صدرت فى إسرائيل ترجمة عربية «عن دار المشرق للطباعة والنشر فى شفا عمرو» لكتاب البروفيسور ساسون سوميخ - 79 عاما الذى يحمل عنوان «بغداد أمس» الذى يروى فيه ذكرياته، عن السبعة عشر عاما الأولى من حياته، التى عاشها فى بغداد منذ 1933 حيث ولد إلى سنة 1951 عندما أقلعت طائرة من بغداد إلى إسرائيل مباشرة، فى 12 مارس 1951 مع 250 آخرين، حيث لم يعد أبدا إلى البلد الذى عاش فيه أجداده منذ أكثر من ألفى عام خلت كما يؤكد هذا التاريخ أكثر من مرة.
ويؤكد التاريخ أحيانا بأنها أقدم جالية يهودية فى العالم، يعود عمرها إلى العصر البابلى. وينبه أنه فى عامى 50 و51، هاجر معظم أفراد الجالية اليهودية العراقية بعد صدور قانون إسقاط الجنسية العراقية عنهم، هاجروا إلى إسرائيل بالذات، وقلة إلى دول أخرى، ولم يبق من 120 ألفا، غير بضعة آلاف، تركوا البلد بعد ذلك تباعا فى العقدين التاليين.
والكتاب ليس عن هذه القضية التاريخية السياسية الإنسانية، المرتبطة بقيام إسرائيل.ولكنه عن بغداد بعيون يافع يهودى.
∎ بغداد في النصف الأول من القرن العشرين
والكتاب مشوق، وغنى بالمعلومات والملاحظات والأحداث، نابض بالحياة والألوان، والذين عاصروا تلك الأيام أو شهدوا بقاياها، ستسمع آذانهم أنفاس ناسها تتردد، ومياه نهر دجلة تفيض وتنحسر، وتشم أنوفهم روائح أكلة «العجبةالهندية» فى الشوارع، ويرن فيها صوت الجواهرى وهو يلقى لأول مرة قصيدته الشهيرة فى رثاء أخيه جعفر، فى مسجد حيدرخان، حيث كان التلميذ ساسون وسط الجمهور فى قلب المسجد.
وصاحب الذكريات هو أستاذ الأدب العربى فى جامعة تل أبيب وهو اسم مرموق فى حقل تخصصه، فى دائرة أوسع من حدود بلده، بسبب إنجازاته فى مجال تخصصه ودوره فى متابعة الأدب العربى ودراساته النقدية.
وهو حاصل على الدكتوراه فى أدب نجيب محفوظ من جامعة أوكسفورد البريطانية.
وأبدى نجيب محفوظ إعجابه أكثر من مرة بدراسات الباحث القدير.
وبعد صدور كتابه فى هولندا، بالإنجليزية، بعنوان «الإيقاع المتغير. دراسة فى أدب نجيب محفوظ». قال عنه أديبنا:
«تلقيت من الأستاذ محمد يوسف نجم، صورة عن بحث قام به أحد الباحثين فى جامعة تل أبيب ويدعى ساسون سوميخ، وهو فى الحقيقة أكثر الأبحاث جدية حول الثلاثية. فوجئت بدقة الباحث وعمقه ودراسته عمل نقدى عميق وشامل ويعتبر أفضل ما كتب عنى إن لم يكن أفضلها جميعا».
∎ الطبقة المتوسطة
ونجح الأستاذ ساسون فى استحضار سيرة تلك السنوات، بعد مرور خمسين عاما، حيث بدأ فى كتابتها سنة 2000، استحضرها من أعماق ذاكرته، ومن وجوه معاصريه، ومن الصور الباقية التى سجلت تلك اللحظات البعيدة، ومن أبناء وأحفاد الراحلين فى الأقارب والأصدقاء الذين لم يرهم منذ غادر أرض العراق.
ونجح فى رسم لوحة متقنة لابن من أبناء الطبقة المتوسطة فى الجالية اليهودية العراقية، التى تعيش فى بغداد بوجه خاص، لغتهم ولباسهم ومساكنهم وطعامهم وحفلات زواجهم ومدارسهم ووظائفهم وعلاقتهم بجيرانهم.
وقد حرص صاحب الذكريات أن يكتب عما رآه وعايشه بأمانة وصدق، فهو لايزعم مثلها للحظة أنه كانت هناك وشائج بينهم وبين فقراء اليهود، الذين يقدر عددهم بأكثر من ثلث تعداد الجالية، بل إنه لم يذهب مرة واحدة إلى المناطق التى يعيشون فيها، ولم يلتق أحد منها غير الخادمة والغسالة لديهم.
والمظاهر التى تحدد مركز الطبقة المتوسطة عديدة، نراها أولا فى الحى الذى يسكنونه فى بغداد، ثم فى عمارة البيت الذى يسكنونه، إلى غير ذلك من المظاهر والمبيت الذى انتقلوا إليه، بعد انتهاء بنائه، وعاشوا فيه إلى آخر يوم فى بغداد، حيث باعوه على عجل وبرخص التراب، يبدو له اليوم من خلال الذاكرة كأنه جنة صغيرة.
فشبابيكه مزودة بإطار يحمل نبات العاقول - الريفيون منا يعرفونه جيدا - والذى يرش بالماء فى الصيف، ليرطب جو الغرفة ويعطرها، أما سطح البيت فيستخدم للنوم فى شهور الصيف الخمسة، وهو لاينسى إلى اليوم مراقبته للنجوم من خلال الناموسية. وهذا حال كل بغادلة الطبقة المتوسطة، وكلمة البغادلة هذه من كتابه فى نعت أهل بغداد، كما ينعت القاهريون عندنا بالمصاروة.
واللغة السائدة التى يتعاملون بها هى العربية اليهودية، وإن كانوا يتقنون لغات أخرى، فلم تكن العبرية أكثرها انتشارا.
وحين يذكر نهر دجلة فكأنه كان يجلس على ضفته أمس فى شارع أبونواس، والصفحات التى خصصها للنهر الذى يشق بغداد، تهز مشاعر الذين عاصروه على النحو الذى يتذكره ساسون وبالذات حين تقل المياه وتظهر الجزر، وتجف صيفا، ويذهب إليها البغادلة بالقوارب ليقضوا الليل، حيث يشوون السمك وينعمون بالهواء.
وفى دجلة تعلم السباحة وهو فى السادسة، ليقطع المسافة بين الضفتين هو ورفاقه بعد ذلك.
∎ تعليم عصرى وحين يتحدث عن طبقته المتوسطة، فإن نقطة جديرة بالتأمل توقف عندها وهو دور هذه الطبقة، فى مواجهة التحدى الحضارى القادم من أوروبا. حيث يرصد التوجهات الحضارية لهذه الطبقة، فى مظاهر الحياة المختلفة.وبالذات صراعها لاعتناق العلمانية منهجا.وتبدى ذلك أكثر ما تبدى فى التعليم.
ويعود قسط كبير إلى النجاح فى الاستجابة لهذا التحدى، إلى التعليم العصرى، والذى بدأ فى ستينيات القرن الثامن عشر، بإنشاء سلسلة من مدارس «الألبانس» فى أنحاء العراق، للطائفة اليهودية.
وهى مدارس تقوم على المناهج العصرية، وقاومتها المدارس الدينية ولكنها صمدت، وبنت أجيالا من الخريجين، وضعوا الجالية فى قلب العصر.
وآباء ساسون وأقاربه وإخوته من خريجى هذه المدارس.
أما هو فتخرج فى مدرسة عادية التعليم العصرى كان الرافعة التى وضعتهم فى قلب العصر. ويبدو أن الصراع الذى لاتزال آثاره واضحة فى السياسات الإسرائيلية، بين العلمانيين والمتدينين تعود إلى تلك الأيام.
وأن خط العلمانية كان يشق طريقه بتصاعد ويضع المؤلف يده على ملامح رسوخه، منذ تلك الأيام فى بغداد فى المدارس كما أشرنا، وفى زى الرجال والنساء، واللغات الأجنبية، وطابع الأعمال، وتحجيم مجال سيطرة الحاخامات.
ويذكر عبارة مدير مدرسة يهودى محافظ آنذاك «لقد انتشر التوجه العلمانى كالوباء بين اليهود».
ولاتغيب مصر عن وجدان أهل العراق، فى تلك الأيام وهو يتذكرها فى كتب كامل كيلانى التى لم يجد غيرها تشبع نهمه للقراءة وهو طفل. وكتب طه حسين، وبالذات كتاب «فى الشعر الجاهلى» الذى بحث عنه وأسر له أمين المكتبة العامة، إن الكتاب سحب من الأسواق بكامله، وكتب سلامة موسى التى قدمها له زميل له فى الفصل فى المدرسة الثانوية، باعتبارها «مواد خطيرة».
وكل فصل من فصول السيرة الذاتية الخمس والعشرين، يتوقف عنه جانب من جوانب حياة يهود العراق وحضورهم فى البلد، جانب لم تنجح آثاره من أعماقه إلى اليوم.
وبالنسبة له كان يدور معظمه حول اهتمامه بالثقافة والأدب والقراءة واستعداده للكتابة الأدبية، حيث نشر بالفعل قصصا وقصائد فى المجلات الأدبية آنذاك.
وعرف الطريق إلى مقهى الأدباء ولاينسى لقاءه هناك بالشاعر الكبير مهدى الجواهرى، والشاعر الشاب السياب، والذى استعار منه ديوانا لشاعرة إنجليزية كان هو الذى ألهمه برمز المطر الذى أصبح عنوان شعره، وأعاد له الديوان بعد شهور، وكان أحد أربعة كتب سمح له بالخروج منها من العراق لاتزال معه إلى اليوم.
وإذا كان معظم أقرانه منقسمين فى النشاط السياسى، ومنقسمين بين النشاط الشيوعى والحركة الصهيونية، فإنه لا ينكر أنه كان حريصا على عدم الانغماس مع أى من التيارين، وتركيزه الرئيسى على مجال الأدب والمبدعين، وكذلك كان حال أسرته. ∎ الفرهود
ومن الأحداث التى يتوقف عندها، حدث مشهور هز الطائفة اليهودية وزلزل شعورها بالاستقرار، والحدث المعروف «بالفرهود» عندما هجم الغوغاء والبدو المحيطون بالعاصمة، بعد سقوط حكومة الانقلاب المرتبطة بالنازية سنة 1491 على أحياء اليهود قتلا ونهبا واغتصابا.
ورغم أن الأمور هدأت، وعادت الطائفة إلى سابق عهدها بعد قليل، فإن كثيرين اعتبروا هذا النذير، بداية النهاية للجالية اليهودية العراقية.
كتاب ساسون سوميخ مكتوب بحساسية وتميز وتفهم، يسجل به ملامح من تاريخ طائفة عاشت فى بلد عربى، ولم يعد لها وجود فى ذلك البلد العربى، ويضعه كشهادة أمام الأجيال التالية لبنى جلدته، باعتباره «من أبناء الجيل الأخير الذى حظى بأن يعيش كيهودى عربى فى بيئة عربية» كما نقل لنا إحدى شخصيات رواية الأديب الإسرائيلى العراقى سامى ميخائيل مجايل ساسون. وقضية الطائفة اليهودية التى كانت تعيش فى البلدان العربية، أضحت من القضايا التاريخية وفى ذمة المؤرخين.
وهم يرونها من زوايا مختلفة.
ورغم إن كتاب ساسون لم يتعرض للتطورات السياسية، إلا بشكل عابر، وركز على العلاقات الإنسانية وهو بطبيعته عازف عن الانغماس فى السياسة ويحرص على أنه «يمشى جنب الحيط» إلا أنه من طرف خفى ينحى باللائمة على الجانب العربى، الذى خططت أنظمته وأجنحته اليمنية إلى الخلاص من اليهود.
ولكن ربما سيكون للتاريخ حكم آخر.
والذى يجعلنى أقول هذا أنه فى فصل مثير، موضوعه صورة فصله الذى تجمع طلابه فى السنة الأخيرة فى المرحلة الثانوية، وقد استعرض مصائر أفراده وكلهم من اليهود الذين سافروا إلى إسرائيل.
ونلاحظ أنهم جميعا كانوا يصعدون هناك سلم النجاح والتحقق إلى اليوم. وربما يتساءل القارئ هل كان ممكناً لهم هذا النجاح إذا بقوا فى العراق، تحت ظل صدام حسين مثلا، حيث يقص المؤلف نفسه فى صفحة أخرى قصة أسرة يهودية من سبعة أفراد، دخلت عليهم الشرطة وذبحت الأم والأب والأولاد الثلاثة ونجا الإخوان الباقيان لأنهما كانا فى الخارج وعادا ليجدا الدماء تملأ البيت. ∎ صورة الفصل إن الروح التى يصدر عنها سوميخ فى تقييمه لأيام فى بغداد، هى روح إيجابية، ليس فيها أى ندم أو مرارة.
ولهذا فمن الطبيعى أن يلتقى مع أصدقاء له، من القلة الباقية من يهود بغداد، ويحاولون تكوين جمعية للتضامن مع الشعب العراقى، فى أوائل تسعينيات القرن الماضى، لتذكير الآخرين بقوة العلاقات التى جمعت بين العرب واليهود هناك عبر مئات السنين.
ولكن المسئولين عن الجمعيات الأهلية لم يوافقوا.
والروح الطيبة التى تطبع ذكريات الأكاديمى المحترم، لا تمنعنى من ملاحظة أنه لم يشر ولو عرضا لجذور الأحداث التى قادت إلى التهجير، وهى تمهيد الصهيونية الأرض بإصرار لطرد الفلسطينيين وإقامة دولة إسرائيل على حساب أهلها.
وربما يكون طبيعيا ألا يشغله هذا.
فبعد خمسين عاما من استعادته لأيام شبابه، وللحظة التى قرر فيها أن يترك العراق، بعد حصوله على الثانوية العامة، والارتجال إلى إسرائيل، لأنه لا مستقبل له فى العراق، فهو لا يستطيع دخول الجامعة، ويشعر أنه لايستطيع التحقق فى مجتمع لايعرف الديمقراطية، كما شرح آنذاك لصديقه الشاعر أكرم وترى.
وإذا سأل نفسه بعد خمسين عاما، أين هو وهم وأين نحن؟
وأين يقف الآن مشروع إسرائيل وفى مقابلة مشروع العرب.
وهل نملك الشجاعة والأصالة لنراجع بمثابرة واستفامة كيف كان يجب أن تتصدى للمشروع المقابل، ونستعيد ما أعلنه يوما بعض مفكرينا المخلصين، «مطلوب دولة عصرية».