غيرت وثائق ويكيليكس مفهوم الوثيقة وطريقة تعاملنا معها، فبعد أن كانت أرفف المخازن هي المكان الطبيعي للوثيقة حيث لاتعرف النور إلا بعد مرور عقود أصبحت الآن ملك يمين متصفح الإنترنت، لن ينتظر سنوات ليعرف كيف ينظر الحكام العرب لشعوبهم، وما هو رأي الإدارة الأمريكية في هذا الحاكم أو ذاك، يأتي هذا في وقت تعاني فيه الوثائق في مصر من مصير مجهول، فلا أحد يعرف لها عنوانا، فعلي الرغم من وجود دار للوثائق القومية مفترض ان تكون مقرا لجميع الوثائق المصرية، إلا أن معظم ملفات الوثائق المتعلقة بحوادث تاريخية حيوية غائبة. فمن وثائق العصر الملكي، إلي وثائق عصر الزعيم جمال عبد الناصر مرورا بعصر الرئيس أنور السادات وليس انتهاء بالمخلوع حسني مبارك، لا نعرف أين توجد وثائق الملكية أو وثائق بناء السد العالي، ناهيك عن وثائق حروب عبد الناصر التي ستجيب لنا عن صاحب قرار النكسة، وماذا جري حقيقة يوم تأميم قناة السويس، وأين هي وثائق الوحدة مع سوريا 1958 حتي الانفصال 1961م، وماذا جري في حرب اليمن، ولماذا تجاهل السادات انتصار أكتوبر وانحاز لمشروع السلام الذي لم يتناسب مع عظمة ما حققه الجندي المصري، ولماذا قام الشعب المصري علي مبارك أليس لفساده؟! فأين إذا الوثائق التي تثبت فساد مبارك وأعوانه أو ربما تثبت براءته. كلها أسئلة تدور في الأذهان بعد أن اعلنت اللجنة المكلفة بحصر مقتنيات القصور الرئاسية، عن حصرها لتحف وأنتيكات القصور الرئاسية، ورغم تسليمنا بأهمية ما حصروه وفي الدفاتر سجلوه، إلا أن السؤال الأهم الذي لم تجب عنه اللجنة، وربما لم تكلف به من الأساس، أين هي وثائق القصور الرئاسية التي تحكي تفاصيل ما جري في مراكز صنع القرار، وأين هي المكاتبات الرسمية التي تكشف لنا أسرار الأنظمة التي حكمت هذه البلاد علي مدار قرن كامل؟ فلا يمكن ولا يعقل أننا لا نمتلك مقرا لوثائق عصر عبد الناصر الذي رحل عن دنيانا منذ أكثر من أربعين عاما، ولا نملك وحدة أرشيفية متكاملة عن العصر الملكي الذي انتهي في عام 1953م، أليس من حقنا أن نعرف حقيقة ما جري؟ أليس من واجبنا ان نكشف بحق عن فساد مبارك وأعوانه من واقع الوثائق الرسمية بعيدا عن الأحاديث الصحفية المرسلة واتهامات الفضائيات. فالوثائق تحوي كل ما يخطر علي بال بشر عن السياسة المصرية الخارجية والداخلية، بها وثائق العلاقات المصرية- الأمريكية والإسرائيلية، ناهيك عن ملف النيل الحيوي، ووثائق السد العالي وقناة السويس، بل وأرشيف الفساد الإداري في عصر السادات ومبارك. فهل يعقل أن تظل وثائق زعيم بحجم جمال عبد الناصر ومكانته، يتقاسمها عدد من الأشخاص كإرث شخصي، وما حقيقة ما قيل عن سرقة جمال مبارك وأعوانه لوثائق القصور الرئاسية قبل الثورة؟ وما صحة ما يقال عن سرقة وثائق عصر محمد علي الخاصة بالحجاز لصالح آل سعود؟ هل يعقل أن الباحث في تاريخ مصر يستعين بوثائق الأرشيف البريطاني والأمريكي ولا يجد وثيقة مصرية تعينه علي بحثه؟! الوثائق في مصر ذاكرة أمة ولا أمل لشعب بلا ذاكرة، وتعمد نظام مبارك أن يطمس الحقائق ويخفي الوقائع ليمرح في مناخ من الجهل بحقيقة ما جري، البحث عن وثائق القصور الرئاسية أهم ألف مرة من مجرد حصر تحف القصور الرئاسية التي لن يستفيد منها الشعب المصري شيئا، مجرد نظرة في جولة بأحد المتاحف التي ستوضع بها تلك القطع، أما الوثائق ذاكرة الأمة حاملة الإجابات عن الكثير من الأسئلة الحائرة في فراغ اللا جواب، فلا حديث عنها ويبدو الأمر مقصودا، فالبعض مازال يري أن الشعب لم ينضج بعد ليكتشف حقيقية ما جري. يشير د.عبادة كحيلة، عضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية المصرية، إلي "أن ضياع الوثائق الخاصة بثورة 1952 سببه عدم سماح الحكومة المصرية بنشرها أو حتي الاطلاع عليها، وهو أمر ينسحب علي وثائق ما قبل 1952م كوثائق الحركة الشيوعية أو الوثائق الخاصة بحركة (الإخوان المسلمين) قبل الثورة. وغياب الوثائق يعني غياب التاريخ الحقيقي ويشكل مشكلة كبيرة لأي مؤرخ، لأن للوثيقة أهمية تفوق غيرها من الموارد التاريخية". مضيفا : "نتيجة لغياب الوثائق المصرية تظهر للوجود الوثائق الغربية، فيضطر الباحث في فترة الثورة إلي الاعتماد عليها مما يؤدي إلي صبغة كتابة فترة يوليو التاريخية بصبغة غربية معادية منحازة، تشوّه التاريخ". وعن أماكن وثائق ثورة 1952 يؤكد د.عاصم دسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة حلوان، أن وثائق الثورة تتوزعها أكثر من جهة بين أرشيف قصر عابدين ومتحف قيادة الثورة، وهي وثائق مغلق عليها ولا يمكن لأحد الاطلاع عليها. كذلك تحتفظ جهات سيادية بأرشيفها الخاص عن الثورة، كوزارات الخارجية والداخلية والدفاع، ورئاسة الجمهورية والمخابرات العامة، والقليل المسموح الاطلاع عليه يتم بعد إجراءات معقدة تستغرق أكثر من ستة أشهر". وفيما يتعلق بوجود قانون ملزم بجمع الوثائق يشير دسوقي إلي "أن قانون 1954 غير ملزم وهو القانون الوحيد الموجود حالياً، والأمر لا يرتبط بالقانون فقوانين كثيرة موجودة ولا تنفّذ، لأن الجهة السيادية التي تقف خلف المؤسسة هي التي تعطي القوانين قيمتها، فمكتبة الإسكندرية تجمع الوثائق الآن بشكل ناجح لأن السيدة الأولي كانت تشرف عليها، في حين تتبع دار الوثائق هيئة تابعة لوزارة الثقافة، ما يعيق عمل دار الوثائق في جمع المهمة"منها. وطالب د.جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، دار الوثائق القومية بسرعة إنقاذ وثائق قصور الرئاسة، لما بها من وثائق مهمة، مشيرا إلي أنه منذ شهرين أو أكثر كانت هناك محاولة لتهريب وثائق هامة من قصر الرئاسة إلي إحدي الدول العربية، وتم ضبطها بالمطار كانت معظمها من وثائق جامعة الدول العربية، ووثائق خاصة بقصر الرئاسة، وكانت هناك محاولات لنقل وثائق من قصور الرئاسة بعد تنحي مبارك إلا أنها أجهضت، لذلك تقدمت ببلاغ للنائب العام للحفاظ علي وثائق قصر العروبة، قبل حرق نيابة الأموال العامة وجهاز مباحث أمن الدولة، لأنها وثائق غاية في الأهمية تشمل وثائق مصر منذ عصر الملك فؤاد حتي وثائق عصر مبارك، وتعد وثائق أرشيف منشية البكري واسطة العقد في وثائق القصور الرئاسية. وروي شقرة، ل"آخر ساعة" تجربته مع وثائق منشية البكري قائلا: "أتيحت لي فرصة الاطلاع علي هذه الوثائق مرتين وهالني حجم المعلومات التي تحتويها عن ثورة 52 وعصر عبد الناصر، لدرجة أني تيقنت أنه لا يمكن كتابة تاريخ هذه الثورة بدون الاطلاع علي هذه الوثائق، رغم ذلك لم يكن الوصول إلي وثائق منشية البكري سهلا، فقد اضطررت إلي كتابة خطاب ماكر وقع عليه رئيس جامعة عين شمس موجه لرئيس ديوان رئيس الجمهورية - وقتها- زكريا عزمي، للموافقة علي دخولي قصر منشية البكري، بحجة إطلاعي علي وثائق ما بعد الحرب العالمية الأولي، لأني لو أعلنت أن هدفي وثائق عصر عبد الناصر لكان الجواب بالرفض قطعا. وتابع شقرة قائلا: "اطلعت علي معظم وثائق منشية البكري قبل أن تنقل إلي بدروم قصر عابدين، حيث لا يعلم أحد عنها شيئا من وقتها، وقد ترددت أنباء وشائعات عن قيام جمال مبارك بالاستحواذ علي وثائق قصور الرئاسة وهو أمر لو حدث فعلا لكان مؤشرا خطيرا وتلاعبا فجا في ذاكرة الوطن". من جهته أكد د.محمد صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق القومية السابق وأستاذ التاريخ الحديث بجامعة الأزهر، أن دار الوثائق طالبت، في فترة رئاسته، بوثائق يوليو مراراً من جميع الجهات الحكومية في مصر ولكنها لم تلق جواباً. ويقول في هذا الصدد: "الدار أيضاً لا تحظي بالعناية اللازمة علي جميع المستويات كلها، فجهات الإدارة المختلفة بدءاً من وزارة الأوقاف مروراً برئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع والداخلية وكل الجهات المعنية بالوثائق ولديها ذاكرة مصر القومية خصوصاً منذ عام 1952 للأسف لم تسلِّم هذه الوثائق، ولم تقدِّم تعريفاّ بما هو مودع لديها من وثاثق". يضيف عرب: "في غيبة الوثائق الرسمية للدولة يضطر المؤرخون والباحثون الشباب إلي الاستعانة بالمصادر الأجنبية ويكتبون عن تاريخ مصر من الأرشيف الإسرائيلي والفرنسي والأمريكي. ووصل الأمر إلي أن ادّعت ممثلة مشهورة بأنها ستعيد كتابة تاريخ ثورة 23 يوليو بما تملك من معلومات، هذا كله من دون أن يحرك أحد ساكنا". وعلق صابر عرب قائلا: "لا أعرف ما المحاذير التي تحول دون الإفراج عن وثائق ثورة يوليو وعن وثائق وزارة الداخلية في النصف الأول من القرن العشرين، فلدي هذه الوزارة ما يسمي بتقارير العمد والمشايخ وأخشي أن تكون دمِّرت لأنها مهمة جداً في عام 1954 أو خلال حرب 1956 أو نكسة يونيو. حتي حرب 1973 لا نعرف ما قصتها وما أسرارها ولا نعرف أيضاً أين وثائق السد العالي".