كنا قد قضينا مع الفنانة بديعة الروح والفكر نادية لطفى وقتاً غير قليل على ضوء القمر الذى حكت لنا عن علاقتها به، وكيف أنها تقرأ له الفاتحة وتقبله كلما وقعت عيناها عليه، وكنا قد شاركناها ذلك الطقس الذى أصبح فيما بعد طقساً يخصنا أيضاً. كانت تتحدث عن أن الإحباط قد يرهقها أحياناً، لكنها كما تقول : أحمد الله على أننى لم انعزل اجتماعياً ولم أغلق على نفسى شرنقة الهم والإحباط، فالمقاومة هى التى تنقذ الروح من الجرح، وأهم شيء (أن الروح ما تتعورش). فمن يحبط ويقرر العزلة، يُعذَب مرتين، مرة بإحباطه ومرة بإحساسه بالتنازل عن فرصة المقاومة التى تأتى مع كل محنة يمر بها الإنسان.. ومن حديثها عن الروح والمقاومة، وكيف أن الروح كاشفة ومتجلية لصاحبها، سواء كانت روحا منفتحة أم مغلقة.. نقلتنا معها إلى متعة أخرى عندما تحدثت وحكت واستدعت الرائعة (بولا) ذكرياتها مع الأدباء والروائيين العظماء فى مصر. • كانت أغلب أعمالك السينمائية العظيمة مستوحاة من الأدب ومأخوذة عن روايات لأديب عظيم مثل نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، يوسف إدريس..كيف أثر هذا الإنجاز العظيم على تركيبتك الإنسانية والفنية ؟ - تقول نادية لطفى: بمنتهى اليقين..العمل الأدبى خير مُعلِم ومُثقِف للإنسان، تخيلوا معى لو كنت قرأت مائة نص أدبى وتعلمت فكرة واحدة أو معنى واحدا من كل نص لأصبحت (بنى آدم) لديه شيء ما مختلف، فالنص الأدبى إذا ما فهمته واحترمت قيمته، وقام الفنان بتجسيده سينمائياً، أصبح النص متحركاً، ولحما ودما، ودبت فيه حياة أخرى تضاف إلى حيويته اللغوية، ولكن المأساة ممن يمثلون بالنص الأدبى أحياناً يسيئون إليه، يمثلونه.. الفرق كبير، لكنه للأسف يحدث. تضحك وهى تتذكر الروائى الكبير يحيى حقى الذى كانت تكن له كل احترام وتقدير، وظلت تتحدث عنه وعن أدبه الرفيع وعن خلقه ودماثة طباعه، وكيف أنها عندما قابلته يوماً صدفة، وكانت المرة الأولى التى تراه فيها،فإذا بها - على حد قولها- قبلته وانبهرت به، وهذا كان شعورا رائعا ونقيا جداً، وكيف أن إحساسى بحبى له والذى ترجمته بعاطفة تلقائية وطفولية، إلا أن المعنى وصل له بكل رقى، عارفين ليه؟ أجابت (بولا) : لأن المعانى الإنسانية كانت بتتحس بجد بين البنى آدمين، وكأن إللى من القلب يصل للقلب مباشرة دون الوضع فى الحسبان رجل أم امرأة، وهذا بكل أسف ما أصبحنا نفتقده فى علاقاتنا التى تحولت إلى تصنيف وكان مفهوم العيب مختلفاً شكلاً ومضموناً عن مفهوم العيب هذه الأيام. فمن يعرفنى جيدأ..يعرف كم أكون عدوانية وعنيفة مع من كان يصدر لى الإحساس أنه يتعامل معى كأنثى أو بمعنى أدق يتعامل مع أنوثتى وليس إنسانيتى.. أكرهه و(أقفل منه تماماً) واستبعده من القائمة. فأنا أحببت أدباء كثيرين لأدبهم وإبداعهم..أحببتهم كأدباء وليس كرجال.. وحينئذ تجلت الذكريات عن الأديب الرائع يوسف إدريس الذى كان صديقاً مقرباً لنادية لطفى، قالت عنه : علاقتى بيوسف كانت قريبة جداً، فهو كان أقرب من عرفت من الأدباء للصدق والاتساق مع الذات، واضح وصريح، ولا يؤمن بأنصاف الحلول، وكان مندفعاً وطاقته مثل البركان، يخرج جمراً، لكنه يشع نوراً، كانت لديه قدرة غير طبيعية أن يغير ملامح وتضاريس ما يحيط به. كان بالنسبة لى الصديق الذى يحرم على حبه إلا كصديق أو إنسان، هل عمركم سمعتوا عن واحدة ممكن تحب زوج أختها، أنا بالنسبة لى الصداقة تحمل تلك الثوابت، الواحد ما ينفعش يتجوز صديقه ؟ أنا باشوف ده عيب!!، يتساوى معى الأمر بتربية البط، ينفع أربى بطة فى بيتى وأحبها وبعدين أذبحها وآكلها؟.. عيب أوى.. يبقى إزاى صاحبى واتجوزه؟.. الصداقة مرتبة أخرى من العلاقات الإنسانية لها روعتها ولا يصح خلطها بأشكال أخرى من العلاقات. الفكرة عند نادية لطفى لا تقف عند حدود ثابتة جامدة، فقدرتها على التحليل وربط الأمور ببعضها، ونسج فكرة من رحم أخرى يخلق دائماً طرحاً غير عادى، ويعطى لرأيها مذاقاً ممزوجاً بطعم الصدق والنضج..فمن حديثها عن العلاقة بالأصدقاء الأدباء، تغزل فكرة أخرى تعبر عنها قائلة : هذه تركيبتى الإنسانية، فأنا لا يمكن مثلاً أن أتورط فى علاقة بالسلطة !! والسلطة عندى لا تعنى المسئول السياسى فحسب، ولكن السلطة هى الضابط، المحامى، الدكتور..فهم رجال بالنسبة لى بلا ملامح، تربطنى بهم علاقة العمل، ولكن إذا خلع الضابط بدلته لا أعرفه، وإذا خلع الطبيب البالطو لا أعرفه أيضاً. والحقيقة أننى أتعجب كل العجب من نساء ولهن وضع اجتماعى وثقافى، ويتحدثن عن الرئيس بوصفه رجلا ويتغزلن فيه، مأساة أن أجد كاتبة تتغزل فى مقالها عن الرئيس وإعجابها به الذى يخرج عن كل الأطر الموضوعية بكونه رئيساً وليس رجلاً، مثل هذه الأمور لا أستسيغها وأراها تندرج تحت قائمة (العيب أوي).!! فالرئيس..لا علاقة لى بشبهه، ولا ملامحه، لا أتعاطف معه ولا يجوز أن تصبح العلاقة بينى كمواطنة وبينه قائمة على المعاملة أو الإعجاب الشخصى، الرئيس تربطنى به علاقة (تقييم مواقف وإدارة وطن وحقوق وواجبات)، فالرئيس يملك ما لا أملكه، لأن لديه القدرة على اتخاذ القرار بينما لا أستطيع أنا كمواطن اتخاذ القرار، الرئيس شخص منحته ثقتى، التى أضعها رهن الاختبار عبر الأيام، دائماً العلاقة السوية التى تربط الرئيس بالمواطن هى (البلد)، صان الوطن وحمى البلد، أقطع نفسى لمساندته، خذل ثقتى فيه، لا تسامح ولا يمكن يصعب عليّ.!! • وكمواطنة مصرية عاصرت رؤساء كثيرين، كيف تقيمين أو تعلقين على تجربة الرئيس السيسي؟ - بثقة ليست غريبة عنها، تقول حاسمة: (مازلت أرصده وأتأمل الموقف وأتمنى من كل قلبى إن الشعب المصري) ما ياخدش زومبة تانية (الشعب لا يحتمل فكرة الألم ولا الاستغلال ولا خيانة أمانة الوطن مرة أخرى، ولهذا علينا أن نكون أكثر حكمة وغير عاطفيين فى حكمنا على الأمور، وعلينا أن نأخذ بالحقائق والأفعال وليس بالكلام والمشاعر..لأن إللى بيتخان مرة..بيخاف، (واللى اتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادي).. والشعب المصرى (اتشوي)!! • أى من رؤساء مصر شعرت أنه بذل حياته لأجل مصر بحق؟ تصمت قليلاً.. وتقول بصراحة شديدة جداً: لدى تحفظات كثيرة على كل منهم، ولكن السادات كان أفضل من استوعبه عقلى، أما عبدالناصر فيمكن أن أقول أننى حيادية تجاهه، ولكن بالحسابات التى تخصنى، أقول أننى لم أسعد بتجربته، وأنه تسبب فى جرح عميق لا يمكن نسيانه، وصعب أن يكون فيه (فصال فى الدم وخيبة الأمل والوطن)، بصراحة مش قادرة أسامح فى نكسة 1967. ولكن بما أننى أعيش حياتى كما قلت لكم من قبل وأنا (باشغل) مافيولا دماغى، يمكننى القول إننى ثبت الصورة وعملت focus فى مرحلة عبد الناصر حتى بناء السد العالى. ألم أقل لكم أصعب شيء إن الروح تتعور، ما حدث فى 1967 جعل أرواح كثيرين (تتعور) مثل عبد الحليم وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور وبليغ حمدى، الوجع طال ناس كتير فى البلد. تتنهد نادية لطفى بعمق ثم تقول : عاوزين الحق ؟ مصر منكوبة فى رؤسائها وفى حاجات كثيرة !! وللأسف الخط البيانى فى انحدار..مع أن المصريين يستحقون الأفضل من تلك الحياة. فأنا مع مرور الزمن يزداد لدى اليقين أن الرهان الحقيقى على المواطن المصرى، على الرجل الغلبان فى الشارع، جملة قلتها فى الإذاعة البريطانية منذ أكثر من 15 سنة : (أذكى السياسيين فى مصر هو رجل الشارع المصري). بصراحة هو اللى أستأمنه على شرف البلد دى هو ابن البلد دى، ابن طين البلد المعجون بهموم وفساد وإيمان ومقاومة وغلب ومرض وكرامة، بداخله من الأعماق (استقتال) لأجل هذا البلد..وهذا هو من أسلم له نفسى. عارفين ليه ؟ وأجابت بطريقتها البديعة، بطاقة حب وتصديق لما تقول : (لأن الشتلة بتاعة الأرض اللى بتطلع المصرى من حضنها، شتلة نظيفة وأصيلة وجذورها أصيلة.. والنبتة مسيرها تطرح خير حلو). ألم نقل لكم أن هذه الفنانة بديعة الطلة والجوهر والفكرة تستحق عن جدارة أن تتربع على قائمة (المُعينين على الحياة) القادرين على إعطاء إشارات بأن الحياة بكل قسوتها وعبثيتها إلا أنها رائعة بوجودهم ؟! دفء وذكريات وأفكار (بولا) وسؤالها الحائر.لماذا لم تدخل السجن؟..فى العدد القادم. •