أولها بورتريه بالحجم الطبيعى للشاعر بريشة أندريا دل كاستانيو، أو أندريا دى دى بارتولو دى بارجيلا، يصوِّره وهو يقف عند مدخل أحد الأبواب، ويقبض فى يده على كتاب فى الفلسفة.
- «دانتى أليجيرى».
بدأ لانجدون محاضرته.
- «هذا الشاعر والفيلسوف الفلورنسى قد عاش فى الفترة من 1265 إلى 1321. فى هذا البورتريه، كما فى جميع صوره تقريبا، يرتدى فوق رأسه «كابوتشيو» أحمر -قبعة ضيقة محكمة المقاس، مع ثنيتين لغطاء الأذن- الذى يمثل مع ردائه الأحمر القرمزى الشكل الأكثر انتشارا لدانتى فى اللوحات والأذهان».
وأتى لانجدون ببورتريه رسمه بوتيشيللى لدانتى من جاليرى الأوفيتسى، تؤكد ملامح دانتى المميزة المعروفة؛ الفك الثقيل قوى الشكيمة والأنف المعقوف الحاد.
- «هنا يظهر وجه دانتى الشهير محاطا بالكاب الأحمر، لكن بوتيشيللى هنا أضاف إكليلا من الغار، على سبيل الرمز لمكانة دانتى الفريدة وعبقريته -فى هذه الحالة من الفنون الشعرية- يقترض الفنان رمزا تقليديا من اليونان القديمة ويُستخدم حتى اليوم فى احتفالات تكريم نوابغ الشعر ونبلاء الأدب».
عرض لانجدون عليهم عدة صور أخرى بسرعة، كلها تظهر دانتى بالقبعة الحمراء، والرداء الأحمر الشبيه بمسوح الرهبان، وإكليل الغار، والأنف البارز.
- «ولتكتمل صورة دانتى فى أذهانكم، ها هنا تمثال من بيازا دى سانتا كروشى.. وبالطبع، الفريسكو الشهير فى كنيسة البارجيللو».
ترك لانجدون اللوحة على شاشة العرض وخطا نحو منتصف خشبة المسرح، مستطردا:
- «لا ريب أنكم تعرفون جميعا، أن أشهر ما يُعرف به دانتى هو تحفته الأدبية غير المسبوقة، الكوميديا الإلهية، الرحلة الخالدة الفريدة، لا نظير لها ولا ندّ، لهبوط المؤلف درجات الجحيم، وعبوره بالمطهر، ثم صعوده فى نهاية الأمر إلى جنات النعيم للقاء وجه الله. بالقياس إلى المعايير الحديثة، لا شىء كوميديا فى الكوميديا الإلهية بالواقع. لقد سميت بالكوميديا لسبب مختلف تماما. فى القرن الرابع عشر، كان الأدب الإيطالى ينقسم إلى صنفين: المأساة «التراجيديا»، وهى الأدب العالى، المكتوب باللغة الإيطالية الرسمية؛ والملهاة «الكوميديا»، وتمثل أدب العامة، وكانت مكتوبة باللغة الشعبية سهلة القراءة والشائعة بين الناس».
قدّم لانجدون شرائح العرض حتى لوحة فريسكو أيقونية لمايكلينو، تظهر دانتى يقف خارج جدران فلورنسا ويقبض على نسخة من الكوميديا الإلهية. فى الخلفية ارتفع جبل المطهر بشرفات تحيط بوابات جهنم. اللوحة مُعلّقة الآن فى كاتدرائية سانتا ماريا دل فيورى فى فلورنسا، والمعروفة باسم «إل ديومو».
تابع لانجدون:
- «كما خمنتم من العنوان؛ كُتبت الكوميديا الإلهية بلغة عامة الشعب. حتى والحال هكذا، فقد شبّكت الدين والتاريخ والسياسة والفلسفة والدراسة الاجتماعية فى نسيج السرد الخيالى، الذى ظل بالرغم من أصالة فكرته وروعة معالجته، مفهوما عند الجموع. صار العمل أحد أعمدة الأدب الإيطالى واستحق أسلوب الكتابة عند دانتى علامة فى اللغة الإيطالية المعاصرة».
توقف لانجدون قليلا ليُحدِث كلامه التأثير المطلوب فى الحضور ثم همس:
- «أصدقائى. من المستحيل تقييم آثار عمل دانتى أليجيرى. وعلى مر التاريخ، ربما باستثناء الكتابات المقدسة، لم يؤثر عمل أدبى، أو فنى أو موسيقى أو شعرى فى أعمال استلهمت روحه وحاولت تقليده وممارسة تنويعات فيه والتعليق عليه أكثر من الكوميديا الإلهية».
بعد أن عدَّد لائحة طويلة متنوعة من مشاهير التلحين والتأليف الموسيقى، والفنانين، والمؤلفين، والرسامين الذين أبدعوا بأعمالهم باستلهام ملحمة دانتى الشعرية، تأمَّل لانجدون الحاضرين:
- «والآن أخبرونى، هل لدينا أى مؤلفين بيننا الليلة؟»
رفع نحو ثلث الحاضرين أيديهم. نظر لانجدون إليهم مصدوما. عجبا! إما أن يكون هذا هو أرقى تجمُّع من الحاضرين على ظهر الأرض، وأما أن موضوع النشر الإلكترونى هذا يعمل حقا!!
- «حسنا، كما تعرفون يا أساتذة التأليف، لا شىء يُقدِّره الكاتب أكثر من عبارة من سطر واحد، قوية الشخصية، مجددة التعبير، فيها ما قل ودل، ومصممة بحيث تجعل الآخرين فى حالة شغف لشراء كتبكم. وكانت هذه العبارات موجودة فى العصور الوسطى، أيضا ونال دانتى بعضها».
غيَّر لانجدون الصورة:
- «ما رأيك إذا كانت هذه العبارة على غلاف كتابك؟».
لم يطأ ظهر الأرض رجلا أعظم منه.
مايكل أنجلو
سرت همهمة من الدهشة الممزوجة بالإعجاب بين الحاضرين. وقال لانجدون:
- «نعم. هو نفسه مايكل أنجلو الذى تعرفونه جميعا من كنيسة سيستين وتمثال النبى داوود. بالإضافة إلى كونه أستاذا فى فن الرسم ونحات عظيم، كان مايكل أنجلو من الشعراء الأمجاد الأجلاء، نشر ما يقارب من ثلاثمئة قصيدة- من بينها واحدة بعنوان (دانتى)، مهداة للرجل الذى كانت رؤاه الملتهبة للجحيم هى التى ألهمت مايكل أنجلو فى عمله المعروف (يوم الحساب). وإن كنتم لا تصدقونى، اقرؤوا الثلث الخاص بالجحيم فى كتاب (دانتى) ثم قوموا بزيارة كنيسة السيستين، فوق المذبح مباشرة، وسوف ترون مشهدا مألوفا».
مرر لانجدون الشرائح المصورة حتى وصل إلى تفاصيل مخيفة لوحش مفتول العضلات يؤرجح بندول عملاق فوق مجموعة متشاحنة من المذعورين.
- «هذا هو المُعذِّب الجهنمى فى جحيم دانتى، شارون، يضرب المارة المحتشدين بالمقلاع».
وكعادة دان براون يزيد الأحداث غموضا من خلال لوحات مايكل أنجلو وجحيم دانتى..
قدّم لانجدون الآن صورة أخرى -تفصيلية ثانية فى يوم الحساب لمايكل أنجلو- رجل يتم صلبه.
- «هذا هو هامان الأجّاج، وهو حسب النص التوراتى، قد شُنق حتى الموت. لكنه فى جحيم دانتى، تم صلبه بدلا من ذلك. كما ترون هنا فى كنيسته سيستين، اختار مايكل أنجلو رؤية دانتى بدلا من الإنجيل».
وابتسم لانجدون ابتسامة ساخرة وخفض صوته حتى الهمس:
- «لا تخبروا البابا بذلك من فضلكم».
ضحك الجميع.
- «خلق جحيم دانتى عالما من الألم والمعاناة فوق كل تصوُّر بشرى سابق، وعرّفت ملحمته المكتوبة بالمعنى الحرفى للكلمة رؤيتنا الحديثة للجحيم». وصمت لانجدون قليلا ثم تابع. «وصدقونى، الكنيسة الكاثوليكية مدينة بشكر كبير لدانتى. لقد ألقى (الجحيم) بالرعب فى قلوب المؤمنين لقرون وقرون، وبلا شك ضاعفت من زوار الكنيسة بدافع الخوف والترهيب».
وبدّل لانجدون الصورة ثم أردف:
- «وهذا يقودنا إلى سبب وجودنا جميعا هنا الليلة».
عرضت الشاشة الآن عنوان محاضرته: دانتى الإلهى.. رموز الجحيم.
- «جحيم دانتى هى مسح شامل غنى بالرموز والأيقونات التى تحتاج منى فى العادة إلى نصف عام دراسى كامل لشرحها. والليلة، أظن أنه لا توجد طريقة أفضل لكشف رموز جحيم دانتى من السير بجواره خطوة بخطوة.. عبر بوابات جهنم».
تقدَّم لانجدون إلى حافة خشبة المسرح وتأمل الحاضرين.
- «والآن، إذا كنا نخطط لرحلة عبر الجحيم، أنصحكم بقوة أن تهتدوا بخريطة. ولا توجد خريطة لجحيم دانتى أكثر دقة واكتمالا من اللوحة التى رسمها ساندرو بوتيشيللى».
مس جهاز التحكم عن بعد فى يده، فتجسدت أمام العيون خريطة الجحيم لبوتيشيللى. سمع تنهدات كثيرة وعدة شهقات، إذ صدمت القوم مشاهد الرعب المتنوعة فى الكهف المخروطى تحت الأرض.
- «على خلاف بعض الفنانين، كان بوتيشيللى شديد الإيمان بتصوره لنص دانتى، حتى إن خبير تاريخ الفنون (جيورجيو فاسارى) قال إن هوس بوتيشيللى بدانتى قاده إلى (اضطرابات خطيرة فى حياته). أبدع بوتيشيللى أكثر من عشرين عملا يتعلق بدانتى، لكن هذه الخريطة هى الأكثر شهرة».
استدار لانجدون الآن، وأشار إلى الركن الأيسر من اللوحة.
- «رحلتنا سوف تبدأ هنا، فوق الأرض، حيث ترون دانتى فى زيه الأحمر مع دليله (فرجيل)، يقفان خارج بوابات الجحيم. ومن هناك سوف نرتحل لأسفل، هبوطا عبر تسع حلقات من جحيم دانتى، وفى النهاية سوف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام..».
مرر لانجدون شريحة جديدة بسرعة البرق، حيث صورة عملاقة للشيطان حسب تصوّر بوتيشيللى فى هذه اللوحة بالذات، لوسيفر الشنيع، برؤوسه الثلاثة، يلتهم ثلاثة أشخاص دفعة واحدة. واحد فى كل فم!...
شهق الحاضرون بصوت مسموع. وأعلن لانجدون:
- «نظرة خاطفة على العرض القادم! هذه الشخصية المخيفة هنا حيث تنتهى الرحلة. هذه هى الحلقة التاسعة من الجحيم، حيث يسكن الشيطان شخصيا. على الرغم من ذلك..».
وصمت لحظة.
- «.. الوصول إلى هناك هو نصف المرح، لذلك دعونا نرجع للخلف قليلا... للوراء عند أبواب جهنم، حيث تبدأ رحلتنا».
قدم لانجدون الشريحة الثانية، طباعة من جوستاف دوريه تصوِّر مدخل نفق مظلم منحوت فى وجه جرف كالح. التدوين المكتوب فوق الباب يقول: يا من تدخل هنا، اترك وراءك كل أمل.
- «إذن..». وابتسم لانجدون «هل ندخل؟».
مزَّق الوجود صوت عجلات سيارة يحتك بالأرض بمنتهى العنف، وتبخَّر الحاضرون من أمام عينى لانجدون. شعر بنفسه يندفع للأمام فاصطدم بظهر سيينا، إذ توقفت الدراجة البخارية فى منتصف فيال ماكيافيلى.
حاول لانجدون أن يتماسك. ما زال يفكر فى أبواب الجحيم الماثلة أمامه. وعندما لملم شتات نفسه، رأى أين هو بالضبط. هتف:
- «ماذا حدث؟».
أشارت سيينا إلى البورتا رومانا على بعد ثلاثمئة ياردة -بورتا رومانا هى البوابة الحجرية العتيقة التى كانت تعتبر بمنزلة مدخل فلورنسا القديمة.
- «روبرت. لدينا مشكلة!».
يبحث العميل برودر عن مفتاح فى الشقة العجيبة، يحل ألغازه الكثيرة بعد هروب لانجدون..
وقف العميل برودر فى الشقة المتواضعة العجيبة، يحاول فهم ما الذى يراه أمامه. من يعيش هنا بحق الجحيم، ديكور الأثاث مشعَّث مبعثر مفكك، كأنها حجرة طالب فى سكن الجامعة المفروش بميزانية ضئيلة.
- «أيها العميل برودر؟» ناداه أحد رجاله من الرواق السفلى. «أعتقد أنك يجب أن ترى هذا».
عندما خطا برودر نحو الرواق، تساءل عما إذا كانت الشرطة المحلية قد تمكنت من القبض على لانجدون. يُفضِّل برودر أن يحل هذه الأزمة «كشأن داخلى»، لكن هروب لانجدون قلّص من دائرة خياراته فاضطره إلى إدراج الشرطة المحلية فى لائحة الدعم ونصب عدة كمائن.
إن دراجة نارية مفعمة بالطاقة فى متاهة شوارع فلورنسا من السهل أن تنزلق من بين سيارات الفان الضخمة ذات النوافذ المصنوعة من ألياف البولى كربونات الثقيلة، الإطارات الصلبة المضادة للثقب، تجعلها منيعة، لكنها غير عملية وخرقاء.
نالت الشرطة الإيطالية سمعة أنها غير متعاونة مع الدخلاء والأغراب، لكن منظمة برودر لديها من التأثير ما يكفى على الشرطة، القنصليات، السفارات، عندما نطلب الدعم، لا يجرؤ أحد على إلقاء أسئلة.
دخل برودر المكتب الصغير، حيث وقف رجله أمام لاب توب مفتوح، وضغط على بعض أزراره بأصابع غطاها بقفاز مطاطى ضيق. وقال الاختصاصى:
- «هذا هو الجهاز الذى استخدمه. لقد استعمله لانجدون ليدخل بريده الإلكترونى وأجرى بعض البحث. ما زالت هناك نسخ من الملفات فى حافظة الجهاز».
تحرك برودر نحو المنضدة. وقال الفنى:
- «لا يبدو أنه كمبيوتر لانجدون إنه مسجّل باسم شخص يبدأ اسمه بالحرفين (s.c)- سرعان ما سوف أكتشف الاسم بالكامل».
بينما انتظر برودر، وقعت عيناه على كومة من الأوراق فوق سطح المنضدة. التقطها وقلَّب فيها يفحصها بنظرة سريعة - تذكره لمسرحية من مسرح لندن جلوب وبعض مقالات الصحف. كلما قرأ برودر، زادت عيناه اتساعا.
أخذ برودر الأوراق وعاد بهدوء إلى الرواق وأجرى اتصالا بالمدير:
- «معك برودر. أعتقد أننى تحققت من هوية الشخص الذى يساعد لانجدون».
سأله المدير:
- «مَن هو؟».
تنفس برودر ببطء وهو يجيب:
- «لن تصدق هذا!»
* * *
على بعد ميلين، قالت فاينثا فوق دراجتها النارية «بى إم دابليو» وهى تنطلق مبتعدة عن المنطقة. اندفعت أمامها سيارات الشرطة فى الاتجاه العكسى، انطلقت صفاراتها مولولة.
لقد فصلونى.
فى الظروف العادية كان الاهتزاز الناعم لمحرك الدراجة البخارية ذى السرعات الأربع يساعدها على تهدئة أعصابها. ولكن ليس اليوم.
لقد عملت فاينثا لصالح المنظمة لاثنى عشر عاما، تسلقت الدرجات بدءا من فريق الدعم الأول، إلى التعاون الاستراتيجى، صعدت السلم كاملا حتى صارت عميلا ميدنيا من الطراز الأول. إن تاريخى المهنى هو كل ما أملك، يتمتع العميل الميدانى بحياة من السرية، والانتقالات البعيدة، والمهمات الطويلة، والعمليات الخطيرة، وكلها تستبعد أية حياة خارجية أخرى حقيقية أو تكوين علاقات من أى نوع.
كنت فى غمار ذات العملية لمدة عام كامل حتى الآن، وما زلت لا أصدق أن العميد قد سحب الزناد وتخلص منى بهذه السهولة، والبساطة المفاجئة.
طوال مدة اثنى عشر شهرا رأت فانيثا خدمات دعم فائقة لنفس العميل فى المنظمة - عبقرى أخضر العينين، غريب الأطوار، كان طلبه الوحيد هو أن يختفى لبعض الوقت ليعمل بعيدا عن أنظار الخصوم والأعداء. كان يسافر نادرا جدا، وبشكل خفى دائما، لكنه يعمل باستمرار، لم تكن طبيعة عمل الرجل معروفة بالنسبة إلى فاينثا، التى كان تعاقدها يشترط ببساطة أن تحافظ على أن يظل العميل خفيا من أشخاص بالغى السيطرة والنفوذ يحاولون العثور عليه.
أدت فاينثا هذه الخدمة على أعلى مستوى من الحرفية والإتقان، وتم كل شيء ببراعة وامتياز نادرين.
براعة وامتياز... حتى الليلة الماضية!
من وقتها والحالة النفسية لفاينثا وكذلك مستقبلها المهنى يهبطان سلم الإخفاق الحلزونى نحو الهاوية.
أنا بالخارج الآن!
بروتوكول الطرد، عندما يتم تفعيله، يتطلب من العميل أن يترك عمليته الحالية فورا ويغادر (حلبة الصراع) فى الحال. إذا تم القبض على العميل، سوف تنكر المنظمة كل ما تعرفه عنه وأية صلة تربطها به.
العملاء أذكى من أن يجربوا حظهم مع المنظمة بعد أن كانوا شهود عيان فى مواقف كثيرة على قدرة المنظمة على التلاعب بمجريات الأحداث ولى عنق الحقائق عندما تتأزم الأمور لجعل الوقائع تسير لصالحها وتوافق هواها ورغباتها.
تعرف فانيثا عميلين فقط تم فصلهما من المنظمة. من الغريب أنها لم تر أيا منهما مرة أخرى، أبدا. كانت تعتقد دائما أنه يتم استدعاء العميل لإجراء مقابلة رسمية أخيرة ثم يتم الطرد، وينبه عليه عدم الاتصال بأى من موظفى المنظمة أبدا لأى سبب.
فى هذه اللحظة لم تكن فاينثا متأكدة تماما من هذا. حاولت أن تخبر نفسها أنها تبالغ فى ردة فعلها. إن أساليب المنظمة أكثر رقيا بكثير من الاغتيال بدم بارد.
على الرغم من ذلك، شعرت برعشة باردة تهز جسدها. بدافع الغريزة فرت من سطح الفندق فى اللحظة التى شاهدت فيها وصول فريق برودر وتساءلت فى نفسها، هل تنقذها هذه الغريزة؟
إذ زادت سرعة فاينثا وهى تتجه جنوبا عبر الطريق المفتوح لفيال دل بوجيو إمبريالى، أدركت الفارق الحاسم الذى صنعته الساعات القليلة الماضية فى حياتها. فى الليلة السابقة كان الذى يقلقها هو حماية وظيفتها. الآن هى قلقة بصدد حماية حياتها نفسها.
معرض العقود.. فصل جديد من الإثارة يكشفه دان براون، حيث يبيع الآباء بناتهم بزواج مُسجّل بعقد.
فى وقت من الأوقات كانت مدينة فلورنسا محاطة بالأسوار، مدخلها الرئيسى هو البوابة الحجرية لبورتا رومانا، المبنية فى 1326. وبينما تم تدمير معظم الجدران المحيطة بالمدينة منذ قرون، فما زالت بورتا رومانا باقية، وحتى يومنا هذا تدخل طوابير السيارات المدينة من خلال أنفاق تحت أقواس حجرية عند مدخل المدينة المحاط بالأعمدة الأثرية.
البوابة نفسها عبارة عن حاجز طوله خمسون قدما من قوالب طوب عتيقة وكتل الحجارة التى ثبتت بها أطر الأبواب الخشبية بالغة القدم والمفتوحة طيلة الوقت أمام الداخلين. تفتح هذه الأبواب على ست طرق أساسية ثم تتجمع فى ميدان واحد فى مركزه دائرة من العشب تحيط بتمثال بستوليتو الكبير لمايكل أنجلو يمثل امرأة تفتح بوابات المدينة تسند يدها حزمة عملاقة على رأسها.
على الرغم من أن زحام هذه الأيام قد صار كابوسيا، فقد كانت بوابة مدينة فلورنسا الكالحة اليوم هى موقع «فييرا دل كونتراتى» -معرض العقود- حيث كان الآباء يبيعون بناتهم بزواج مُسجّل بعقد، وفى العادة كانوا يدفعونهن لأن يرقصن بخلاعة وإغراء بغرض تأمين مهور عالية.
فى هذا الصباح، توقفت سيينا على بعد عدة مئات من الياردات من البوابة وكانت تشير بتحذير الآن. من المقعد الخلفى، نظر لانجدون أمامه وشاركها القلق. أمامها توقَّف طابور طويل من السيارات عندما يشبه نقطة التفتيش. الزحام فى الميدان تفاقم بسبب كمين للشرطة، وتوافدت الآن المزيد من سيارات الشرطة. ينتقل الجنود المسلحون من سيارة إلى سيارة ويلقون الأسئلة.
هل هذا الكمين منصوب من أجلنا؟ هكذا فكر لانجدون وراكب دراجة متحمس غارق فى العرق يقترب منهما عبر فيال ماكيافيللى مبتعدا عن الزحام. يُبدَّل بنشاط بينما تصرخ سيينا فيه:
- «كوزى ساكسيسو؟».
صرخ بدوره مجيبا:
- «إيه تشى لو سا!».
وظهر على وجه تعبير القلق والانزعاج.
- «كارا بينييرى».
وانطلق مسرعا ليخلى المنطقة.
التفتت سيينا نحو لانجدون، وجهها عبوس قانط:
- «الطريق مسدود. شرطة عسكرية».
انطلقت أصوات سارينة الشرطة تمزق الهدوء النسبى خلفهما. توتر جسد سيينا ونظرت إلى طريق فيال ماكيافيللى خلفهما واكتسى وجهها بقناع من الهلع.
لقد وقعنا فى الفخ!
حبسونا فى المنتصف الطريق. هكذا فكر لانجدون وهو يمسح المنطقة بعيينة بحثا عن أى مخرج -تقاطع طرق، منتزه، منطقة لركن السيارات، جراج- لكن كل ما رآه هو بيوت خاصة على اليسار، وجدار صخرى مرتفع على اليمين.
وجلجلت السارينة المخيفة.
- «هناك».
هتف لانجدون مشيرا إلى نقطة أمامها على بُعد ثلاثين ياردة، موقع مهجور لأعمال بناء متوقفة، حيث قدّم خلاط أسمنت متنقل غطاء مؤقت لهما، على الأقل الآن. انطلقت سيينا بالدراجة البخارية على حيّد الطريق متجهة نحو منطقة البناء. وتوقفا خلف خلاط الأسمنت ليدركا أنه يكفى بالكاد لإخفاء الدراجة وحدها.
- «اتبعنى!».
قالتها سيينا وهى تندفع نحو ركن أدوات صغير متنقِّل كائن بين الشجيرات أمام الحائط الصغرى.
لم يكن هذا ركن الأدوات. أدرك لانجدون ذلك عندما تقلص أنفه فى اشمئزاز واضح وهما يقتربان. إنه مرحاض للعمال!
عندما توقف لانجدون وسيينا خارج دورة مياه عمال البناء، سمعا صفارات إنذار سيارات الشرطة تقترب خلفها. حرّكت سيينا مقبض الباب لكنه لم يُفتح. انتبهت إلى أنه موصد بسلسلة ثقيلة وقفل! جذب لانجدون سيينا من ذراعها ودفعها خلف الكشك الصغير، ليجبرها على حشر جسدها فى المساحة الضيقة بين التواليت والجدار الصخرى.
اختبآ هناك كيفما اتفقا على أن يتنفسا الهواء الثقيل الراكد العفن. حشر لانجدون نفسه خلفها فى نفس اللحظة التى ظهرت فيها سيارة سريعة سوداء من نوع «سوبارو فورستر» وعلى جانبها مطبوع كلمة «كارابينييرى»، أمام موقعهما مباشرة.
الشرطة العسكرية الإيطالية، فكَّر لانجدون، هذا لا يصدق. تساءل عما إذا كان هؤلاء الجنود لديهم أوامر كذلك بإطلاق الرصاص عليهما فى الحال!
همست سيينا:
- «يبدو أن أحدهم جاد لدرجة الموت فى العثور علينا. وبشكل ما قد نجح فى ذلك».
تساءل لانجدون بصوت مسموع:
- «جى بى إس؟ خاصية تتبع؟ لعل البروجكتور الصغير به جهاز تتبع خفى».
هزّت سيينا رأسها:
- «صدقنى، إذا كان هذا الشىء يمكن تتبعه، لوجدنا الشرطة فوق رأسنا الآن».
نقّل لانجدون جسمه الطويل، يحاول توفيقه بشكل مريح نوعا فى الركن الضئيل، فوجد نفسه وجها لوجه مع لوحة جرافيتى أنيقة على ظهر دورة المياه. «دعها للإيطاليين». معظم المراحيض العامة الأمريكية مغطاة برسوم كرتونية فاحشة تصّور أثداء ضخمة أو قضبان ذكرية عملاقة. لكن الجرافيتى المرسوم هنا، رغم ذلك، كان أقرب إلى صفحته من كتاب سكتش رسومات لطالب بالفنون الجميلة -عين بشرية، كف مرسوم بدقة، جانب من وجه رجل، وتنين خرافى مذهل التكوين.
- «تخريب الممتلكات العامة لا يبدو هكذا فى كل مكان بإيطاليا».
قالتها سيينا وهى تقرأ ما يدور فى ذهنه.
- «معهد الفن الفلورنسى موجود على الجانب الآخر من الحائط الحجرى».
وكما لو كان المقصود هو تأكيد المعلومة، ظهر فى هذه اللحظة مجموعة من الطلاب على بُعد عدة أمتار، يثرثرون وتحت إبطهم كراسات رسم. يُشعلون لفافات التبغ ويشيرون متعجبين إلى الكمين الذى عطّل الطريق عند بورتا رومانا. خفض لانجدون وسيينا رأيهما ليظلا خارج حدود الرؤية، وحتى لا تلمحهما زُمرة الطلبة، وبينما هما يفعلان ذلك صدمت لانجدون رؤية مكررة مزعجة، بشكل غير متوقع، وبفضول عارم.
الخطاة المدفونون حتى المنتصف، والسيقان تترنح فى الهواء. لعل السبب هو الرائحة الكريهة للفضلات البشرية، أو لعلها ساقا راكب الدراجة العاريتان وهو يُبدِّل بحماس أمامه، ولكن أيا كان المحفز، رأى لانجدون فى لمحة خاطفة، الصورة البشعة لعمليات التعذيب والسيقان العارية تنبت من ظهر الأرض لأجساد مدفونة رأسا على عقب.
عاد لرفيقته فجأة:
- «سيينا. فى نسختنا من خريطة الجحيم، كانت السيقان المرفوعة فى الهواء موجودة فى الحفرة العاشرة، أليس كذلك؟ أسفل مستوى فى ماليبلج؟».
نظرت إليه سيينا باستغراب، وكأنها تسأله عن الوقت المناسب لسؤال كهذا:
- «نعم، فى القاع».
فى جزء من الثانية عاد لانجدون إلى فيينا حيث ألقى محاضرته. كان يقف على خشبة المسرح، ولم يبق سوى بضع دقائق على الكلمة الختامية، بعد أن قدَّم للحاضرين لوحة دورية -الوحش المجنح ذو الذيل المسنون المسموم، والذى يعيش فوق ماليبلج مباشرة.
- «قبل أن نقابل الشيطان». أخبرهم لانجدون، وصوته العميق تردده مكبرات الصوت المحيطة بالجميع «يجب أن نمر بالأخاديد العشرة للجحيم حيث يُعذَّب الخطاة، من اقترفوا الآثام والذنوب».
قدّم لانجدون الشرائح البصرية التى تُصوِّر تفاصيل الجحيم، يصطحب معه الحاضرين فى الجحيم، حفرة بعد حفرة.
- «من القمة إلى القاع لدينا: الغواة تجلدهم العفاريت.. المتكبرون يغطسون فى البراز.. المهرطقون مدفونون رأسا على عقب وفى الهواء التفت الساق بالساق... السحرة رؤوسهم ملوية للخلف.. السياسى الفاسد فى زفت سائح يغلى.. الملحدون يرتدون معاطف من الرصاص الثقيل.. اللصوص تقرضهم الثعابين... شهود الزور تلتهمهم النيران... مشعلو الفتن يشطرهم الجن إلى نصفين.. وأخيرا، الكذابون أصيبوا بأمراض تصيب الوصف». عاد لانجدون للجمهور. «لقد احتفظ دانتى بالحفرة الأخيرة فى الجحيم للكذابين بسبب سلسلة من الأكاذيب المغرضة قيلت عنه وأدت على نفيه من فلورنسا التى أحبها من كل قلبه».
- «روبرت؟».
كان هذا صوت سيينا.
ارتد لانجدون عائدا للزمن الحاضر.
قال بأنفاس متلاحقة:
- «فى نسختنا من خريطة الجحيم، تبدَّلت تفاصيل اللوحة!».
والتقط البروجكتور من جيب الجاكت، وهزها بأفضل ما لديه فى المساحة الضيقة. تأرجَحت الكرة المتحركة بالداخل بصوت مسموع، لكن سارينة الشرطة غطَّت على كل صوت.
- «أيا كان الشخص الذى صمم هذه النسخة الجديدة للوحة فقد أعاد تصميم ترتيب مستويات الجحيم!».
عندما بدأ الجهاز يتوهّج، صوّبه لانجدون نحو المساحة المسطحة أمامهما. ظهرت خريطة الجحيم، تتوهج ببريق قوى فى الضوء الخافت. بوتيشيللى على مرحاض عمومى! شعر لانجدون بالعار! لعل هذا هو أقل الأماكن رقيا بما يليق بمكانة أى شىء سبق عرضه لبوتيشيللى. جرى لانجدون ببصره بسرعة لأسفل هابطا الأخاديد العشرة، وبدأ يهز رأسه وهو يشعر بالإثارة وهتف:
- «نعم! هذا خطأ! الحفرة الأخيرة فى الجحيم كان يفترض أن تكون مملوءة بالمرضى، أشخاص مرضى وليس المقلوبين رأسا على عقب. الحفرة العاشرة مخصصة للكذابين، وليس الكهنة الانتهازيين تجّار الدين».
بدت الحيرة على وجه سيينا وهى تسأله:
- «ولكن لماذا يحاول أى شخص تغير ذلك؟».
همس لانجدون:
- «(كاتروفيسر). «وهو يتأمل الحروف الصغيرة المضافة إلى كل مستوى». لا أعتقد أن هذا هو المقصود».
على الرغم من الإصابة التى محت كل ذكريات لانجدون خلال اليومين الماضيين، شعر بأن ذاكرته تعمل بشكل ممتاز. أغلق عينيه وثبَّت بعين خياله نسختى خريطة الجحيم لتحليل الفروق بينهما. التغيرات فى تفاصيل الجحيم كانت أقل مما تخيل لانجدون. على الرغم من ذلك، شعر بأن حجابا قد زال فجأة.
فجأة صار الأمر صافيا كالكريستال.
ابحث وسوف تجد!
سألته سيينا:
- «ما الأمر؟».
شعر لانجدون بحلقه جافا:
- «إننى أعرف لماذا أنا هنا فى فلورنسا؟».
- «حقا؟!».
- «نعم، بل وأعرف إلى أين يجب أن أذهب؟».
قبضت سيينا على ذراعه بقوة:
- «أين؟».
شعر لانجدون وكأن قدميه قد مستا أرضا صلبة للمرة الأولى منذ استيقظ فى المستشفى. همس:
- «تلك الحروف العشرة. إنها فى الواقع تشير على مكان محدد بدقة فى المدينة القديمة. ذلك المكان الذى سوف تكون فيه الإجابات».
سألته سيينا:
- «أين فى المدينة القديمة؟! ما الذى اكتشفته بالضبط؟»
تناهت إليهما الأصوات الضاحكة على الجانب الآخر من المرحاض. مجموعة أخرى من طلاب الفنون يمرّون، يلقون النكات. يثرثرون بعدة لغات. تلصص لانجدون بحذر خلف الكشك، وراقبهم وهم يذهبون. ثم أنه بحث عن أى علامة لوجود الشرطة
- «يجب أن نتحرك الآن، وسأشرح لك فى الطريق».
هزّت سيينا رأسها متعجبة:
- «فى الطريق؟! لن نتمكن من عبور بورتا رومانا أبدا!».
لوّح بكفه وهو يخبرها:
- «ابقى هنا لمدة ثلاثين ثانية فقط ثم اتبعينى مع الإشارة».
وقبل أن ينتظر ردها، تسلل لانجدون تاركا صديقته الجديدة وحيدة فى غاية من التعجب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.