أثارت ندوة «دار الوثائق المصرية مصدرا لكتابة تاريخ مصر» التى تحدث فيها الدكتور خالد فهمى عدة قضايا جدلية، أولاها التعتيم الشديد على قانون الوثائق المصرية الذى طالب به خبراء الوثائق منذ 1996، ولم يناقش حتى الآن. خاصة فى ظل أنباء تؤكد أنه يجرى الآن التحضير لمناقشة قانون حرية تداول المعلومات والبيانات الذى يرتبط بشكل من الأشكال بالوثائق المصرية، وثانيتها إعاقة البحث العلمى بتحديد ثلاث وحدات أرشيفية فقط أمام الباحث ما يعنى أن بحثه سيكون ناقصا، وهذا يرتبط إلى حد بعيد بعدم إيمان المسئولين بحرية البحث العلمى وحق الشعب فى المعرفة. أما القضية الثالثة الأكثر جدلا فهى سيطرة جهات أمنية على حرية اطلاع الباحثين على الوثائق المحفوظة بدار الوثائق القومية والتى تتم بطريقة غير منطقية أهمها وضع صورتين شخصيتين على طلب الاطلاع، بالإضافة إلى كل المعلومات التى تخص البحث الخاص به. ولا تكمن المشكلة الحقيقية فى الصور الشخصية وعددها، إنما المشكلة هى فى اعتراض الأمن على موضوعات أبحاث لا تشكل أى خطر على الأمن مثل عدم إعطاء تصريح لأستاذ جامعى؛ لأنه يبحث فى تاريخ الوقف فى العصر المملوكى أو الزراعة فى العصر الفاطمى، بالإضافة إلى أن على الباحث أن ينتظر شهرا أو شهرين أو أكثر للرد على طلبه سواء بالقبول أو الرفض. الغريب أن ذلك الإجراء الأمنى لا ينص عليه قانون الوثائق المصرية، ولا يعرف أحد كيف يتم التخلص منه. كل تلك الأمور الجدلية المطروحة تمثل عائقا أمام الباحث فى ظل الثورة التكنولوجية الهائلة وتفجر حرية البحث العلمى فى كل أنحاء العالم. فما يتم إخفاؤه على الباحثين المصريين يوجد فى أرشيفات العالم، وبهذا يتم تقديم كل وجهات النظر الأخرى وتبقى وجهة النظر المصرية مختفية بحجة أن «هذه الوثيقة تضر الأمن القومى». قانون معيب سألنا المؤرخ والصحفى الكبير صلاح عيسى المعروف عنه اهتمامه البالغ بالوثائق المصرية حول كل تلك الأمور الجدلية، فقال إن كل تلك المشكلات ناتجة عن القانون الحالى رقم 356 لسنة 1954 الذى ينظم عمل الدار، وهو قانون معيب وقاصر لا يناسب تحقيق مهمة دار الوثائق القومية فى العصر الحديث. لذلك طالب كثيرون بتعديله منذ 1996، ووصل الأمر إلى تشكيل لجنة فى 2001 أيام تولى سمير غريب رئاسة الدار من المؤرخين وخبراء الوثائق والصحفيين لإعادة النظر فى القانون الحالى، وفى عهد تولى د. صلاح فضل رئاسة الدار تم تشكيل لجنة أخرى كانت تضم المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق ود.صابر عرب ورجاء الميرغنى وعضوين بمجلس الشعب عن حزب الوفد، وانتهت اللجنة بتقديم مشروع قانون لا نعرف مصيره إلى الآن. وأكد عيسى أن ذلك المشروع طالب بالمحافظة على الوثائق انطلاقا من حرصها على تحقيق أهداف «دار الوثائق القومية» باعتبارها «الأرشيف القومى للدولة» المكلف بجمع وحفظ كل الوثائق. وذكر عيسى أن مشروع القانون راعى ضعف العقوبات وعدم وجودها فى بعض الأحيان بالنسبة للمخالفات التى ترتكب فى الحفاظ على الوثائق لذلك استحدث المشروع العقوبات الكافية لتوفير الردع للحفاظ على الوثائق ذات القيمة والتى تشكل تراثا حضاريا للدولة. وأوضح أنه تمت صياغة المشروع فى اثنتى عشرة مادة، عنيت المادتان الأولى والثانية بتعريف الوثيقة تعريفا مبسطا فى إطار من القواعد الدولية المتعارف عليها، وفى المادة الثالثة حصر المشروع الاختصاص لدار الكتب والوثائق القومية فى جمع الوثائق وحفظها دون غيرها من الجهات لمنع بقاء الوثائق مفرقة بين الأجهزة المختلفة للدولة، مع استثناء الوثائق المتعلقة بوزارة الدفاع وأجهزتها لما لهذه الوثائق من طبيعة خاصة. فضلا عن إلزام الجهات المصدرة أو المتلقية للوثائق الرسمية للدولة بتحديد إحدى درجتى السرية لهذه الوثائق والتى نص عليها المشروع بأنها «سرى للغاية» بالنسبة للوثائق التى لا يسمح بالاطلاع عليها إلا بعد انقضاء خمسين سنة بعد إصدارها أو تلقيها، و«سرى» بالنسبة للوثائق التى لا يسمح بالاطلاع عليها إلا بعد انقضاء ثلاثين سنة بعد إصدارها أو تلقيها، مع إعطاء الجهة الإدارية المختصة بالوثيقة الحق فى تعديل هذه الدرجة بعد إخطار الدار بذلك. وتساءل عيسى أين ذهب مشروع القانون، مؤكدا أن هذا أمر غير منطقى ألا يناقش مجلس الشعب قانون استراتيجى مثل ذلك فى حين نرى أن البرلمان يناقش مشروعات قوانين أقل أهمية من ذلك المشروع. وحول سيطرة الأمن على الاطلاع، قال عيسى إن التجارب تقول إن هناك وثائق تتعلق بالأمن القومى لا توجد بدار الوثائق، فمثلا وثائق الدار الخاصة بقضية طابا كانت ناقصة ما اضطر الراحل يونان لبيب رزق السفر إلى الخارج ليستكمل الخرائط التى تحدد حق مصر فى أراضى طابا. وأشار عيسى إلى أن كل الوثائق المتعلقة بالأمن والشئون العسكرية لا يتم إيداعها بدار الوثائق، فما الداعى إذن للسيطرة الأمنية فى ظل عدم وجود وثائق تتعلق فعلا بالأمن القومى؟!. وأوضح أن الهاجس الأمنى يضع المعوقات دوما أمام الباحثين، ورأى عيسى أن المشكلة ستحل بعد تحديد معنى كلمة «الأمن القومى» أو الوثيقة التى تضر الأمن القومى، ولا نترك المسألة فى يد أحد لا يؤمن بحرية البحث العلمى أو حسب أهوائه الشخصية، مشيرا إلى أنه لم يتعرض إلى هذه المضايقات الأمنية لبحثه عن أحداث الثورة العرابية أو فى وثائق يعود تاريخها إلى ما قبل ثورة يوليو، لأن الدخول إلى عالم الوثائق المصرية بعد ثورة 1952 عسير جدا ومحبط. وأكد عيسى أن هناك خطأ فى تطبيق حرية الاطلاع على الوثائق والتى تمنح فقط للباحثين الأكاديميين التابعين لإحدى الجامعات المصرية، وتغلق فى وجه الجمهور أو الباحثين غير الأكاديميين ويزيد الأمر أمام الباحثين الأجانب اعتمادا على المثل «الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح». ظاهرة عربية من ناحية رأى د.محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة أن حجب الوثائق لا يمثل ظاهرة مصرية بل ظاهرة منتشرة فى جميع أرجاء الوطن العربى الذى يعانى من مرض المبالغة فى السرية فأى وثيقة تحمل اسم مسئول أو بعض المعلومات عن واقعة تاريخية معينة يعتبرها البعض أوراقا يجب أن تحمل صفة «سرى للغاية»، وكأن الوثيقة «عورة». وقال عفيفى إن هناك أزمة أخرى تسببها هذه السيطرة الأمنية أو تحديد الوحدات الأرشيفية أمام الباحثين تتمثل فى افتقاد الكتابة التاريخية لوجهة النظر المصرية، مؤكدا أنه منذ حرب 48 وجميع الكتب التاريخية التى صدرت تعتمد على الوثيقة الأجنبية سواء من الأرشيف التركى أو البريطانى أو الفرنسى. لا يوجد بحث يضر الأمن أما الدكتور خالد فهمى فأكد أنه خلال العشرين سنة الماضية لم يشهد واقعة اختفاء أية وثيقة محفوظة بدار الوثائق، كما أن الإجراءات الموجودة داخل القاعة كفيلة بالحفاظ على الوثائق. ولم يرد د. خالد فهمى التعليق على التشدد الأمنى على حرية الاطلاع قائلا: إن ما يهمه أنه لا يوجد بحث منشور معتمدا على الوثائق المصرية كان ضد الأمن القومى أو سبَّب ضررا لمصر بل العكس هو الحادث، فللوثائق القومية فضل فى أمور كثيرة منها تحسين صورة الشرق بعد الكتابات الاستشراقية التى قدمت صورة سلبية لمصر والعرب. وأشار فهمى إلى أن كل ورقة يتم تصويرها فى دار الوثائق لابد أن يأخذ الباحث بها إذنا من رئيس دار الوثائق نفسه، أى أن هناك إجراءات مشددة داخل أمن الدار نفسه، موضحا أن ما يتم تصويره فى الدار للجمهور العادى الذى يجىء للبحث فى أوراق أو أملاك متنازع عليها لا يعتد به أمام أية جهة رسمية، فهى صورة لا تختتم بخاتم «طبق الأصل». مفهوم جديد للإتاحة أما عن مسألة تحديد ثلاث وحدات أرشيفية أمام الباحث ما يعنى إعاقة بحثه فضلا عن السيطرة الأمنية على الاطلاع، فيقول الدكتور عماد هلال أستاذ التاريخ بجامعة السويس ورئيس وحدة البحوث الوثائقية بدار الوثائق إن ما يقال عن تحديد ثلاث وحدات فقط غير صحيح، حيث أكد الدكتور صابر عرب رئيس الدار أن الوحدات الأرشيفية متاحة أمام الباحث دون تحديد فضلا عن أن الدار الآن تعمل وفقا لمفهوم جديد يتيح تسهيل الاطلاع على كل وثائق الدار. مناخ غير صحى وأمام كل تلك القضايا الجدلية قال د.صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق المصرية إنه طلب أكثر من مرة إتاحة كل الوثائق المصرية أمام الباحثين فضلا عن مطالبته أكثر من مرة بإصدار قانون الوثائق المصرية الذى ينظم عملية حفظ الوثائق والاطلاع عليها، موضحا أنه يوجد بمصر مائة مليون وثيقة محفوظة بدار الوثائق القومية. وذلك بخلاف كم هائل منها موجود بالوزارات المختلفة وبحيازة الأفراد العاديين، وللأسف قانون الوثائق المعمول به حاليا لا يحقق الحماية لهذه الثروة الإنسانية؛ لأنه قانون قديم ولا يوجد به مسئولية تلزم الجهة المقتنية للوثيقة بحمايتها، وهو قانون معيب من أوجه عديدة جدا؛ لأنه يعرض الوثائق للإهمال من المنشأ (المصالح والوزارات المختلفة والأفراد) ويسمح لهذه الجهات بالتقاعس عن تسليم ما لديها من وثائق مهمة للجهة المنوطة بها وهى دار الوثائق القومية. أما مسألة الأمن الذى لابد من أخذ موافقته للاطلاع على الوثائق فأشار عرب خلال ندوة د.خالد فهمى إلى أن على الباحث أن يكتب فى طلبه موضوع دراسته وما الوثائق المتعلقة ببحثه ولماذا يريد الاطلاع عليها، ثم يأتى دور الدار فى تحديد تلك الوثائق وتوفيرها للباحث. وذكر د. صابر عرب أن الدار تعمل فى مناخ لا يؤمن بأهمية الحفاظ على الوثائق المصرية، وحكى أنه منذ سنوات اتصل به أحد الضباط يسأله فى أمر بعض الأوراق المحفوظة بأقسام الشرطة وهى تخص ملفات العمد والمشايخ فى القرن التاسع عشر وهل يجوز حرقها أم لا؟، وبالطبع اهتم صابر عرب بأمر تلك الملفات التى خاف عليها من حرقها فعلا وإلى الآن لم يستطع الحصول عليها، مؤكدا أنه فى الغالب تم التخلص منها وحرقها على أساس أنها ملفات أمنية خطيرة!!.