حالة عشق غريبة بين المصرى وتاريخ بلده وكل حاجة من ريحتها، يعنى مثلاً لو صادف أن أى مصرى تعرض لأذى فى بلاد الغربة ستجد المصريين ينتفضون مرددين «إحنا حضارة 7000 سنة، قولوا لنا أنتوا مين». بالإضافة إلى ذلك فالمصرى يبعث الحياة فى كل المساجد التاريخية المفتوحة للعبادة ومساجد آل البيت ويملؤها ذكراً وتعبداً وابتهالات فى شهر رمضان والمناسبات الدينية، أما الكنائس والأديرة القديمة والمعابد اليهودية فلها عند المصرى قدسية دينية وتاريخية أيضاً، فهى تذكره بالتحام كل صفوف الشعب ضد الاعتداءات التى واجهتها مصر على مر التاريخ والأحياء التاريخية لا تنطفئ أنوارها أبداً وهى المكان الأمثل لتلاقى الصحبة والأحباب، فبها هواء مختلف يملأ صدورنا راحة وبهجة. وبنفس الروح يسعى المصريون حالياً إلى إعلاء قيمة الآثار السياحية بعد أن هجرها «الخوجات» نتيجة للأزمات التى مررنا بها مؤخراً، فقد بدأ منذ فترة قريبة انتشار بعض صفحات الفيس بوك المهتمة بالآثار المصرية التى حققت شعبية عالية، ومنها صفحة «إدارة الوعى الأثرى بمنطقة الجمالية» وهى صفحة متخصصة فى تنظيم رحلات أسبوعية لآثار منطقة الجمالية، وأهم ما يميز تلك الرحلات أنها مجانية باستثناء قيمة تذكرة دخول الأثر وهى بضعة جنيهات قليلة. • الثمن كلمة شكر فإذا تحمست للفكرة وقررت الدخول على الصفحة والمشاركة فى أول رحلة قادمة، ستجد محمد خليل - مرشد سياحى ومدير إدارة الوعى الأثرى بالجمالية - يصطحبك فى جولة سياحية ببرنامج ممتلئ بالزيارات، تبدأ فى الساعة العاشرة صباحاً وتنتهى الثالثة عصرا، متطوعاً بدون أجر فالثمن الوحيد الذى يتقضاه كلمات الشكر والامتنان التى يتلقاها من الناس بعد انتهاء الجولة. وفى حوارى مع محمد خليل قال لى «أنا كنت بعمل نفس الفكرة دى من خلال صفحة أخرى على الفيس بوك ثم تقدمت بطلب للدكتور محمد عبداللطيف رئيس قطاع الآثار الإسلامية السابق كى يتبنى هذه الفكرة ونطبقها تحت مظلة وزارة الآثار بشكل رسمى وبالفعل استجاب لطلبى وتحمس له كثيراً، وبدأت إدارة الوعى الأثرى بالجمالية العمل فى بداية أبريل من العام الماضي، يعنى حوالى 10 شهور ونحن ننظم الجولات الأسبوعية، وفتحنا العديد من المزارات التى كانت مغلقة أمام الجمهور مثل قصر البارون والمعبد اليهودى بحارة اليهود. وقمنا بحوالى 38 زيارة لعدد من المناطق الأثرية المختلفة كلها بتنظيم وإرشاد مجانى وللعلم فإن أجر المرشد السياحى يبدأ من 500 جنيه للجولة الواحدة، لكن هدف الإدارة هو نشر الوعى الأثرى بين الناس وتنشيط السياحة الداخلية والأهم من ذلك هو زيادة موارد الوزارة التى تراجعت مع انخفاض السياحة الخارجية. وعن نشاط الإدارة على الفيس بوك يقول «إحنا متابعين صفحة إدارة الوعى الأثرى 24 ساعة لأنها الوسيلة الأسهل للوصول إلى كل فئات وشرائح المجتمع المصرى ولدينا حتى الآن ما يزيد على 17 ألف متابع والأهم أن عدد الزائرين المنضمين لجولاتنا قد يصل إلى 300 شخص وهو رقم كبير جداً يملؤنا تفاؤلاً ويحمسنا لبذل مجهود أكبر. وعن العوائق التى قد يواجهها أثناء عمله قال «نفسى يسيبونا نشتغل وأقصد هنا بعض مديرى المناطق الأثرية المغلقة أمام الجمهور بحجة أنها غير مرممة أو غير مجهزة لاستقبال الزائرين». وعندما سألته: لماذا لا يبادر مسئولو الوزارة والمجلس الأعلى للآثار بفتحها أمام الجمهور؟ قال «إن مديرى الإدارات قد يستغلون أى ثغرات فى القوانين واللوائح لمنع فتح المزار أمام الجمهور فى حين أن هناك نماذج أخرى مشرفة لمسئولين يبادرون بالترحيب بالجمهور وفتح المزار بأكمله كى يظهروا مجهودهم فى الحفاظ على الأثر والاهتمام به. • عاشق التراث حديثى انتهى مع محمد خليل الذى حرصت على أن أجريه قبل الجولة السياحية حتى أستمتع بها كاملة وأمارس هوايتى فى التصوير الفوتغرافي، فبالتأكيد لن أجد أبدع من الآثار المصرية كى تزين حلتها الذهبية الصور التى ألتقطها. وبالصدفة وجدت الدكتور محمد الباز طبيب الأطفال المشهور يقف بيننا فى انتظار الجولة حتى تبدأ مصطحباً معه كاميراته الخاصة، فاقتربت منه ودار بيننا حوار حول عشقنا المشترك للآثار والتصوير الفوتوغرافى حيث قال لى: أنا بعشق شوارع مصر وكل يوم خميس لازم أنزل أتمشى فى شارع من الشوارع الشعبية الحلوة ومعايا الكاميرا بتاعتي، أصلى درست تصوير وبحبه جدا.. دا أنا مصوراتى محترف مش أى كلام يعني. وعندما سألته كيف انضم لمجموعة الوعى الأثرى قال لى عن طريق فيس بوك معاهم فى كل زيارتهم أصلى عاشق للتراث المصري. تركت دكتور محمد الباز يمارس هوايته فى التصوير واهتممت أنا بالتقاط بعض الصور لنقوش أسقف وحوائط مجموعة السلطان قلاوون وهى مسجد ومدرسة وضريح، ومعبد موسى بن ميمون وهو معبد يهودى بحارة اليهود، وكنيسة العذراء «حلت الحديد» بحارة زويل، كل هذه المزارات تقع فى حوارى وأزقة متفرعة من شارع المعز، وبالتالى فهى تعد مجمع أديان آخر، وهذا ما أكد عليه محمد خليل، حيث قال لى إن مصر تمثل روح التلاحم بين الأديان منذ قديم الأزل لذلك يوجد العديد من مجامع الأديان التى تستحق أن نسلط الضوء عليها. فور زيارتنا للكنيسة لفت انتباهى اسمها كثيراً - وهو يبدو مثيراً للفضول - فوراءه قصة إنسانية بديعة فعندما أتت العائلة المقدسة إلى مصر كان هناك بعض السجناء المظلومين فى تلك المنطقة فذهب ذووهم إلى العذراء وطلبوا منها أن تدعو لهم بفك الأسر، وبالفعل دعت لهم العذراء بأن تفك عنهم أساور السجن الحديدية فساح وذاب كل حديد المدينة ومن هنا جاء مسمى «العذراء حلت الحديد»، والكنيسة قديمة للغاية وتستغل فى العبادة وملحق بها عدد آخر من الكنائس والقائمون عليها يرحبون بفتحتها أمام الجمهور كمزار سياحى. . معجزة هذه الكنيسة ليست فقط فى دعاء العذراء المستجاب، بل أيضا فى بنيان الكنيسة نفسه فالكنيسة محاطة من الداخل والخارج بممرات مياه متدفقة لا تجف أبداً وعلى الرغم من أنها مشيدة بالحجر الجيرى فإنها ظلت محتفظة برونقها وجمالها لما يقرب من 1600 عاماً دون أن تتأثر بالمياه المحاطة بها. • حملة تنظيف الآثار لم يقف نشاط الشباب العاشق للآثار عند هذا الحد فقط، فأثناء بحثى على الفيس بوك وجدت صفحة «فريق حماية الآثار» وهى حملة مكونة من مجموعة من شباب الجامعات المصرية من مختلف الكليات لكن يمكن القول إن غالبيتهم من طلاب كليات الآثار..تقوم هذه المجموعة بعمل فى منتهى النبل والإيجابية، حيث تتولى تنظيف المزارات الأثرية المهملة بجهودهم الذاتية وعلى نفقاتهم الخاصة ولا يريدون أى شيء من المسئولين سوى السماح لهم بإتمام مهمتهم التى يقومون بها بدافع وطنى أصيل وعدم منعهم من ذلك..حيث يقول معاذ لافى مؤسس هذه الحملة «دورنا يتلخص فى تنظيف الأثر نفسه من القمامة والمخّلفات وذلك بالتعاون مع شرطة السياحة وإدارات تفتيش المناطق الأثرية. ويضيف: إحنا عددنا حوالى 200 فرد بدأنا العمل بالحملة منذ سنة، نظفنا خلالها حصن بابليون وهو سور كان يحيط بالمدينة قديماً ووقف خلفه عمرو بن العاص أثناء فتح مصر وهو بنى فى العصر الرومانى وبنيت الكنيسة المعلقة فوقه وكان الحصن فى حالة يرثى لها، حيث كان ممتلئا بالحشائش والمخّلفات سريعة الاشتعال ويشكل وجودها كارثة حقيقية لأن المتحف القبطى يقع فى مكان قريب من الحصن بالإضافة إلى جامع بن العاص والمعبد اليهودى وبالتالى فإن هذه المخّلفات كانت تهدد واحدة من أغنى المناطق الأثريه فى القاهرة. • الحلم وكذلك مسجد أحمد بن طولون بالسيدة زينب كان من أصعب المناطق التى قمنا بتنظيفها لأنه يقع داخل منطقة شعبية فقيرة وسكان المنطقة كانوا يلقون القمامة إلى جواره، ومسجد السلطان حسن بالقلعة قمنا بتنظيفه أيضاً وهو الآن مفتوح أمام الجمهور ومسجد قايتباى الرماح لكنه غير مفتوح لأنه آيل للسقوط منذ زلزال 1992، وأيضاً مسجد وسبيل وقصر «آلين أق الحسامي»، والفترة القادمة سوف نهتم بتنظيف آثار مدينة الإسكندرية..وعن ردود الأفعال على حملتهم يقول: الناس تقابلنا بحفاوة شديدة ويطلبون منا الاهتمام بتنظيف آثار معينة، أما المسئولون فبعضهم «كان بيخاف مننا» والبعض الآخر يثمن مجهودنا ويقدره، والمشكلة الوحيدة التى كانت تواجهنا هى استخراج تصاريح دخول الأثر من المجلس الأعلى للآثار «عشان كانوا مش واثقين فينا» لكننا تغلبنا على هذه المشكلة والحمد لله، لكن ما أخشاه حقيقة هو إغلاق المزارات السياحية أمام الجمهور بعد تنظيفها، فأنا أحلم بأن يتحول كل أثر بمصر إلى مركز ثقافى ضخم يتهافت عليه الشباب والمثقفون وتقام به الندوات وورش الفنون، فنحن نمتلك ثروة ضخمة لابد أن نستغلها بالإضافة إلى أن الجمهور متعطش للفن الراقى والثقافة. أنهى معاذ كلامه معى بأمل وإحساس بالخوف يمكن أن نعتبرهما الدافع الأساسى له كى يتحرك هو وشباب أخريين لينقذ ما يمكن إنقاذه، وفى الحقيقة فإن هذا الخوف والحرص يسيطر على كل مصرى يتابع على صفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعى الإهمال فى التعامل مع الآثار المصرية من قبل المسئولين عنها وغلق الكثير منها أمام الجمهور وعدم تعيين موظفين متخصصين لحمايتها والتعامل معها على أساس أنها «كومة حجارة»، لذلك لا تستبعد عزيز القارئ أن تقرر الألتحاق بأحد فرق حماية الآثار المصرية عشان إحنا أولى بآثارنا. •