فى حياة كل منا كنز ثمين لا نعرف قيمته إلا بعد أن نفقده، ومادام هذا الكنز معك وفى حوزتك فأنت لا تعرف أهميته وقيمته إلا بعد فوات الأوان. هذا الكنز هو حصن الأمان فى حياتك وحياة كل إنسان، فلا أمان إلا مع هذا الكنز الذى لا يعوض. هذا الكنز الرائع هو هدية الله لكل إنسان، لا فرق بين غنى أو فقير.. رجل أو امرأة.. هذا الكنز ببساطة اسمه «الأم». نعم، الأم هى ذلك الكنز العظيم الذى تحدثت عنه كل الأديان السماوية وبكل التقديس والتقدير والاحترام، يكفى أننا نردد دائما وعن حق «الجنة تحت أقدام الأمهات».. إن الأم إحدى بديهيات الحياة التى لا تحتاج إلى مناقشة أو جدل عقيم. الأمومة هى ذلك المعنى الرائع الذى تحدث عنه الشعراء والفلاسفة والمفكرون على مر العصور.. إن شكسبير مثلا هو صاحب العبارة الرائعة: ليس فى العالم وسادة أنعم من حضن الأم.. أو كما يقول الأديب العربى الكبير جبران خليل جبران: «الأم هى كل شىء فى هذه الحياة، هى التعزية» فى وقت الحزن والرجاء عند اليأس والقوة فى الضعف. أما الفيلسوف جان جاك روسو فيقول: لو كان العالم فى كفة وأمى فى كفة لاخترت أمى. ويقول مثل لاتينى قديم: من فقد أمه فقد أبويه. ويقول شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق. وبعيدا عن كلام المفكرين والفلاسفة والشعراء تبقى كلمات شاعرنا الكبير حسين السيد صاحب أجمل وأعمق وأصدق كلمات عن الأم التى غنتها الفنانة الراحلة فايزة أحمد وتقول فيها: «ست الحبايب يا حبيبة يا أغلى من روحى ودمى يا حنينة وكلك طيبة يا رب يخليكى يا أمي وتقول أيضا: نور عينى ومهجتي وحياتى ودنيتي لو ترضى تقبليهم دول هما هديتي ورغم كل ذلك للأسف الشديد فإن أكثر ما يزعجنى ويؤلمنى ويثير الأسف فى داخلى عندما أطالع فى صفحات الحوادث عن جرائم بشعة وغريبة تدور كلها حول جحود الأبناء نحو الأمهات، جحود يصل إلى حد أن يقتل الابن أو الابنة أمهم.. وللأسف الشديد كثيرا ما نجد بعض البرامج تتوسع فى نشر هذه الفظائع، بل تطلب المذيعة أو المذيع من هذا الابن الجاحد أو البنت الجاحدة أن تروى بالتفصيل كيف قتلت أمها. فما أقسى الجحود وما أبشعه ولا أجد تبريرا واحدا حول هذا الجحود نحو الأمهات. وهذه بعض حالات الجحود والتى أتمنى ألا تتكرر بشكل أو بآخر.. الحكاية الأولى لأم تجاوزت السبعين من عمرها أصبحت أرملة فى سن الأربعين وتحملت تربية ومشاق ثلاثة من الأبناء كبروا وتعلموا وعملوا أيضا ولم تبخل عليهم بأى شىء، بل كانت تعمل فى خدمة البيوت حتى تستطيع أن تنفق عليهم بجوار معاشها الضئيل، ونجحت فى رسالتها كأم حتى أصبح لكل ابن بيت وأسرة وحياته الخاصة، وكان من الطبيعى أن ينشغل هؤلاء الأبناء بحياتهم وأسرهم ولاحظت الأم ذلك فكانت تلتمس لهم الأعذار، ولكن بعد أن كانت زيارتهم لها مرات قليلة فى الشهر تباعدت الزيارات ولم يعودوا يسألون عنها حتى المكالمات التليفونية لم تعد تدق للسؤال عنها، ومع ذلك فإن هذه السيدة كل ما تريده ليس إلا كلمة أو سؤالا من أبنائها عليها يكفيها أن يتصل بها ابنها ليطمئن على صحتها أو يسألها إذا كانت تحتاج شيئا فلا تضطر أن تسأل الجيران إن احتاجت شيئا. أما حكاية الأم الأخرى فهى أنها لم تتوقع أبدا ما حدث لها على يد أغلى وأعز شخص فى حياتها، وهو ابنها الوحيد، الذى طالما دللته ودافعت عن تصرفاته الطائشة أمام أبيه بحجة أنه مازال صغيرا وسوف يكون عاقلا عندما يكبر وحتى عندما اكتشفت أنه يتعاطى المخدرات لم تخبر والده حتى لا يضربه أو يؤذيه ومات الأب بشكل مفاجئ، وهنا ظهر الابن على حقيقته فقد بدأت تكتشف اختفاء بعض الأشياء الغالية والثمينة من المنزل، وقطع من مشغولاتها الذهبية، وعندما واجهت ابنها أنكر ذلك تماما وقال لها: لقد كبرت ولم تعودى تتذكرين ماذا تملكين أو أين تضعين هذه الأشياء! وذات يوم طالبها بنقود لكى يشترى المخدرات، لكنها رفضت وكانت المفاجأة أنه تطاول عليها وجرى إلى المطبخ وأحضر سكينا وأخذ يهددها وينهال عليها بالشتائم إذا لم تعطه نقودا ورفضت الأم قائلة له: فيه حد يعمل كده فى أمه؟! فلم يرد عليها وازداد تهديده لها واقترب منها فلم يكن فى حالة طبيعية وفوجئت به يمسكها ويطرحها أرضا وينهال عليها بالضرب، فأخذت تصرخ بصوت عالٍ حتى جاء الجيران ليخلصوها منه بعد أن نجح فى تمزيق ملابسها وقاموا باستدعاء الشرطة له، وبعد خروجه مع رجال الشرطة ظلت الأم تبكى وتندب حظها فهى التى أفسدته بتدليلها له، وبينما كل أم تحتفل مع أولادها بعيد الأم تجد نفسها فى هذا العمر وحيدة محرومة من ابنها..وهذه قصة تقترب تفصيلاتها من الدراما ولو رأيناها على الشاشة لما صدقناها. إنها قصة الأم التى لم يكن لديها إلا ولد وحيد، هو كل ما خرجت به من هذه الدنيا بعد رحيل زوجها الذى أذاقها كل أنواع المر والقسوة والحرمان فوهبت حياتها من أجل ابنها حتى كبر وتعلم وتخرج فى الجامعة ثم عمل فى وظيفة حرة وقرر أن يتزوج فأصرت أمه على أن يعيش معها فالشقة واسعة وتكفى أن يعيش معها ابنها وزوجته وأبناؤهما.. وهو ما حدث بالفعل، وبمرور الوقت فوجئت الأم بتغير معاملة الابن لها فأصبح لا يهتم بها ولا يراعى طلباتها إلى أن وقعت الكارثة ذات يوم وفوجئت الأم بابنها يتشاجر معها بحجة أنها تسىء معاملة زوجته ويطلب منها أن تترك له الشقة منعا للمشاكل ويسد باب الخلافات مع زوجته.. حاولت الأم أن تدافع عن نفسها بأنها تعامل زوجته بكل حب وبكل ما يرضى الله، لكن للأسف كان الابن واقعا تحت سيطرة زوجته الشريرة ولا يرفض لها طلبا، فهى عينه التى يرى بها وأذنه التى يسمع بها وأصر الابن على طلبه، وعندما سألته الأم وأين أسكن أنا؟! جاءت الإجابة الصادمة: اذهبى إلى دار المسنين! ولم تجد الأم ما تفعله سوى الانصياع لهذه الرغبة التى لم تكن تتوقعها..وبالفعل ذهبت إلى دار المسنين، وعندما يسألها من معها فى الدار لماذا لا يأتى أحد لزيارتك؟ تمتلئ عيناها بالدموع قائلة: ابنى الوحيد مسافر من سنين بره مصر، وأكيد فى يوم من الأيام حييجى يزورنى ويطمن عليّا! يا كل ابن ويا كل ابنة.. تذكروا جيدا المثل الذى يقول: اللى بلا أم حاله يغم! اذهب أو اذهبى إلى أمكم وقولوا لها: شكرا يا أمى.. فالجنة تحت أقدام الأمهات. كل سنة وكل أم طيبة، وأطال الله فى عمرها ورحم الله كل أم تركتنا وحيدين فى هذه الحياة!•