بداخل كل منا طفل لم يكبر بعد، واشتياق للبراءة أحيانا التى سلبتها منا الحياة خلسة دون استئذان، وقطرة الندى التى لم تشق العباب، بينما كنت أدندن أغانى الأطفال بعد يوم عمل شاق ومضن للغاية، وأردد «الله على الدنيا بتاعتى والدنيا التالتة برضو»، و«تعظيم سلام للكوكو هانم المليونيرة»، و«أسد الأسود زعلان قوى»، وغيرها من الأغانى القيمة البديعة بصوت الموسيقار عمار الشريعى التى خلقت أجيالا وتربى على كلماتها وطن بكل ما تحمل الكلمة من معنى أخذتنى رجلى إلى 10 شارع نجيب الريحانى، الدور السابع، لأسأل صاحب تلك الكلمات والمعانى البديعة كيف استطاع فعل هذا هو والموسيقار العالمى عمار الشريعى.. ورحلتهم سوياً فى بحر الحياة، وصلت المنزل وبعد الترحيب الشديد من الشاعر والمخرج والمبدع شوقى حجاب كان لنا هذا الحوار. • بداية أود أن أعرف كيف تعرفتما على بعض؟ وسر الارتباط القوى بينكما والعلاقة الثرية بالإبداع؟ - فى منزل بسيط بالتوفيقية دعتنى صديقتى «جيزيل نصر» الزوجة السابقة للمنتج صفوت غطاس، للتعرف إلى صديقها الموسيقى الضرير، رحبت بالدعوة وذهبت معها لأقابله كان هو «عمار الشريعى»، فوجئت باستقباله الحافل وكرمه الحاتمى، حيث رحب بى ترحيبا فوق العادة، ثم أخذنى من يدى واندهشت بأنه هو الذى يقودنى وليس العكس، مد يده ليفتح النور، رحت أتطلع الغرفة وأنا عقلى ممتلئ بكم هائل من الأسئلة والاندهاشات والحيرة.. اهتم بأن يضىء لى المكان بالإضافة إلى أن الغرفة مليئة باللوحات البديعة جداً والإضاءة المتناسقة مع الألون منذ هذه اللحظة قررت أن أكون صديقا لهذا المبدع، ووجدته بحراً من الثقافة والمعرفة والإحساس. • «مذكرات طفل معمر» تجسيد واضح لروح التراث وتجربة متميزة وموفقة بينكما لم تعرض حتى الآن.. حدثنا عن تلك التجربة وكيف استطعتم فى إخراجها بمثل هذا الجمال؟ - وجدنا أن الفولكلور المصرى عمل عظيم للغاية ولا يوجد له مؤلف أو ملحن وفكرنا فى عمل شىء شبيه بهذا وله نفس الروح، ولكن بمفردات عصرنا وتفاصيله وبالفعل نجحنا فى هذا إلى حد كبير، ولكن للأسف حدث خلاف مع الرقابة ومنعت عرضه ولا يزال معتقلا داخل مكتبة التليفزيون، وكل من سمعوا التسجيلات الخاصة بالمسلسل لم يصدقوا أنه ليس فولكلورا حقيقيا. • بالرغم من ولع «الشريعى» بالتكنولوجيا والتقدم فى جميع المجالات لم يستخدمه فى صالح بصره.. فما السبب الحقيقى وراء هذا؟ - قبل وفاة «عمار» بنحو 20 أو 25 سنة تقريبا سمعنا عن طبيب بإسبانيا كان يعالج الحالات الشبيهة بحالة «عمار» حاولنا إقناعه بجميع السبل ولكنه لم يستجب أبدا.. لم نيأس ولم نفقد الأمل فى إقناعه وكنا نجتمع يومياً لمحاولة إقناعه، ولكنه رفض تماماً، كان يعيش حالة من الرضا غير مسبوقة على بشر وغير مستعد للصدمة فى المحيطين به، حيث قال لنا وقتها: «أنا مش مستعد أنى أبقى عايش طول حياتى وراسم صورة معينة لمراتى وألاقيها عكسها تماماً أو غير تلك التى أعيش عليها جميع حياتى السابقة وكذلك أصدقائى وكل حاجة حواليا».. بالإضافة إلى أن فقده للبصر لا يمثل أى نوع من أنواع الحساسية أو الإعاقة بالنسبة له على الإطلاق. • كنت تعشق سماع أغانيك بصوت عمار الشريعى.. فما السبب وراء إصرارك على غنائه؟ - «عمار» كان يعى تماما الأداء التمثيلى والغنائى ويتمتع بحس غنائى عالٍ جداً فكان له أداء خاص به يجبرك على سماعه، ولم يكن ملحنا عاديا، حيث كان يتلبس الحالة التى كتبت فيها الكلمات عن طريق الشاعر طبعا ويتخيل المتلقى الذى سيستمع إلى هذا العمل ويبدأ بعدها فى التلحين وهذا هو السبب وراء نجاح أعماله، فعندما كنا نعمل أغنية للأطفال كان يتلبسه على الفور طفل لا يتعدى البضع سنوات وربما البضعة شهور يجرى ويمرح ويلهو داخل لحنه. • «لسه امبارح يا صاحبي كنا ف نفس المكان بنقشر برتقان وبنملا الاسبتة بالضحك وبالجنان» كتبتها قبل رحيل «عمار» ب 12 سنة تقريباً نظراً لتتابع نهايات الأصدقاء.. بماذا تشعر وأنت ترثيه بها اليوم؟ - ياله من شعور فى غاية الصعوبة والقسوة لم أكن أتخيل قط أنه سيرحل فى يوم من الأيام من كثرة ارتباطنا كم هى فارغة الحياة دونه ولولا رحمة الخالق لما تحملناها. طرق لحظات فى شرود عظيم ثم عاود كلامه وهو يقول فى نحيب بالغ. لسه امبارح يا صاحبى كنا اطفال بنحبى على صدور البنات نلعب بلى وساعات نفرقع بلونات امبارح اللى كان كان الحاضر زمان كان فى ربيع وفى صيف وفى شتا وفجأة وبدون مقدمات معادش غير خريف تخاريف.. تهيؤات كان شفاف كفيف بينط ع الرصيف ويزحف ع المخدة بصوت م بين حفيف وسحيح ودا يبقى إيه دا قالك دا باينله ضيف جاى يعملك مفاجأة. • وماذا بعد رحيل «عمار»؟ - لا شىء «عمار» وبعده اللاشىء، كان «عمار» واسطة العقد التى انفرطت منها الحبات على آخرها ولم يبق شىء بالعقد سوى المشوار الذى مشيناه وتركنى دون أن نكمله وذكرياتنا سوياً التى تعبئ كل شىء برائحته، كان دائماً يبحث أحوال أصدقائه، ليساعد من يحتاج منه المساعدة، ويربت على كتفنا دائماً ويغدقنا بحنانه الفياض، تركنا بعده أيتام بلا روح تحتضن برودة أضلعنا، عاشت الألحان ورحل عمار. •• لم أستطع أن أكمل الحوار بعد بكاء شوقى حجاب على رفيق دربه حقاً إنه شخص يستحق البكاء والعديد.. فمن منا يمتلك مفرداته الإنسانية وروحه وإبداعه رحمه الله وأبقى لنا ألحانه أبد الدهر تنغم حروفه التى لم ترحل أبدا.•