عبر سنوات عمرنا اعتدنا على قراءة التاريخ أو دراسته على كونه حقيقة واحدة لا تتغير ولكن منذ 25 يناير وعبر أربع سنوات تغيرت الحقيقة وتغير التاريخ من قبلها.. وتفجرت فى الشارع المصرى أسئلة لم تكن تخرج عن أروقة البحث العلمى وقاعات المحاضرات لتثير المعارك على صفحات الجرائد وبرامج «التوك شو».. تلك الأسئلة هى: كيف يكتب التاريخ فى مصر؟ ومن يحق له كتابته؟ وأين تحفظ الوثائق التاريخية؟ وهل تخضع أوراق القضايا السياسية للرقابة، وهل هى وثائق تاريخية؟!.. هذه الأسئلة وغيرها حاولت «صباح الخير» إيجاد إجابات لها مع المؤرخ صلاح عيسى.
صلاح عيسى.. شيخ المؤرخين المعاصرين.. يجيب على تلك الأسئلة ويحكى تجربته فى كتابة القصة التاريخية ومعاناته فى الوصول إلى المصادر التاريخية. صلاح عيسى أكد أن كتابة التاريخ مهمة صعبة للغاية والمؤرخ لا يكتب التاريخ فى لحظة الأحداث وإن كانت هناك مدارس فى ذلك، ولكنه يستقى المعلومة التاريخية من عدة مصادر متنوعة، وعلى المؤرخ أن يقرأ مصادر متنوعة ويستخلص منها الحقيقة، مثال لذلك الأوراق القضائية وهى مصدر مهم من مصادر التاريخ، كذلك الوثائق الرسمية المتبادلة بين دواوين الحكومة أو الجهات الرسمية للدولة سواء داخليا أو المتبادلة مع دول أجنبية أخرى مثل البروتوكولات والمعاهدات. المذكرات الشخصية لشهود العيان المشاركين فى الأحداث، المراجع المعاصرة مثل الصحف جميعها من المصادر الموثقة فى التاريخ الحديث وتبدأ من الحملة الفرنسية. ولكن تبرز مشكلة بعد ثورة 52 جعلت هناك فصولا مجهولة من التاريخ المعاصر نتيجة لقانون الوثائق المصرية عام 1954، والذى يتعامل مع الوثائق التاريخية من بعد أمنى. • وما علاقة التاريخ بالبعد الأمنى؟ - أكد أ. صلاح عيسى أن بعض هذه الوثائق تتعلق بحقوق الدولة هذه النظرة لا تخلو من حصافة للإنصاف حيث إنها تتعلق بأسرار الدولة ومثال لذلك جهود كبرى قام بها د. لبيب رزق فى قضية طابا، وربما نحتاج لمثل هذا الجهد فى «حلايب وشلاتين» ولذلك ترى بعض أجهزة الدولة المتعلقة بالأمن السياسى للدولة أنها يجب أن تحتفظ بوثائقها ولا تلتزم بقانون الإفراج عن الوثائق المهمة بعد 30 عاما كما يقضى القانون الدولى، وربما يمر ال50 عاما أيضا إذا كان أصحابها من الشخوص الذين شاركوا بها مازالوا على قيد الحياة ثم من المفترض الإفراج عنها، ولكن هذا لا يحدث. • ولكن من المفترض أن دار الوثائق المصرية تحتفظ بجميع الوثائق التاريخية، أليس كذلك؟ - بالفعل دار الوثائق المصرية تحتفظ بكم كبير من الوثائق وهى الجهة المنوط بها الاحتفاظ بجميع المصادر التاريخية حيث بها أوراق الدواوين، وعقود بيع الأراضى، والزواج على مدى العصور ووثائق تاريخية سياسية، ولكن هى أيضا لا تنفذ القانون فى شرط تعميم المعرفة ولكن تتعلق بأن حق الاطلاع على هذه الأوراق مكفول فقط لطالب الجامعة الذى يعد دراسة أكاديمية، وعليه الحصول على موافقة أمنية، وينطبق ذلك على الباحثين المصريين وخاصة الأجانب، وجزء كبير منها غير مفهرس وفقا للعلوم الحديثة. • ولكن ربما كانت الإجراءات المشددة فى الاطلاع حفاظا على الوثائق المهمة وعدم تعرضها للإتلاف؟ - بالطبع هذا حقيقى ولكن العلوم الإلكترونية قامت بحل المشكلة والمكتبات الرقمية الحديثة، جعلت الاطلاع الآن من خلال شاشة إلكترونية، كذلك يمكن للباحث أن يطلع على نسخة طبق الأصل فقط دون تعرض النسخ الأصلية للاطلاع المستمر مما يعرضها للتلف. والحقيقة أن قوانين الوثائق تنطلق من قاعدة واحدة هى أن الوثائق التاريخية هى ملك للرأى العام، يجب أن تكون متاحة للعامة، خاصة أن هناك وثائق خاصة بالمواطنين مثل ملكيات الأراضى، كانت فى «الدفترخانة» القديمة أما الوثائق الرسمية فهى موجودة لدى الجهات المصدرة والمصدرة لها، مثال وثائق وزارة الخارجية موجودة لديها. المشكلة فى عدم إفراج الجهات التى لديها الوثائق عنها، والقانون يفرض على جميع الجهات الاحتفاظ بالوثيقة حتى 15 عاما، ثم تنتقل إلى دار الوثائق، ويمكن لدار الوثائق أن ترى عدم الكشف عنها لمدة 15 عاما أخرى إذا كانت «سرية» وبعد ذلك يتم الإفراج عنها للعامة، وبعض الوثائق تعتبر «سرى جدا» يتم الكشف عنها بعد 50 عاما. وهناك وثائق شخصية تسىء لأصحابها خاصة ما يتعلق منها بحق الأفراد فى الاحتفاظ بأسرارهم الشخصية وذلك بالنسبة للشخصية العامة. • ألا ترى أن هذا الحق يمكن أن يتعارض أحيانا مع حق الشعب فى تقرير مصيره أو يؤثر على السياسة العامة للدولة إذا كان الرئيس يعانى من مرض خطير يؤثر على قرارات الحكم؟ - بالطبع الأمر حساس ومختلف عليه ولكن القانون الأمريكى اشترط حق الشخصية العامة بالاحتفاظ بالتاريخ المرضى له ولعائلته لمدة 75 عاما خاصة إذا كان المرض مرتبطا بالسلوك الشخصى للشخصية العامة وحتى لا يسىء إلى أسرته، وهناك حالات يكون كتمان الإصابة بالمرض للرئيس متعلقاً بأمن الدولة، وهو ما حدث مع الزعيم عبدالناصر وقت الأزمة القلبية الأولى، حيث كنا نخوض حرب الاستنزاف، وكانت الأمة العربية تعانى من هزيمة 1967 ولذلك قيل إنه أصيب بمرض «الأنفلونزا». غير أن هذا اختلف تماما مع الملك حسين بعدها بسنوات، حيث أصيب الملك حسين بالسرطان وتم إعلان ذلك. • وماذا عن مبارك؟ - الحقيقة أن ما أثير حول مبارك من إصابته بمرض خطير اتضح أنه غير صحيح، وهناك كثير من الشائعات أثيرت حول صحة الرؤساء ولم تثبت، ولكن تم مؤخرا إقرار شرط الصلاحية الصحية ضمن شروط تولى منصب الرئاسة بما لا يعوقه عن مزاولته لمهام منصبه. وهناك مشروع طموح للوثائق المصرية، حيث تم بناء دار للوثائق فى الفسطاط يتم افتتاحه قريبا وسيتم فصل دار الوثائق عن دار الكتب، وهناك اقتراح بتبعيتها «أى دار الوثائق» لجهة سيادية!! أو رئاسة الجمهورية. قانون الوثائق هو جزء من الدستور المصرى 2014 وهو أول دستور مصرى ينص على كشف الوثائق، وبه نص على حرية تداول المعلومات، والوثائق هى جزء من قانون حرية تداول المعلومات ولذلك فمن حقى كمواطن الاطلاع على المعلومات المعاصرة أو وثائق الدولة، وهذا سيجعل مهمة المؤرخين غير الأكاديميين والباحثين والصحفيين أيسر، حيث إننا مازلنا نعانى فى الوصول للمعلومات سواء كانت معاصرة أو وثيقة تاريخية حيث إننى الآن لا أستطيع الاطلاع على الوثائق السياسية فى مركز الوثائق القضائية وقمت بإجراءات صعبة حتى استطعت الاطلاع على القضايا السياسية. ولذلك يجب أن نقوم بإعداد القوانين المكملة للدستور حتى يمكن أن تنتهى تلك المشكلة بإصدار قانون حرية المعلومات، ويكون هناك مدى زمنى معين لحجب المعلومات لمدة 50 عاما. • أخشى أن يؤثر الاقتراح بدمج قانون الوثائق بقانون حرية المعلومات سلبا على قانون حرية المعلومات؟ - وتساءل صلاح عيسى قائلا: لماذا يخشى من حرية تداول المعلومات أو إخفاء الوثائق عن المواطن وخاصة أن المتحف البريطانى يتيح ذلك للطلبة البريطانيين والمصريين أيضا مقابل دفع «رسوم» للاطلاع والتصوير ويمكن أن يحقق دخلا وشرط الالتزام، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة تمكن المواطن من اكتشاف الوثائق من خلال المواقع الإلكترونية وتمكن الدولة من الحفاظ على وثائقها. • ولكن هناك جهات أخرى فى مصر تقوم بحفظ الوثائق إلى أى مدى يعد ذلك إيجابيا أو سلبيا؟ - الحقيقة أن تنوع المراكز يفيد مثل المتحف القضائى الذى يحفظ ملفات القضايا الكبرى فى مصر ويقوم بتدريب وكلاء النيابة عليها ورغم صعوبة الاطلاع داخله وفقا للوائح قديمة، إلا أنه مفيد، كذلك مكتبة الإسكندرية قامت بمجهود كبير فى جمع الوثائق والمخطوطات التاريخية الحديثة والمعاصرة وحصلت على وثائق العديد من الشخصيات العامة الذين كانوا يحتفظون بها، وفى فترة من الفترات كان المفكر محمد حسنين هيكل وهو يملك مليون وثيقة قد فكر فى إيداع تلك الوثائق فى مكتبة الإسكندرية وذلك قبل حادث منزله فى برقاش وأقترح الإسراع فى تنفيذ هذا الوعد. يجب أن يكون هناك مشروع جماعى ودائم لتوثيق التاريخ وألا نفرض الرقابة على الباحثين، والحل فى إصدار قانون حرية تداول المعلومات. تلك كانت نصيحة المؤرخ صلاح عيسى ونحن ننتظر افتتاح دار الوثائق الجديد وتنفيذ النصيحة.•