اليقين الوحيد فى مصر اليوم هو أن «المياه» أصبحت حياة أو موتا، والمحزن جدا أن الناس لا يشعرون بأهمية «الماء» إلا عندما يعطشون، فالإنسان لا يستطيع إنتاج الطعام بدون ماء، ولكنه يستطيع أن يزرع وينتج الطعام بدون بترول، فهناك بدائل للبترول لكن لا توجد بدائل للماء، وهو ما يؤكد أن الماء مهم جدا للأمن القومى المصرى، وهو ما لا يستبعد احتمالية حدوث العمليات العسكرية السريعة ضد السدود والمنشآت المائية التى قد تؤدى إلى نقص جريان مياه النيل إلى مصر.. أمام كل هذا ماذا نحن فاعلون ؟؟ هل نهر النيل يمثل الاهتمام الرئيسى لكل حكومة مصرية ؟
لقد شكل النيل على مدى التاريخ حياة الشعب المصرى وعقائده وعاداته وحضارته، ذلك النهر الذى يعتبر أطول أنهار العالم «6825 كم» تقريبا، ولذلك يقال دائما «إن مصر هى النيل.. والنيل هو مصر»، فهو الذى شَكَّل ثقافة مصر عبر آلاف السنين، وبدون النيل سيتغير وجه الحياة على أرض مصر تماما ..وهو ما يجب أن يدركه المسولون فى مصر !!
تشير دراسة لمنظمة الصحة العالمية أن الماء ضرورة حياة ويكفى أن الحد الأدنى اللازم للمحافظة على حياة الإنسان يبلغ «1200 لتر» من الماء فى اليوم، هذا ما يلزمه لشرابه، وإنتاج رطلين ونصف الرطل من الخبز هى قوت يومه، هذا غير الخضر والفاكهة وما إليها، وفى دراسة دولية أخرى ذكرها «جون بولوك» فى كتابه «حروب المياه» أن نقص المياه يشكل أكثر المخاطر على حياة الإنسان، ويذكر مقارنة مرعبة عن نقص المياه فى مصر فدولة مثل «كندا» التى تبلغ كثافتها السكانية «4 أفراد فى الكيلو متر المربع» يتوافر فيها لكل لفرد «12.000 متر مكعب من المياه فى العام»، بينما «مصر» التى تبلغ كثافتها السكانية «90 فردا فى الكيلومتر المربع» يتوافر لكل فرد «1200 متر مكعب» من المياه فى العام فقط !!
∎ هل تتعرض مصر لمجاعات ؟!
هى حقيقة لا مفر منها وهى أن الزيادة السكانية مع نقص المياه ستجعل من «حروب المياه» قادمة لا محال، ويرى خبراء المياه أن السنوات القادمة ستشهد مشاكل حادة فى الصراع على المياه مثل «هجوم مسلح - غارات جوية - احتلال مصادر المياه - هدم السدود والمشروعات المائية.. الخ»، وستزداد مشكلة «نقص المياه» فى مصر بمرور الوقت حيث يذهب أكثر من «90٪» من استهلاك المياه إلى الزراعة، بالإضافة إلى الزيادة الرهيبة فى عدد السكان والتى قد تصل إلى «100 مليون نسمة» فى السنوات القليلة القادمة، وسوف تكون «المدن» من أكثر الأماكن خطراً بالنسبة لمشكلة نقص المياه، حيث يتوقع أن يكون أكثر من «90٪» من النمو السكانى فى المناطق الحضرية فى الدول النامية ومنها «مصر» التى تعانى بالفعل من «نقص المياه» وتلوث مصادر مياه الشرب.
طبقا لتقرير الأممالمتحدة هناك «25 دولة» تعانى بالفعل من نقص مزمن فى المياه، وسوف يزداد هذا الرقم بانتظام حتى يصل إلى «90 دولة» عند بدايات القرن الحادى والعشرين، وحينئذ سوف يتأثر نصف سكان العالم بمشكلة نقص المياه، ونتيجة لذلك سيكون هناك نحو «5 مليارات شخص» مهددين بسوء التغذية والمجاعة والمرض، وطبقا لتقارير الصندوق الدولى للطفولة التابع للأمم المتحدة، أن هناك «35.000 طفل» على مستوى العالم يموتون يوميا بسبب الجوع والمرض والذى يحدث بسبب نقص وتلوث المياه.
بالتأكيد مع الزيادة السكانية الرهيبة فى مصر سيزداد نقص المياه، وسيستهلك الشخص العادى أكثر من ضعف استهلاكه فى الوقت الحالى، ولن يبقى للفرد من الناس إلا مساحة ضئيلة أضيف من أن تكفى صاحبها للغذاء والمعيشة وحتى الحياة، فلا أحد ينكر أن مصر اليوم تعانى وبشدة من نقص المياه، لأن الخطير فى مشكلة الزيادة الهائلة فى عدد السكان والمستمرة والتى لا يزيد معها الماء والغذاء وغير ذلك، هو الذى جعل الكثير من العلماء والخبراء يحذرون من تعرض المصريين لمجاعة شاملة حيث نقص شديد فى الماء وعدم وجود ثروات وغذاء وفير يكفى هذه الأعداد الهائلة من السكان.
∎ التغيرات المناخية.. والموت جوعا
هل يهتم علماؤنا فى مصر بخطورة تأثير «التغيرات المناخية» التى تؤدى إلى زيادة الاحتياجات المائية للمحاصيل الزراعية ؟ الله أعلم !! خاصة إذا ما عرفنا أن الزراعة تستخدم حوالى «84٪» من مواردنا المائية، فهل نحن فى مصر نستخدم كل ما يمكن من أساليب علمية وتكنولوجية للمحافظة على الماء والتوعية بأهمية كل قطرة ماء ؟ الله أعلم وإن كنت أرى أننا لا نستخدم ولا نعمل شيئا ولا يحزنون !!
خاصة أننا نعلم فى مصر أن إيراد نهر النيل يشكل «95٪» من مواردنا المائية، وأن هناك خطورة بالغة من تأثير «التغيرات المناخية» والتى من المتوقع أن تؤدى إلى ارتفاع فى درجة الحرارة نحو «4 درجات» وأن ذلك سوف يؤدى إلى نقص فى محصول «القمح» فى مصر من ذات المساحة المنزرعة بما يزيد على «19٪» ونقص فى الاحتياج المائى بمقدار «1٪»، وهذا معناه زيادة كمية المياه اللازمة لإنتاج نفس كمية الحبوب من القمح بمقدار «18٪» لرى أراضٍ جديدة لتعويض النقص فى كمية القمح، فهل نحن فى مصر أسرعنا لإنتاج أصناف من الحبوب والمحاصيل لا تتأثر إنتاجيتها بارتفاع درجة الحرارة دون زيادة فى احتياجاتها المائية مستفيدين من علوم الهندسة الوراثية فى هذا المجال ؟ أما أننا مازلنا نهتم بالموضوعات التافهة لأننا مجتمع تافه لا يؤمن بالعلم ؟!!
لماذا نسرف فى استخدام المياه رغم أننا ندرك تماما أن الماء هو الحياة ؟
وهى سلعة نادرة ونفيسة وبدونها لا يستطيع الإنسان أن يعيش يوما أو يومين على الأكثر، خاصة أن الإسراف فى المياه يرجع إلى أمور عديدة منها سهولة الحصول عليها بثمن رخيص، عدم وجود الوعى لدى الناس بأهمية الماء، كما لا يقوم رجال الفكر والثقافة والدين والإعلام بتوعية الناس بخطورة المشكلة، وحتى إذا كانت هناك توعية للناس فإنهم للأسف الشديد لا يلتزمون إلا عندما يعطشون ولا يجدون الماء لأن ليس له بديل، والمشكلة أنه ليست هناك محاكمات رادعة لإلقاء المخلفات والحيوانات النافقة فى مياه النيل واعتبارها «جريمة» يحاسب عليها القانون، ولا الإسراف فى استخدام خراطيم المياه فى غسيل السيارات وشبكات توزيع المياه المتهالكة، وسوء استخدام المياه فى الزراعة وغير ذلك، وزيادة الاستهلاك مع تزايد السكان وحركة البناء والتعمير التى تشهدها البلاد، مما يحتم تقنين استخدام المياه وترشيدها فى المرافق العامة.
∎ الجفاف.. والمزاج القومى المصرى
يؤكد الباحث «جون بولوك» فى كتابه «حروب المياه» أن المصريين لم يدركوا خطورة مشكلة الماء وأن الماء هو الحياة، إلا فى فترات الجفاف الشديدة التى مرت بها مصر فى أواخر عقد السبعينيات والثمانينيات، عندما انخفض منسوب الماء فى النيل إلى ادنى مستوى، وهدد الكثير من الزراعات بالتلف، وتوقفت محطات القوى الكهرومائية والصناعات والنقل النهرى والسياحة وغيرها، كما تأثر الاقتصاد القومى، ومعروف تاريخيا أنه فى يوليو عام 1988 اضطرت مصر إلى سحب (10 مليارات متر مكعب) من مجموع (17 مليار متر مكعب) مخزنا كمخزون استراتيجى فى بحيرة ناصر، ذلك الخزان الضخم الذى كونه السد العالى داخل النهر الرئيسى، حيث عانت مصر ودول حوض النيل خلال فترة الثمانينيات من «جفاف شديد» دامت ثمانى سنوات.
كان من نتيجة ذلك أن غيرت سنوات «الجفاف» من المزاج القومى المصرى، واهتزت ثقة الناس فى النيل، وللمرة الأولى بدأ الناس يشعرون بالقلق بسبب أزمة المياه، وأصبح المصريون يدركون أن النيل ليس آمنا أو منيعا من التدخل الخارجى، وتولد اهتمام قومى بالأزمة وأن «أمن الماء المصرى يجب أن يكون على قمة الأولويات القومية»، وأن هناك من الأعداء من يحاولون استغلال مياه النيل لإضعاف مصر، وللأسف الشديد فإن مصر من أكثر مناطق العالم نقصا فى الغذاء، ويكفى أنها تستورد فى الوقت الحاضر تقريبا نحو من «60 - 70٪» من احتياجاتها من الغذاء وهى الدولة التى يعتمد اقتصادها على الزراعة، وهى تكلفة باهظة الثمن تدفعها مصر بمليارات الدولارات.
لكل هذا يحذر «ليستر براون» مدير معهد سياسات الأرض من أن هناك عدم اهتمام عالمى بأهمية الماء، فالناس لا يشعرون بأهمية الماء إلا عندما يعطشون، وسوء الفهم الخطير أن الناس يعتقدون أن الماء فقط هو ماء الشرب، وينسون أن الماء الأهم هو ماء الطعام والزراعة للحبوب والمحاصيل وتربية الماشية وللصناعة والتعمير والحياة عموما، ويكفى أن الشخص يشرب «4 لترات ماء» فى اليوم هذا فى المتوسط، بينما يحتاج الطعام الذى يأكله الشخص كل يوم لآلاف اللترات من الماء.
وبعد..
يقول «ليستر براون» فى كتابه «عالم على حافة الهاوية» إننا نحتاج إلى كرة أرضية ونصف كرة أرضية أخرى لتلبية مستوى الاستهلاك الذى وصلنا إليه، لأن المؤسف فى موضوع الاستهلاك هو ما وصل إليه العالم اليوم، فعبر التاريخ ظل الإنسان يستهلك، لكن لم يحدث أن صار الاستهلاك هدفا فى حد ذاته مثلما يحدث الآن !!