حاولت كثيرا أن أقاوم شعورى بالشماتة فى بياعين وسط البلد الذين تمت إزالتهم خلال الأسبوع الماضى.. الشماتة ليست لأنهم كانوا يحتلون الطريق ويمنعون مرور المشاة والسيارات، ولا لأنهم غيروا معالم المكان كله من التحرير إلى الإسعاف، ولا لأنهم زحفوا من وكالة البلح حتى احتلوا شارع 62 يوليو.. على الرغم من أن هذا كله كان يطردنى تماما من شوارع وسط البلد - أنا التى أعتبر نفسى مقيمة فيها.. الفوضى، والضوضاء، والزحام العشوائى كافية لطرد أى مقيم ومحب وزائر.. الحقيقة إن الشماتة كان لها سبب آخر وهو أن بائعى وسط البلد كانوا يهاجمون أى تجمع احتجاجى معارض سواء فى شكل مسيرة أو وقفات احتجاجية يهاجمونها بعنف مستخدمين وسائل تبدأ بزجاجات فارغة وتنتهى بطلقات خرطوش، مرورا بالشوم والسنج. محمود بسيونى: لا أتذكر متى بدأت هذه الظاهرة لكن لا أنسى أبدا المشاهد التى عشتها بنفسى آخرها عندما كنت أحاول الاختباء من الزجاجات المتطايرة - داخل أحد محال شارع محمود بسيونى، وكان صاحب المحل مصمما على طردنا «سيدة مسنة وشابتان وأنا» وإغلاق المحل بالباب الحديد حتى يحمى زجاج الواجهة من الكسر. ∎ حقه ثم لحظات هدوء سمحت لى بالمرور من الممر المؤدى إلى شارع قصر النيل، لأفاجأ أن نفس المشهد يتكرر هناك، زجاجات متطايرة من مجموعات قادمة من ميدان طلعت حرب تطارد فلول المسيرة التى كان قائدها قد أعلن بالفعل عن انتهائها وطلب من الجميع الانصراف. المشهد كان خاليا تماما من الشرطة، لا رجل بوليس ولا سيارة ولا مدرعة. هذا المشهد كان يتكرر وفى كل مرة كانت تخرج الأخبار فى كل وسائل الإعلام تؤكد أن أهالى المنطقة تصدوا للمسيرة أو للوقفة وكنت أعرف أن أهالى منطقة وسط البلد هم البياعين. ∎ من طلعت حرب لشريف بهذا الشعور الشرير بدأت السير فى شوارع وسط البلد بعد إزالة إشغالات الطريق بيومين رأيت مدرعتى جيش قبل أن أصل إلى ميدان طلعت حرب، أما الميدان نفسه فكان يستضيف عددا لا يقل عن 6 مدرعات شرطة، والشوارع المؤدية إليه تستقر فيها سيارات الأمن المركزى وجنوده. وعندما وصلت إلى تقاطع شريف مع 62 يوليو فوجئت بضباط شرطة يرتدون الزى الرسمى لا تقل رتبتهم عن عميد يجلسون على مقاعد فى الشارع ولم أر على طول المسافة لا «بائع» ولا «فرشة» ولا «ستاند» على رصيف. رأيت أمام سينما ريفولى سيارة نصف نقل تابعة لمحافظة القاهرة محملا عليها عربة فول تقليدية مكتوبا عليها «ألا بذكر الله تطمئن القلوب». نظرة واحدة كانت كافية لتصلنى رسالة أن ليس كل من تمت إزالتهم من نوعية واحدة، وبالتأكيد صاحب عربة الفول الواقف بجوار سينما ريفولى لم يشارك فى الاعتداء على متظاهرين سلميين، كما أنه فى الغالب لم يتسبب فى تعطيل المرور. يبدو أن نظرة واحدة كانت كافية لأبدأ فى التعاطف. ∎ دار القضاء العالى عند السور المجاور لباب محكمة النقض قابلت أول «فرشة» كتب متراصة فوق السور يقف بجوارها شاب قال لى إنه يقف فى هذا المكان منذ سنة 9991، وقال إن الحكومة لا تفرق بين «البياعين» حتى من لديه ترخيص يمنعونه من الوقوف. قال: يوجد ضابط بيقول أنا عارف أن مش كل الناس زى بعضها بس أنا عندى إللى أكبر منى وما أقدرش أخالف أوامره، وفى ضابط بيهاجم ويغلس ويقول الكتب بتاعتك والشارع بتاعى وأنا أعرف إزاى أمنعك تقف فى الشارع بتاعى. رفض محدثى أن يخبرنى باسمه ورفض التصوير قلت له: أنا أعتقد أن الحكومة كانت بتسمح وبتشجع زيادة عدد البياعين فى وسط البلد عشان يهاجموا المظاهرات، قال لى: تماما، قلت له: أنت كنت بتضرب المظاهرات، هز رأسه نافيا وقال بابتسامة واثقة بالعكس. حاولت تهدئته وحاول زميله وبدأ آخرون فى التجمع حولنا، وأوضح لى الشاب الهادئ سبب انفعال زميله «أصلهم بدأوا يقولوا على أى معترض أنه إخوان، الأول قالوا البياعين بلطجية وبعدين قالوا البياعين إخوان. ∎ 62 يوليو قاطعه شاب وصل للتو قائلا: «الحكومة عارفة كويس أن إحنا إللى بنحميها، إحنا اللى بنتصدى للمظاهرات، إحنا إللى بنحافظ على المكان عشان الموظفين إللى بينفعونا قال ذلك حرفيا ورغم أنى كنت أعرف، إلا أننى فوجئت بإحساسه بالفخر. سألت أنت فارش فين، قال «هنا ده مكانى ومكان أخواتى، أنا فارش «توكة». شرح لى زميله أنه يقصد خردوات بأبيع الحاجة بجنيه ونص، مين إللى هيروح لحد الترجمان عشان يشترى حاجة بجنيه ونص. الزبون هنا ماشى فى طريقه عادى راجع من شغله بيقف يشترى حاجة مش فارق معاه لما ينقلنى من هنا يبقى أنا هاجوع». قال هذه الجملة بصوت أكثر ارتفاعا وتراجع خطوة للخلف فى حركة مسرحية فدخل آخر إلى المشهد، رجل مسن يحمل ملفاً من معهد القلب وقال بصوت قوى لا يناسب شكله. يا أستاذة.. يا أستاذة.. مين إللى وقف جنب الحكومة إلا البياعين، إحنا إللى وقفنا ضد الإرهاب هنا وفى التحرير وفى طلعت حرب، صح ولا أنا غلطان» سألته وهى الحكومة طلبت منكم تقفوا جنبها . قال: لأ ما حدش طلب مننا إحنا بنحمى أكل عيشنا. انفعل بشدة شاب أصغر سنا من الجميع وقال بصوت مرتفع «شارع فؤاد، الإسعاف، الوكالة» إحنا إللى حمينا الحكومة، والحكومة كانت بتستخبى، الناس لازم تفهم والحكومة عارفة نفسها أيام حسنى كان الرزق كتير وكنا بندفع رشوة للحكومة عشان نفرش ييجى العسكرى يقولك الضابط عايز كارت شحن.. نجيب، الضابط عايز فانوس للعربية.. نجيب، وساعات يأخذونا على القسم ويدفعونا غرامة، وكنا راضيين على كده لكن نروح الترجمان.. لأ.. مرفوض هافرش لمين هناك، وآكل منين لحد ما رجل الزبون تاخد على هناك كانت الجملة الأخيرة ردا على كل محاولاتى الفاشلة بإقناع كل من قابلت أن الترجمان ستصبح سوقا يذهب إليها الزبائن خصيصا وأن من مصلحة الجميع حجز أماكنهم قال لى أحدهم أنا حاجز مكان هناك، بس ما فرشتش أنا عملت كده زى ما تسمعى أن فى أرض رخيصة وتشتريها وتسوريها وتستنى لما المكان يتعمر!! قاطعه آخر «اللى معاه يقول كده، لكن اللى رزقه يوم بيوم يعمل إيه يأكل عياله منين، أنا ابنى عنده 3 سنين يعنى لازم لما يعوز حاجة أدى له الطاق طاقين». قبل أن أتركهم وانتقل إلى الترجمان طلبت منهم أن يقترحوا حلا للأزمة. فاقترح أحدهم أن تحدد لهم أماكن على الأرصفة لا تحتل الرصيف كله، وأن يدفعوا مقابل المكان للمحافظة 006 جنيه أو 007 شهريا، حيث إن المطلوب منهم الآن دفع 003 جنيه للمكان المعرض للشمس فى الترجمان و054 جنيها شهريا للمكان المضلل. قال آخر إحنا هنعمل وقفة سلمية تانى النهاردة وكرر سلمية مشيرا بيده بما يدل على إنها فارغة. ∎ الترجمان عندما وصلت الترجمان لاحظت أن المكان بالفعل بعيدا عن المارة، لكن إجراءات تسجيل الأسماء والأماكن تتم حتى المعترض على المكان يسجل اسمه ويقدم صورة بطاقته الشخصية قال لى أحدهم عندما لاحظ أننى أقوم بتصوير مجموعة من الكتب مفروشة على الأرض، والنبى تحكمى أنت، مين إللى هييجى هنا عشان يشترى حاجة ممكن يلاقيها فى مكان تانى فى طريقة، الفرش فى كل الشوارع، إحنا بس إللى عملوا معانا كده. ثم بدأ وصلة إحنا إللى حمينا الحكومة. هذه المعلومة التى كنت أعتقد أنها سر سأكشفه بقدرتى على محاصرة البياعين بالأسئلة ففوجئت أنها موال يردده أغلبهم رجالا ونساء وعندما حاولت أن أعرف أسرار عملهم، فشلت تماما كنت أسأل الواحد بعد الآخر، مش أنتم بتشتغلوا مع معلمين؟ أو مين إللى بيفرش بيدفع أرضية لحد معين مسئول منكم عن تنظيم المكان؟ أنكروا جميعا وحاولوا إقناعى أنهم تحديدا بياعى 62 يوليو لا يتبعون هذا النظام وأنهم يتركون كل إللى عايز يسترزق وخصوصا بعد الثورة. أحدهم فلتت منه جملة وتراجع عنها سريعا قال «أنا كان ممكن أقول لواحد ما تفرشش هنا ألاقيه غارس مطواة فى جنبى» فسألته مندهشة يعنى إنتو كمان بتخافوا تغيرت لهجته وصوته تماما وقال «نخاف من مين يا ماما، بنقولك بنسيب الناس تاكل عيش، الناس دى أغلبها معاها شهادات عالية!! سأل أحدهم زميله مين الراجل إللى جاى ده مشيرا إلى رجل يرتدى بدلة كاملة ويحيط به ضباط الشرطة فأجابه إزاى يا راجل مش عارفة، ده نائب المحافظ إللى بييجى «يسجدنا» ويمشى.∎