رحلت ولم تفعل شيئا سوى أنها حملت باقة من الزهور لتكلل مقام الشهداء الذين سبقوها، لا تعلم أنها بعد لحظات قليلة ستعد واحدة منهم، رحلت بهدوء الغروب. جاءت إلى بيت المعز صباحا باكرا لتحتفل بالثورة، قطعت تذكرة ذهاب فقط، لا تعى أنها تذكرة للجنّة، تذكرة لتسافر بلا رجعة، أو لتعود جسدا يغرق بالدماء، صنعت بروحها ولروحها إكليلا من الزهور. «ذكرى ثورة...... مات وقودها....... غابت شعاراتها.......... وبيحتفل بيها....... من أنكر وجودها..» هكذا كتبت فى إحدى قصائدها بديوان «على ضهر التذكرة» أصرت على أن من يحتفل بالثورة هى الثورة ذاتها وليس من أنكر وجودها كما كتبت، ويبدو أنها كانت تسيطر عليها حالة من اليأس والإحباط السياسي، وذلك يبدو جليًا جدًا فى النص السابق ل «الصباغ». رفضت «الصباغ» المشهد الثورى تمامًا ولم ترض عنه بالمرة فراحت تحتفل بثورتها كما يجب أن تكون من وجهة نظرها الثورية. تقول «شيماء» فى نص آخر: «مجنون اللى يفكر انه يقدر يمنعنى أنزل الشارع وقت ما أحب الشارع لنا». لم تكن «الصباغ» ثورية بآرائها وثقافتها وما منحها الله من موهبة شعرية فحسب، وإنما بكل ما تملك قولا وفعلا، كانت تسير فى الشارع وتقف فى وجه المدفع ودائما الأولى التى تندفع فى وجه النيران، وكأن الشارع لها، وكأنها خلقت لتثور وتدافع عن حق العمال والكادحين وكل من سلب حقه دون وجه حق. تقول فى نص آخر: «الورد اتمرمط واتبعتر والكلب اتبغدد واتغندر والواد الحيلة أخد تعسيلة فى حضن الأرض» هكذا كتبت «الصباغ» فى وداع «جيكا»، كتبت ولم تكترث بالمصير الذى ينتظرها. تتميز كتابات الصباغ بأنها تنبع من الروح ومن قلب الأحداث، فعندما تقرأ نصا كالسابق «من وداع جيكا» تشتم رائحة دماء جيكا، ودموع والديه، نحيبهم، وعديدهم، وكلماتها التى تقفز من روح النص. تقول فى وداع الحسينى: جنازة الحسينى طالعة والناس وراه.... كان الحسينى بيهتف والناس بردوا وراه.... بس الحسينى مات عشان مصر قدامه........ العيال الحيلة بتندفن... وعلم مصر بقى الكفن... مع السلامة يا حسينى.... مع السلامة يا بطل» تقرأ النص وكأنك تسير خلف نعش «الحسيني» وليس خلف كلمات «الصباغ» إلى أن تصل لجملة «مع السلامة يا حسينى... مع السلامة يا بطل»، فتشعر بأنه نزل إلى قبره تواً ووارى الثرى. هذه هى «شيماء الصباغ» تأخذك بروحها الرقيقة رويدا رويدا وكأنها ترسم مشهدا كاملا أمام عينيك بكلماتها. تتميز نصوصها بالمفردات البسيطة العميقة الشديدة الدلالة على المعنى والمشهد، وهذا هو الأسلوب السهل الممتنع فى الكتابة، فتصل إلى قلبك بأقرب وأسهل الطرق. كانت تشعر وتعى نهايتها وتنبأت بها فى أكثر من نص حيث كتبت فى أحد نصوصها تقول: «اللى مش متغطى بالشارع عريان الصفوة مش بتوع ثورات الصفوة بتوع انتخابات معارك الصناديق متخصنيش أنا غير الشارع ماليش مش هسيب حقى اللى إتكسى بدم الشهدا الشارع لنا». لم تترك حقها وأصرت عليه، احتضنت أرواح من سبقوها بالشهادة وهم أيضا احتضنوا روحها وتمسكوا بها تمامًا لأنها تستحق. «التفاصيل الصغيرة بتدى الحياة رتوش أجمل وبقت تكتب على ظهر الكرسي الفاضي إن الحياة أجمل ولو النهاية مش سعيدة». عاشت حياتها بالجمال الذى تراه هى ولو النهاية مش سعيدة كما قالت، كتبت نهايتها بالدماء، نهايتها التى ندّى لها جبيننا جميعا. ذهبت ولم تترك لنا ثقب إبرة يمر منه اليأس والإحباط لنا، حيث كتبت فى أحد نصوصها تقول: «ولسه فى القلب ضحكة...... ولسه على الخد بوسة....... وفى العلبة سيجارة فرط». تعشق الحياة بكل تفاصيلها، لذا ذهبت لتعيش حياة أفضل مع عالم أجمل وأنقى وأطهر. «ح ألم الوطن فى شنطتى..... واكتب عن رحلتى ف حضنك». هكذا عبرت «الصباغ» وبكل بساطة وعمق فى نفس الوقت عن الحياة التى وعيت تماما بقصر رحلتها بها فى جملتين، وهذا يدل على عمق التجربة وقصرها فى ذات الوقت. واختتمت الديوان بقصيدة تقول فيها: «البلد دى بقت بتوجع.... ومفهاش دفا..... يارب يكون ترابها براح... وحضن أرضها... أوسع من سماها». وبالفعل ذهبت لتبحث عن الدفء فى مكان أكثر براحًا وأكثر دفئا وأمنا ونقاءً. فليكن الرحيل.. بهدوء الغروب، فلتكن «الصباغ» أيقونة الثورة، وأيقونة الحلم، وإن كان الحلم مستحيلا، وأيقونة الورد وإن غرق فى الدماء، وأيقونة الوفاء للوطن والإيمان به وإن لم يوجد، أو بالأحرى لتكون الوطن. فلتكن ذكراها ثورة وكلماتها ثورة والتذكرة التى قطعتها دون رجعة هى تذكرة للحرية المطلقة بعالم آخر بالتأكيد أفضل. •