قد يختفون قليلا.. ويزحف الضوء المراوغ بعيدا عن تلك الوجوه المسكونة بالعشق، وقد تهاجر عصافير الأحلام فى زحمة الدنيا لبعض الوقت.. لكنهم يظلون طوال الوقت.. حالة فنية مدهشة لا تغادر الذاكرة.. ونقطة ضوء فى عتمة الليالى الفارغة.. يظلون دائما.. عرفته فى الميدان خلال ثورة 25 واشتهر بجملته «مصر جاية» كان دائما يبث روح التفاؤل، يحث الشباب على الصبر، يؤكد أن اليأس خيانة فى حق هذا الوطن، عندما طلبت منه حوارا للمجلة ردّ ببساطة «تحبى امتى أجيلكم المجلة»؟! فقلت له «ممكن آجى لحضرتك فى المكان اللى يناسبك.. فقال مستنكرا، أنا آتى للصبوحة دائما وبدون أسباب فلم لا آتى للحوار؟!، ضحكت وشكرته، وانتظرته فى الميعاد وبالفعل كان موجودا بالدقيقة، وكعادته.. فتح جميع الغرف ليسلم على من فيها. حكايتى مع الصبوحة لأن الصبوحة هى بيته الثانى على حد قوله.. كان يجب أن أسأله بعد أن طلب فنجاًنا من القهوة، متى كانت أول مرة دخلت فيها الصبوحة؟! ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة أخذت فى الاتساع، وشردت عيناه بعيدا وكأنه يسترجع ذكريات العمر الذى مر. قال: كنت شابا لم أبدأ التمثيل بعد، فمنذ صغرى وأنا باحث عن المعرفة، كما كنت عاشقا لأصحاب الصور المعلقة على حوائط المؤسسة، تعلمت منهم وكونوا أساس شخصيتى، فسألته اذكر لى أسماء أثرت بك بالتحديد؟ فقال على الفور.. «حسن فؤاد، عبدالرحمن الشرقاوى، رءوف عياد.. وكان صديقى محمد حمزة رحمه الله والرسام العظيم إبراهيم عبدالملاك.. ثم صمت لحظات ونقر بأصبعه على المكتب وتمتم «خسارة والله».. واستطرد: لكن أول مرة جئت صباح الخير وأنا ممثل.. كانت عام 1981 عندما كتب عنى فى بابه سماعى أنه ظن أننى مجرم استعان بى عاطف الطيب لأداء دور التخشيبة!!فذهبت لأشكره. من مخرج ناجح لممثل عبقرى سألته بعد ذلك عن سبب تغيير مساره من مخرج مسرحى ناجح لممثل يحترف أدوار الشر؟! قال «قلة عقل» وضحك بشدة ثم قال.. أستطيع أن أقول: إنه نوع من الاستشراف وكأنى أعلم أن مسرح الدولة فى طريقه للانهيار.. فاستوقفته، ولكنك تتحدث عن مرحلة.. كان المسرح فى أوج تألقه.. فرد بسرعة نعم.. صحيح وكنا نقوم بعروض رائعة، ورشحت لجوائز كثيرة.. وقدمت فرق الأقاليم مثل قنا وبورسعيد عروضا هائلة.. لكن كان ينتابنى شعور غريب دائما.. «الغيرة»، نعم.. كنت أغار من الممثل أثناء أداء عرضه أمام الجمهور.. وإعجاب وتصفيق الناس له.. فقررت أن أجرب التمثيل. سواق الأتوبيس عاطف الطيب، محمد خان، بشير الديك، سعيد مرزوق.. عملت مع هؤلاء، بل كانوا أصدقاء لك.. كيف أثر ذلك على شخصيتك؟ - ضحك وقال كما أثرت فيّ الصبوحة.. ساهموا جميعا فى تكوين شخصيتى وموهبتى.. فمثلا فيلم «سواق الأتوبيس» وقد قرأته فى ذلك الوقت بصفتى صديقا لبشير الديك.. فأعجبنى جدا، ثم صمت لحظات وكأنه يتذكر شيئا ثم أكمل.. الفنان الحق هو من يملك القدرة على الاستشراف.. وهذا العمل بالفعل تنبأ بانهيار المجتمع.. وهذا ذكاء بشير الديك وعبقرية عاطف الطيب.. هذا الرجل البسيط القريب من الناس وواقعهم. وعندما عرض عليّ عاطف وبشير القيام بدور «ضيف» أحببت الاسم والدور.. وهذا الدور بالتحديد كان السبب فى إصرارى على الاستمرار فى التمثيل.. فقد كنت أنا ونور الشريف وعاطف فى غرفة الدوبلاج نقوم بتركيب الصوت على الصورة وفجأة وجدت «نور» يضحك بشدة ويقول لعاطف «ناقص يطلعلنا من الشاشة» فسألته.. ماذا تقصد؟! فرد عليّ.. «لك حضور طاغ يا ابن الإيه». وقد عشت هذا الدور.. وعشت التفاصيل الصغيرة، بل أضفت تفاصيل لم تكن فى السيناريو. مثلا فى المشهد الذى أطلب يد أخت نور الشريف، وكنت أمسك فى يدى قروش وتعريفات، وكنا نصور طوال اليوم.. وبدأت من الإجهاد تتساقط من بين أصابعى.. حتى إننى انتظرت أن يعيد المخرج المشهد إلا أنه رفض.. وهذا المشهد درسه «الصبان» فى المعهد. المحاكمة أحسست بمرارة فى حديثه.. لا أعلم إن كان حزنا على أيام مضت ولن تعود أم إحساساً بداخله بأنه لم يأخذ حقه.. فسألته مباشرة.. ألم تشعر يوما أنك مظلوم؟! فرد فورا.. وقد اتسعت عيناه.. أبدا.. كل من حولى يقولون هذا ومقتنعون بذلك عدا واحد.. «حمدى الوزير». أولا هناك من تم تهميشهم وهم الأهم من حمدى الوزير.. «سعيد مرزوق» هذا العملاق.. أفضل مخرج فى مصر.. رجل غير قانونى بفيلميه «أريد حلا» و«المغتصبون».. يجب أن نصنع له تمثالا.. جئت من بورسعيد مجرد ولد صايع وأصبحت الآن مشهورا.. والناس تشير عليّ فى الشارع.. ثم إننى مقتنع بشيء.. أن الفنانين مثل الأنبياء.. يتعرضون للعذاب لكن يجب مهما حدث أن تصل رسالتهم. عزائى الوحيد.. هو وجود التقدير.. فهناك ثلاثة أضلاع.. لنجاح الفنان.. الحركة الفنية، المنتجون، الجمهور، أزعم أننى أملك الضلعين الأهم وهما النقد والجمهور.. فلم يشتمنى فى حياتى إلا ناقد واحد.. وكان على أبوشادى وقال.. «هذا الدور لايليق بإمكانيات حمدى الوزير فهو يملك الكثير».. وكان يقصد دورى فى فيلم «المحاكمة». وقد قلت هذا الكلام من قبل.. هنا فى صباح الخير.. لايهمنى رصيدى فى البنك.. ولا نوع العربية التى أركبها.. لكن يهمنى «وطن كويس» كما أنه يكفينى أن يأتى أحدهم فى الشارع ويقول لى.. «وحشتنا يا أستاذ».. فقلت هل سبب توقفك الفترة السابقة.. قاطعنى دون أن أكمل سؤالى.. قائلا: «أنا» لانشغالى بالشأن العام.. أكثر من حياتى الشخصية.. وانشغالى أيضا باحترامى لموهبتى ورغم المأساة التى عشناها فترة طويلة إلا أننى لا أيأس وأعلم أن القادم أفضل.. فهناك مقولة قرأتها وأنا فى طريقى من كلوت بك لسور الأزبكية سائرا على قدمى لأشترى بعض الكتب.. وكانت مكتوبة داخل دكان حلاق فوق مرآة مكسورة، «الإنسان الحق هو من يخلق من مأساته.. بداية جديدة» بإمضاء «طاغور» هذا الحلاق البسيط.. أعطانى مبدأ أسير عليه طول حياتى. تفاؤل سألته: هل تعتقد أن الفن أصبح تجاريا أكثر منه معبرا عن واقعنا الحقيقى؟! صمت لحظات وارتسمت على ملامحه الجدية.. وقال: يجب أن تعلمى أنه تم تجريف الفن المصرى خلال الخمسة عشر عاما الماضية.. بل تم تجريف العقل المصرى المبدع كله.. فى كل شيء.. لكن رغم كل هذا أقول «مصر جاية» وأنا متفائل.. لكن ما حدث فى العشرين سنة الأخيرة كان مهزلة.. حتى إنى قرأت للأستاذ «زكى نجيب محمود» مقولة قال بها: «نحن قادمون على زمن عملقة الأقزام» وقد حدث.. عملقوا الأقزام وقزموا العمالقة.. وانقلبت الآية.. لكن أنا متفائل بالقادم. المغتصبون هل تزعجك الألفاظ الخارجة فى الأعمال الفنية؟! فرد وهو يرتشف القهوة.. جدا.. قلت: لكنكم أول من بدأتم فى عرضها على الشاشة.. أنزل الفنجان ونظر لى طويلا ثم قال: لو تقصدين «يا ولاد الكلب» فى سواق الأتوبيس فقد كانت صرخة فى وجه الظلم والفساد والناس وقتها كانت تصرخ وتصفق بشكل غريب أنا مع الحرية دون سقف، وأنا اعتبر نفسى رجلاً مستنيراً.. ثم ينفعل فجأة ويقول: لكن أرفض الاستهانة بعقل المشاهد المصرى وبأخلاق المشاهد المصرى.. فأنا عملت أقوى مشاهد الاغتصاب فى السينما المصرية، لكن لاتوجد أى حركة خارجة ولا عرى ولا عمليات جنسية مثلا.. ورغم هذا عندما ظهرت صورتى فى نهاية فيلم المغتصبون احتقرت هذه الشخصية.. وفجأة وهو يتحدث وضع يده فوق رأسه وكأنه يشعر بالخزى.. وقال: هكذا فعلت وأنا أشاهد نهاية الفيلم فسألته.. هل كنت ندمان؟! إطلاقا «رد بحماس» بل أزعم أن فيلم المغتصبون من أهم أعمالى.. لكن بشكل عام.. لا أحب الفجاجة. ليالى الحلمية فسألته.. هو يعنى إيه سينما؟! فرد بسرعة.. السينما تعلم الأخلاق تغير فى الناس وسلوكياتهم.. تعرض المشكلة بحلها.. فقلت له: هل السينما ممكن أن تربى الناس؟! فرد.. بالطبع.. فقلت له لكن هناك من يقول إن ما وصلت به أخلاق المصريين الآن بسبب السينما!! فرد مستنكرا.. عندما قتل قابيل هابيل.. لم تكن هناك سينما.. يجب أن تكون هناك إرادة جماعية لتغيير السلوكيات فى هذا المجتمع.. تيار مجتمعى يسيطر ويقرر ثم يغيرّ. سألته متخوفة.. هل مشاهد الاغتصاب التى أديتها فى السينما.. جعلت الشباب يخاف من الاغتصاب أم جعلته يغتصب 12 فردا.. خاف طبعا فقلت لكن الشباب مازال يمارس الاغتصاب والتحرش فقال بسخرية.. لأنه فى أفلامى كنت مجرما، وكان يحكم عليّ بالإعدام.. أما الآن فهذا المجرم يصبح هو بطل الفيلم ويصفق له الناس!! ويكمل كلامه.. هل رأيتى سجن النسا أو الوصايا السبع؟! هل هذه أعمال تعبر عن الواقع المصرى؟! فقلت له نعم «سجن النسا» يمثل شريحة من المجتمع.. فقال طبعا لا.. فقلت له هؤلاء ضحايا ظروف حقيقية فى المجتمع المصرى فرد منفعلا.. يجب أن نأتى بالشرائح المقابلة ولانعرض السيئ فقط.. هذه الأعمال تفتت المجتمع.. رغم إعجابى الشديد بالمخرجة كاملة أبوذكرى والمخرج خالد مرعى.. لكنى لم أحب الموضوع، يجب أن تعلمى أن ليالى الحلمية عرضت والمجتمع يهترئ، لكنه كان مسلسلا يقوم المجتمع.. ويبث به القيم. البشاير سألته: هل المسلسل الذى تكتبته يتحدث الأحداث التى مرت بها مصر خلال الثلاث سنوات الماضية؟ فرد باقتضاب «نعم» ثم أكمل.. البشاير هذا اسم المسلسل.. ثم ضحك وقال هذه أول مرة أتحدث عنه.. وهو بالفعل عن الثلاث سنوات الأخيرة وعلاقة المواطن بالأمن قبل وبعد الثورة. الحرب لماذا أنت دائما تنفعل عندما نتحدث عن أى شيء يخص مستقبل الوطن؟! - اعتدل فى جلسته ونظر لى بحزن.. كنت طفلا بيتى يحترق فى بورسعيد وأمسك فى ذيل جلباب أمى وهى تحمل حسن أخى.. وتجرى والقنابل فى كل مكان.. وعندما أصبحت فى مرحلة الصبا «يادوب بحلم» حدثت نكسة 67 ثم حرب 73 وكونت فصيلة مقاومة شعبية.. ولم أكتف بذلك بل تطوعت فى الجيش رغم أن معى إعفاء رسمى من الجيش.. واستشهد على صدرى الشهيد «أحمد حمدي».•