مع بداية التسعينيات كنت مسئولة عن ملف التعليم فى مجلتى «صباح الخير» لدى وزارة التربية والتعليم، وظللت لمدة عشر سنوات أغطى أحداث وأخبار الوزارة وكانت فترة مملوءة بالمتغيرات والأحداث الكثيرة. رصدت من خلالها عدة تحقيقات على صفحات المجلة آنذاك وكانت هذه الفترة بالتحديد تشهد بداية انهيار منظومة التعليم والأخلاق داخل فصول مدارسنا الحكومية والخاصة بالذات، التى بدأت تنتشر بشكل كبير وبعشوائية وأيضا كانت بداية دخول كل أنواع التعليم ونظمه الأجنبية.. الإنجليزية والفرنسية.. إلخ.. وأيضا بدأ تغلغل الفكر الأصولى المتطرف من خلال مدارس خاصة «إسلامية» كان أغلب معلميها أصحاب فكر سياسى خاص استطاعوا أن يؤثروا به على تلاميذ المدارس بدءا من الزى حتى التكفير والتمييز بين أبناء الوطن الواحد «مسلم ومسيحى.. محجبة وسافرة.. ملتحى وبغير لحية». وقد أغمضت الحكومة عيونها عن كل هذا.. بل باركت فى كثير من الأحيان فتح المدارس الخاصة بشكل عشوائى وبدون رقابة حقيقية بحجة أن الحكومة لا تملك ميزانيات لإنشاء مدارس جديدة تستوعب الأعداد المتزايدة من التلاميذ من جهة.. ومن جهة أخرى من خلال الفساد الذى كان قد بدأ يتوحش.. فمنحت الدولة التراخيص لكل من هب ودب من دون معايير تربوية أو دراسات علمية.. أو وضع اعتبارت الأمن القومى فى الحسبان.. وكان ولى الأمر الغلبان مضطرا لقبول كل هذه الشروط المجحفة.. فيقبل أن يجلس ابنه على مقاعد متهالكة داخل فصول كعلب السردين التى تفتقر لأبسط الشروط الصحية المتعارف عليها.. فالتلاميذ محشورون بلا آدمية.. ومدرس يفتقر لأبسط الأساليب التربوية، فلا يستطيع أن يسيطر على فصل به 80 أو70 تلميذا.. فكان أحيانا بعض من المدرسين مع أول يوم دراسى يكتب عنوانه على السبورة ويقول لتلاميذه: «تعلولى البيت أشرحلكم والحصة بمبلغ كذا».. أو كان يدخل الناظر أو مدير المدرسة ويعلن عن فتح فصول للتقوية بالمدرسة بتوجيه رسمى من الوزارة.. وهى بالطبع درس خصوصى مقنع.. ودخل للمدرس والمدرسة وبمباركة من وزارة التربية والتعليم بحجة ضعف المرتبات وكل مدرسة تخلق مواردها بنفسها وكل ناظر وله طريقة!!.. أى أن ولى الأمر سيدفع ثمن دروس خصوصية رغم أنفه لا مفر.. والاسم أنه تعليم مجانى!!.. وكان هذا سببا كافيا فى تسرب أعداد كبيرة من الفقراء من التعليم لعدم قدرتهم على مصروفات المدرسة أو المدرسين.. وكانت هذه المرحلة بداية فساد العملية التعليمية. أما ولى الأمر الذى لا يقبل بهذه الشروط والأوضاع فعليه أن يأخذ أبناءه ويذهب بهم للمدارس الخاصة .. وهو وحظه.. فإما أن يقع فى قبضة أصحاب مدارس الإسلام السياسى ويتحمل تبعاته.. أو يقع فريسة سهلة فى أنياب مدارس «السبوبة» ومصاريفها الباهظة الآخذة فى الزيادة كل عام.. وتغير الزى المدرسى بالاتفاق مع مصانع ومحلات الملابس وهناك نسبة لصاحب المدرسة بالطبع.. بالإضافة إلى الزيادة السنوية لمصاريف أتوبيس المدرسة.. وإذا أدخل ولى الأمر أبناءه لمدرسة محترمة فعليه أن يكون من الأثرياء وطبقة رجال الأعمال الجدد الذين يمتلكون المليارات ومن حولهم من الصف الثانى والثالث المستفيدين من الفساد المالى والإدارى للدولة التى أصابها فيروس الفساد وتمكن من جسدها المترهل.. ورغم كل هذا يضطر ولى الأمر لإعطاء ابنه دروسا خصوصية.. لأن أغلب المدرسين فى المدارس الخاصة غير مؤهلين وغير تربويين.. ولو ولى الأمر اشتكى فلن يجد من يقف معه أو يسمع شكواه.. أو ينصفه لا فى المدرسة ولا فى الوزارة.. كأن هناك اتفاقا ضمنيا بين الوزارة وأصحاب المدارس الخاصة على أن يفعلوا فى ولى الأمر والتلاميذ ما يحلو لهم.. وكان شغلهم الشاغل الحصول على المصاريف المدرسية.. وبمدرسين غير مؤهلين ولا تربويين.. وتحولت المدرسة لعنوان فقط على ورقة الإجابة فى آخر العام.. ومن خلال أولياء الأمور «الأثرياء بلا مناسبة ولا سبب».. تطاول التلاميذ على مدرسيهم واشتد عنف المدرسين على تلاميذهم.. وفقدنا العلاقة الطيبة والاحترام المتبادل بينهما.. وأتذكر أننى كتبت أكثر من تحقيق آنذاك عن حوادث عنف بين تلاميذ المدارس وصلت لحد القتل والمشاجرات بالمطاوى والإدمان والاعتداء الجنسى.. وأيضا الاعتداء على المدرسين وإهانتهم أمام التلاميذ بناء على طلب أولياء أمور!!.. وأذكر أن أحد «المعلمين / وكان صاحب محل جزارة» وكان لديه أربعة أبناء فى مدرسة خاصة شهيرة وتعرضت ابنته للعقاب من مدرسة الفصل فعادت باكية لوالدها.. فحضر فى اليوم التالى واشترط على صاحب المدرسة لكى لا يسحب أبناءه من المدرسة.. أن تأتى المدرسة التى ضربت ابنته فى طابور الصباح وتقوم ابنته بصفع المدرسة بالقلم أمام التلاميذ..!! والعجيب فى الأمر أن صاحب المدرسة وافق على ذلك وكادت العملية الانتقامية أن تنفذ فى المدرسة.. لولا أنها أصيبت بانهيار وأغمى عليها وسقطت فاقدة الوعى.. وتظاهر باقى المدرسين والمدرسات احتجاجا على هذه المهانة.. فتراجع ولى الأمر مكتفيا بإذلال المدرسة أمام كل التلاميذ..!! وخرجت المدرسة يومها مهزومة ولم تعد للتدريس بعد هذه الواقعة.. ويوما ما سألت وزير التربية والتعليم آنذاك عن تهاون الوزارة مع هذه المدارس المخالفة لكل شروط العملية التعليمية رغم هذه المصروفات المبالغ فيها ذات الأرقام الفلكية.. فقال لى بالحرف الواحد: «الغاوى ينقط بطقيته.. ما عندهم مدارس الحكومة.. اللى مش عاجباه يروح يدفع وإحنا مش مسئولين عن اختياره»!!! وفى هذه الفترة أيضا ألغيت حصص الهوايات بحجة طول المناهج وعدم وجود فصول للأنشطة لأنها تحولت لفصول دراسية وأما الأفنية المخصصة لممارسة الأنشطة الرياضية فتحولت لمبان وفصول.. حتى الرحلات المدرسية التى كان هدفها تعريف التلميذ بأماكن تاريخية وأثرية فى بلده.. لتنمية الشعور الوطنى والانتماء لديه.. وليربط ماضى أجداده ومجدهم بحاضره وبمستقبله كما حدث لنا وللأجيال السابقة.. تحولت الرحلة المدرسية فيها لوسيلة للتربح والانتفاع ضمن «سبوبة التعليم الخاص» بين أصحاب المدارس وأصحاب الأماكن الترفيهية مثل الملاهى والقرى السياحية.. وكانت النتيجة أن كثيرا جدا من أبنائنا وشبابنا لم يروا الأهرامات أو أى متحف لتاريخ بلاده أو مسجدا أو كنيسة أثرية.. فى نفس الوقت نشاهد تلاميذ أجانب جاءوا من كل بلاد العالم ليشاهدوا آثار الحضارة المصرية عبر العصور.. ونتج عن ذلك جيل أغلبه يريد الهجرة من بلد لا يشعر بالانتماء إليه أو متطر ف دينيا أو أخلاقيا كاره لبلاده غير مدركٍ لمكانتها ولا قيمتها بين الأمم!!