أن تعيش داخل مساحة زمنية لا تتجاوز الخمس وأربعين دقيقة تمر بها على هموم تفترس قلوب نساء هذا المجتمع، كل وفق سيناريو حياتها واختلاف تفاصيلها.. خمس وأربعون دقيقة من تدفق صادق على خشبة المسرح تجبرنا على الانبهار به بمنتهى الرقة والقوة والإبداع والتلقائية.. الممثلة والمخرجة المسرحية دعاء حمزة فى مونودراما راقية «صح النوم» المأخوذة عن النص الإيطالى الأصلى «نوبة صحيان» لداريوفو.. ذلك النص الذى كان مغرياً لكثير من المبدعين أن يتعاملوا معه مسرحياً من قبل. «صح النوم» للمبدعة دعاء حمزة فى 2014 استوقفنى لشدة عمق بساطته وصدقه.. أما دعاء نفسها التى أعرفها على أصعدة ثقافية مختلفة خلال سنوات غير قليلة مضت فأصابتنى بدهشة الاكتشاف. «صح النوم» لقطة للسيدة الشابة البسيطة «أم إمام» التى تعمل فى مصنع، تصحو من نومها وتستعد للخروج برضيعها إلى العمل وفى لحظات شديدة الصدق والتلقائية تستعرض حياتها الزاخرة بتفاصيل كثيرها مؤلم ومحبط وموجع ممزوجة بسخرية لاذعة على حالها.. ورغم أن المسرحية مونودراما فإنها ليست بطولة دعاء حمزة فقط بل بطولة أغلب نساء هذا المجتمع المطحون، وهذا ما فعلته دعاء كمخرجة للمرة الأولى أن تنجح بوعيها وبحسها الإنسانى الراقى فى أن تنقل تجسيدها وكأنه لسان حال كل سيدة تشاهد نفسها كجزء أو تفصيلة من «أم إمام». ربما تكون هذه الحالة المتدفقة من المشاعر والأفكار التى نقلتها دعاء على خشبة المسرح يعود إلى علاقتها بهذا النص المسرحى منذ ما يزيد على ستة أعوام عندما قرأته وانبهرت به وبشخصية السيدة محور النص، وشعرت أنها ستمثل هذا النص يوماً ما، وكأن الرهان الضمنى الذى عقدته دعاء مع ذاتها، تحقق وفازت به. وقررت دعاء فى يناير 2014 أن تنجز هذا العمل، وقرأت النص المترجم بقلم الفنانة منحة البطراوي، وكان لدى دعاء شعور قوى بأنها تريد أن توصل معانى كثيرة من خلال هذا النص لا تخص هموم المرأة فحسب، بل هموم المواطن بشكل أو بآخر، ولهذا مر إعدادها للنص بمراحل متعددة أولها: الإحساس والانغماس داخل شخصية المرأة التى يفجر موقف نسيانها لمكان مفتاح شقتها وهى تستعد للخروج برضيعها إلى العمل مشاعر أخرى موازية ومتداخلة تمس علاقتها بزوجها وبجارتها وبحماتها وبالمجتمع والأهم.. علاقتها بنفسها. ولأن دعاء هى ممثلة العرض فكانت تعتمد على مدرسة الفنان أحمد كمال الذى تعلمت منه الكثير فى ستديو الممثل وهى مدرسة الارتجال، وقامت بعمل بروفات وحدها تماما، تسجل الصوت لنفسها وتسمعه، وترتجل ثانية، وتخرج كل ما فى جعبتها من مشاعر وأفكار لمدة شهر ونصف تقريبا، ثم قامت بعد ذلك بكتابة النص بعد أن استقر وجدانها على المعانى والجمل والتفاصيل التى تريد تطعيم النص بها. ومن يعرف دعاء حمزة ربما يصاب بدهشة الاكتشاف مثلي، عرفت دعاء شخصًا رقيقًا وخجولاً ومتواضعة لدرجة نكران الذات أحياناً.. رقتها تحولت إلى ثقة وسيطرة وتحكم بكل أدواتها على المسرح، صوتها الهادئ الخجول، يتحول على المسرح إلى غناء، وبهجة وتفاعل وحياة وصدق بكل كلمة تقال تواضعها هو سفيرها لتلك التلقائية المتدفقة، فهى تمثل بدون مجهود، تجبرك على المشاركة بحواسك لا مجرد المشاهدة. تتحرك على المسرح بحرية واضحة.. تدير مونولوجاتها مع الشخصيات الغائبة على المسرح وتلعب أدوارهم وتجسد أصواتهم وتنقلك من شخصية لأخرى ببراعة ناعمة. • هل هذه هى دعاء التى أعرفها، أو التى كنت أتصور أننى أعرفها؟ بعد أن انتهى العرض.. وجاءت لحظة تحية الجمهور، وتقديم فريق العمل وتحيتهم.. عادت صورة دعاء بخجلها وحمرة وجهها من شدة التواضع.. ما السر وراء أن تكون خشبة المسرح هى كلمة السر وراء ذلك التدفق الإنسانى الرائع الذى يكشف عن أعماق شخصيتين معاً.. شخصية بطلة «النص» وشخصية ممثلته ومخرجته؟! وقد حلت دعاء حمزة شفرة هذا التحول مفسرة: بدأت أتحسس طريقى نحو ذاتى عندما بدأت التمثيل عام 2009 واشتركت فى فرقة الورشة وتدربت على التمثيل والإخراج والحكى والكتابة والتعبير الحركى والسيكودراما فى ورش عديدة مع فنانين ومتخصصين مصريين وأجانب، وكانت من أهمهم ورشة ستديو الممثل مع الفنان أحمد كمال الذى علمنى شيئاً مهمّا، وهو كيف أبحث داخل نفسى عن طريق التفكير الحر والارتجال. أما الفنان حسن الجريتلى مؤسس فرقة الورشة فتعلمت منه فن «المواجهة» على خشبة المسرح الذى يشبه البحر، إما نغرق أو نسبح ونرتمى فى أحضان جمهوره!!. وربما تكون دراستى فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية قد أفادنى كثيرأ لأننى قرأت نصوصاً أدبية كثيرة ساهمت بلاشك فى التأثير الفنى والأدبي، ثم جاءت دراستى للتذوق الأدبى والدراسات الحرة بالمعهد العالى للفنون المسرحية كلها محطات ساهمت فى تشكيلي. يبقى أن الممارسة العملية هى معلم ومدرب آخر، فتجربة مسرحية الدرس 2009 التى حصلت فيها على جائزة، تختلف عن تجربة عروض الحكى التى عملتها مع المخرجة ريم حاتم فى «قوس قزح»، والتى كانت تتحدث عن علاقة المرأة بجسدها، ووقتها كنت حاملاً فى ابنتى فاطمة، وكتبت نصاً ضمن ورشة الكتابة بعنوان «فاطمة»، وجاءت سنوات الثورة وكانت أغلب العروض التى عملت بها هى «حكي» أكثر منها تعبير حركى مثل الحكى فى فرقة إسكندريللا ومع شعراء مثل أمين حداد وأحمد حداد، وهذا ما كانت تحتمه علينا طبيعة المرحلة «فالثورة وحكايات الشهداء والميدان كان يحكى عنها أكثر من كونها تجسد تمثيلا»، وجاء القرار من داخلى أننى لا أريد أن أتحدث عن الثورة كسياسة ولكن أردت أن أنتقل بها إلى «اللحم والدم» وهموم بنى آدمين وأوضاع مجتمع وقصص إنسانية لا تنتهي، ولهذا وجدت أن «صح النوم» هو الدافع للبداية فى ذلك الطريق. وسألت دعاء عن مساحات الحرية المتدفقة التى تنساب منها على المسرح فأجابتنى بدهشة مضافة قائلة: أعتقد أن السر والفضل الأساسى يعود إلى المسرح التفاعلى أو السيكودراما حيث إننى كنت محظوظة بورشة عمل حضرتها مع بيل ريفرز Bill Rivers هو مدرب ومعالج نفسى بالدراما.. برازيلى الجنسية، ومن خلال جلسات معه ساعدتنى فى التعرف على ملامح أكثر وضوحاً للذات الحقيقية، والتغلب على «التروما» التى كانت مسيطرة على لسنوات طويلة، وكيفية تخطيها. أنا بدأت التمثيل وأنا فى سن الثلاثين بسبب خوفى الدائم من أننى لن أستطيع، رغم عشقى للتمثيل ومشاهدتى الكثيرة للمسرح وللسينما، لكننى كنت أؤجل دائماً الخطوة بسبب الخوف.. وفجأة أصبح المسرح هو مكانى الآمن، بل مكانى الذى يجعلنى أشعر بأننى على راحتي، هو الذى يعطينى التوازن وتفريغ الطاقة بداخلي. تقول دعاء: «تسأليننى عن الحرية على المسرح»، أقول لك «إنى على خشبة المسرح بأقدر أعمل كل الحاجات إللى مش باقدر أعملها فى حياتى وبين الناس»، على المسرح «أنفعل، أغني، أشتم، أصرخ، أتجنن أعيش الانفعالات الإنسانية كما ينبغى أن تعاش فى لحظتها، وهذا ما لا أستطيع تطبيقه فى الحياة، بل ربما تجبرك الحياة أحياناً على الانفعالات المزيفة بما يخالف مشاعرك.. على المسرح أشعر أننى دعاء الحقيقية.. لهذا أشعر أن دفتى متجهة نحو التمثيل والمسرح». أسست دعاء حمزة فرقة مستقلة باسم «اللعبة» والتى من خلالها تم تقديم عرضها «صح النوم»، وعن سبب اختيارها لهذا الاسم أدهشتنى بفلسفتها قائلة: العرض المسرحى لعبة، أريد أن ألعب مع النص، ومع الجمهور بالتواصل معه خلال العرض، حتى الديكور، والأدوات على المسرح، تكون شديدة البساطة بحيث يصبح لكل أداة استخدامها أثناء العرض. إنها متعة الاكتشاف لأشخاص فى الحياة مازالت لديهم روعة الرؤية فى اللعب مع هذه الحياة، ودعاء حمزة واحدة من هؤلاء الذين يمتلكون الحس والتلقائية والصدق والحرية والإبداع.•