لا أعتقد أن اللجنة التى كونها مجلس الشورى لمراجعة طلبات الصحفيين فى الترشح لمنصب رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة، قد استدعت أستاذنا الفاضل محمد حسنين هيكل وهو بحق شيخ شيوخ الصحفيين.
تقول اللجنة ويصرح رئيسها فى التليفزيونات والإذاعة والصحافة أنها استمعت إلى آراء شيوخ الصحافة لتسترشد بها فى وضع الأسس والمعايير التى على أساسها سيتم اختيار القيادات الجديدة للصحف والمجلات فى مصر.. وأستطيع أن أؤكد أنها استمعت إلى اثنين أو ثلاثة من كبار الصحفيين ولكنها لم تستمع إلى شيوخ الصحفيين أو شيخ الشيوخ محمد حسنين هيكل، لأنها لو فعلت لما كانت خرجت علينا بالآلية الخايبة لاختيار رؤساء التحرير أو رؤساء مجالس الإدارة التى تحاول تطبيقها رغم عدم رضاء الجماعة الصحفية عنها.
والحكاية تعود ببساطة إلى يوم 42 مايو عام 0691، عندما اصدر الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قرار تنظيم الصحافة، وحرص على اختيار لفظ «تنظيم»، وهو يقوم بالفعل بعملية تأميم للدور الصحفية التى أنشأها أفراد من مالهم الخاص، وبذلوا فيها جهودا كبيرة حتى تصبح مؤسسات صحفية عربية، تماما مثل المؤسسات الصحفية فى أعرق الديمقراطيات إنجلترا مثلا.
وبذكاء شديد أو إن شئت الدقة بدهاء شديد قام بتعيين أصحاب هذه المؤسسات كرؤساء مجالس إدارة بمرتب سنوى لا يزيد على خمسة آلاف جنيه مصرى فقط لا غير، وقد كان ذلك هو الحد الأقصى للأجور فى ذلك الزمان.
ورضخ الكل للقرار، وما كانوا يستطيعون عمل أى شىء إلا الرضوخ للقرار وتنفيذه.. ولم يكتب أحد عن هذا التصرف حتى بعد رحيل جمال عبدالناصر، وتولى السادات ثم حسنى مبارك مقاليد الحكم.
كان هناك حوار دائم حول إدارة القطاع العام، وإدارة القطاع الخاص، ثم نبتت فكرة فى بداية التسعينيات للنهوض بالقطاع العام، وذلك بتكوين مجالس إدارة لها صلاحيات تجعلها تدير القطاع العام بعقلية القطاع الخاص، وسمى هذا العمل بقطاع الأعمال.. كان ذلك كله يجرى فى المؤسسات العامة والتى بدأ الحوار حول بيعها لأن القطاع الخاص أقدر على إدارة الشركات والنهوض بها، وبدأ البعض يتحدث عن ما الذى يغرى الناس على شراء الشركات الخسرانة لابد من النهوض بهذه الشركات قبل عرضها للبيع.
عشنا كل هذه المراحل بخصوص القطاع العام والقطاع الخاص وقطاع الأعمال.. وعندما كان الحديث يمس الصحافة لم يجرؤ أحد على المساس بها أو تصنيفها كقطاع عام أو خاص أو قطاع أعمال، ولكن اكتفى الجميع بأن الاتحاد القومى فى البداية مارس حق الملكية للصحف القومية، ثم مارسها الاتحاد الاشتراكى، وعندما أجرى الرئيس السادات التحول من النظام الاشتراكى إلى النظام الرأسمالى ظلت الصحافة مملوكة للدولة من خلال مباشرة مجلس الشورى إجراء التعديلات أو التغييرات الصحفية من حين إلى حين، وذلك من خلال اختيار رئيس مجلس إدارة ثم يترك له أمر اختيار رؤساء التحرير. كان ذلك هو الحال فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر الذى قام بإجراء تغييرات صحفية أبقت المؤسسات الصحفية فى قبضته من خلال رئيس مجلس الإدارة الذى يختاره بنفسه، ولكن يوجد فى داخل المؤسسات الصحفية جهاز رقابة تابع لرياسة الجمهورية من خلال وزارة الإعلام، يقوم بقراءة جميع الموضوعات حتى ما يكتبه رؤساء التحرير أو رئيس مجلس الإدارة قبل النشر.
وكانت رقابة دقيقة جدا تدقق فى الكلمة، أذكر أن زميلى عبدالله الطوخى كتب قصة ذكر فيها طمى النيل الذى يأتى مع الفيضان، ففوجئت بالرقيب يطلب منى شطب كلمة « طمى » وتغييرها إلى طين حتى تنشر القصة، رجعت إلى زميلى عبدالله الذى وافق على التغيير ونشرت، ولما استفسرت من الرقيب عن سبب حذف كلمة «طمى» قال لى : حتى لا نذكر الناس بأن الطمى لم يعد يجىء مع الفيضان بعد بناء السد العالى!
إلى هذا الحد كانت الرقابة على الصحف فى زمن جمال عبدالناصر . أما الرئيس السادات فقد اختار طريقة أكثر دهاء للرقابة، ألغى جهاز الرقابة على الصحف فى مشهد رائع حول إطلاق الحريات، ولكنه اختار رؤساء تحرير للجرائد والمجلات يقومون بأنفسهم بعملية الرقابة، واختار لنا فى روزاليوسف مديرا لتحرير المجلتين روزاليوسف وصباح الخير، حتى يقرأ كل ما ينشر قبل نشره.
وقال جملته الشهيرة للأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى: - أنا يا عبدالرحمن راح أجيب مدير تحرير للمجلتين حتى لا أقرأهما. وهنا يجب أن نرصد أن نجاح المجلتين فى عهد عبدالرحمن الشرقاوى وارتفاع التوزيع كان سببا فى تغيير القيادات.
وفعلا تحققت نبوءة السادات بعد التغيير، فانصرف القراء عن المجلتين وبعد أن كنا نوزع 561 ألف نسخة أسبوعيا لروزاليوسف، و551 ألف نسخة أسبوعيا من صباح الخير هبطنا فى أسابيع قليلة إلى تسعة آلاف لروزاليوسف و81 ألف نسخة لصباح الخير . هذه الأمور وتلك الأوضاع لا يعرفها أعضاء مجلس الشورى الذى كونوا لجنة لوضع آلية تعيين رؤساء التحرير، وأيضا لا يعرفون تجارب أخرى جرت فى مؤسسات صحفية أخرى.. والذى لا يعلمه أعضاء مجلس الشورى الذى يمارس حق الملكية على المؤسسات الصحفية القومية، وأن كل مؤسسة صحفية أدرى بشئونها ، وأوجاعها وآلامها، ولهذا كان عليهم أن يستمعوا إلى أبناء هذه المؤسسات وشيوخهم بدلا من فتح شهية المتطلعين للمناصب بالتقدم لها.
وأعتقد أن بعض المجلات وبعض الصحف اليومية رفض من فيها التقدم للمنصب بما فيهم القيادات، وهذا أمر حميد وموقف رائع من الأسر الصحفية لهذه المجلات وتلك الصحف اليومية. وبعد استعراض الأوضاع الصحفية السابقة، أحب أن أشير إلى أن المطلوب من مجلس الشورى الحالى أو القادم، أن يكف عن تلك الآليات الخايبة، ويبحث عن فكرة نابعة من الجماعة الصحفية التى تفرز قيادتها بأنفسها.
فنحن العاملون بالمؤسسات الصحفية عندما نستقبل القادمين الجدد من خريجى كليات الإعلام أو الكليات الأخرى، فإننا ندقق فيما يكتبون ونراقب سلوكهم وتصرفاتهم وهم يقترحون، وهم يقومون بتنفيذ اقتراحاتهم، ونراجع اللغة التى يكتبون بها ومدى تمكنهم منها، ومدى التزامهم بالمواعيد ومدى تحمسهم للعمل، وقدرتهم على مواجهة الصعاب والتغلب على المعوقات.
اختيارنا للقيادات يجىء بعد معايشة يومية وأسبوعية للصحفى فى عمله وسلوكه مع زملائه، والتزامه فى العمل والمواعيد وطباعه، وتصرفاته مع من هم أكبر سنا، ومع من هم فى مراكز غير صحفية أى يعملون فى الإدارة أو فى المطابع.. فرئيس التحرير يا حضرات السادة أعضاء اللجنة هو قائد إدارى وصحفى وفنان يتعامل مع أسرة التحرير كل حسب قدراته وحسب موهبته حتى يستخرج من كل فرد من أفراد أسرة التحرير أفضل ما فيه، وأحسن ما لديه.
إن اختيار رئيس التحرير ليس من قراءة كتاباته أو معرفة سيرته الذاتية، ولكن من معايشته يوما بيوم وأسبوعا بعد أسبوع وشهرا بشهر وسنة بعد أخرى لسنوات عديدة حتى نشير إليه ونقول هذا يصلح سكرتيرا للتحرير أو مديرا للتحرير أو رئيسا للتحرير ! إننى شخصيا عملت فى مجلة صباح الخير منذ بدايتها وشهدت صدور عددها الأول يوم 21 يناير عام 6591، وعايشت زملائى، وعندما جاء الوقت أزعم أننى قدمت للصحافة المصرية رؤساء تحرير تولوا رئاسة تحرير مجلة صباح الخير أو مجلات أخرى مثل حواء والكواكب، وبعضهم تولى رئاسة التحرير فى جرائد لبنان وفى جرائد الخليج وجرائد ومجلات المملكة العربية السعودية، وأعتقد أنهم جميعا نجحوا فى عملهم لأنهم تربوا فى مدرسة روزاليوسف التى أسستها فاطمة اليوسف التى لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة، ولكنها كانت تحسن اختيار رؤساء التحرير، فاختارت عباس محمود العقاد رئيسا للتحرير، واختارت محمد التابعى رئيسا للتحرير، وعندما تخرج ابنها من كلية الحقوق قالت له لن أعينك فى روزاليوسف إلا بعد أن تثبت نجاحك فى صحف أخرى غير روزاليوسف.
فذهب إلى دار الهلال وهناك نجح فى مجلة الاثنين والدنيا ومجلة المصور، وكان يكتب فيها باسم مستعار هو سانو، وبعدها جاء إلى روزاليوسف فعينته رئيسا للتحرير وراقبته وهو ينمو كصحفى صغير حتى أصبح اسما كبيرا فى عالم الصحافة المصرية.. ولست أغالى إذا قلت أن معظم الذين اشتهروا فى الصحافة المصرية كانوا من تلاميذ مدرسة روزاليوسف الصحفية. فمثلا التابعى ومحمد حسنين هيكل ود. محمود عزمى ومصطفى وعلى أمين وأحمد بهاء الدين ويوسف السباعى ومحمود السعدنى، وفتحى غانم، وكامل زهيرى، ومحمد عودة، كل هؤلاء وغيرهم تربوا فى مدرسة روزاليوسف وتركوها ليبنوا مؤسسات أخرى مثل أخبار اليوم ودار التحرير. كما أن اليوم العديد من أبناء روزاليوسف ينتشرون فى القنوات التليفزيونية مثل مفيد فوزى وعادل حمودة وإبراهيم عيسى وعمرو خفاجى ومحمود سعد وجمعيهم تربوا فى مدرسة روزاليوسف.
إن اختيار رؤساء التحرير أمر لا يجب إسناده إلى لجنة من أعضاء مجلس الشورى الذى يمارس حق الملكية، ولكن يجب إسناده إلى شيوخ المهنة فى كل مؤسسة صحفية فهم الذين مارسوا، وهم الذين يعرفون القيادات الصحفية، وهم الذين يستطيعون ترشيح رؤساء تحرير ناجحين للمجلات والصحف القومية.
ولهذا فإننى اقترح على اللجنة المشكلة لاختيار رؤساء التحرير إرسال الملفات التى تلقوها من المتطلعين إلى شيوخ الصحافة فى كل مؤسسة لإبداء الرأى فى أصحاب هذه الملفات، وسؤال شيوخ كل مؤسسة عمن يصلح لرئاسة التحرير أو قيادة المؤسسة، إن شيوخ الصحافة فى كل مؤسسة أدرى بأبنائها وأدرى بقدرات كل فرد فى المؤسسة، أما المجلات والجرائد التى رفض من فيها التقدم لشغل المنصب فأعتقد أن هذا رأى عام يجب احترامه، وهو الإبقاء على القيادات القائمة التى لم يتقدم أحد من الأسرة لشغل المنصب، إنه إصرار على أن القيادات الحالية هى الأصلح للاستمرار. وإذا لم يعجبهم هذا الاقتراح فعليهم اقتراح ما هو أفضل، أما الاستمرار على التعيين من خلال تلك الآلية الخايبة، فهو استمرار ليس فقط لممارسة حق الملكية، ولكنه استمرار لحق التصرف وهو أمر ترفضه الجماعة الصحفية، وقد عبرت عن ذلك باحتجاجاتها الواضحة، وهو أمر لابد لمجلس الشورى أن يأخذه فى الاعتبار.