أيام قليلة تفصلنا عن يوم انتخابات الإعادة بين الاثنين اللذين حصلا على أعلى الأصوات من بين المرشحين الثلاثة عشر لمنصب رئيس الجمهورية، ومنذ إعلان نتيجة الجولة الأولى عقب انتهاء التصويت وقبل الإعلان الرسمى فإن الحوار والخلاف لم يتوقف بيننا كمواطنين يعنيهم مستقبل الوطن وإنقاذه من حالة الاختلال والتمزق التى يمر بها ووضع الأقدام على طريق يفضى إلى التقدم والبناء والتنمية. وهو حوار يختلط فيه التفسير بالتبرير والتحليل والتحريض ومحاولة الفهم بالتدليس وادعاء العلم، والأحكام القاطعة، وقلب الحقائق بالسعى الصادق لفهم أسباب المفاجآت التى أحاطت بالنتيجة. ولا مبرر ولا وقت لاستعادة عناوين هذه الحوارات. ولابد أن أصداءها مازالت ترن فى الآذان. وإذ أرجو أن تسمح لى أن أدلى بدلوى فى هذه الحوارات فإنى لا أبرئ نفسى من أحد الأوصاف التى سردتها قبل قليل. وأول ما أهمس به فى أذنك وأنت فى طريقك للوقوف فى طابور التصويت ألا تنشغل أبدا بالضوضاء التى مازالت تدوى فى كل لحظة، وأن تستحضر الحديث الشريف: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك». اجعل قلبك دليلك وسط الغبار الكثيف. مثلا هناك دعوة صاخبة يتبناها كثيرون، تنادى بمقاطعة الانتخابات أو إبطال الصوت، وهذه دعوى تخص أصحابها وحدهم. إنها تحمل معنى الغرور المختلط بالجهل وانعدام الحس بالمسئولية فمادام المرشح الذى يتحمسون له لم ينجح أو يخوض الإعادة، فلينهدم المعبد على أهله. إن احترام نتائج التصويت هو ألف باء الديمقراطية. من البديهى أننا ما دمنا قد احتكمنا إلى الصندوق فلنقبل بحكمه. يمكن أن تقول كلاما صائبا وصحيحا حول عوار كثير، يجعل الطريق إلى الصندوق ليس معبرا عن الحقيقة. ولكن ليس أمامنا غير التعلم والتصحيح ومعرفة الثغرات والتقدم على هذا الطريق. ولابد أنك سمعت من دعاة المقاطعة أنه من الخطأ الاختيار بين فاشيتين. وهذا كلام مرسل واعتباطى، حتى وإن صدر من كُتَّاب لهم احترامهم. فحتى فى مثل هذا الوضع هناك فرق بين الأشد ضررا والأخف ضررا. فلا يمكن المساواة بين من يخطط لبناء حكم شمولى قائم على مرجعية الدين، وإلى عهد قريب كان يعلن أن الديمقراطية كفر، وبين من يمكن أن يجعل الفترة القادمة فترة انتقالية، تفتح الطريق للتوافق على بناء مجتمع جديد. لا يمكن المساواة بين منهج يدخل بنا إلى مجهول، نبدأ فيه من نقطة الصفر، ونهدم كل ما تراكم لبناء دولة حديثة، وبين منهج يبدأ من نقطة مواصلة تطوير دولة مدنية عصرية. كنت أستمع منذ أيام إلى أحد البرامج فى إحدى القنوات الفضائية، يستضيف أبو الحسن بنى صدر أول رئيس جمهورية لإيران، يتكلم عن تجربته مع الملالى، وتعجبت للبراعة والإصرار من جانب الملالى فى خداع شركائهم من التيار المدنى ثم إقصائهم بل وإعدامهم. مثل ثان على الصيحات المغرضة التى ملأت الفضاء حولنا، تؤكد أن الأساس الذى يجب أن يختار المواطن على ضوئه هو بين نهج الثورة والثورة المضادة. وليس هناك تضليل صارخ أشد من هذا. إن الاختيار هو بين نهج يخطط لتأسيس دولة دينية، كما فعل الملالى وبين نهج يدافع عن مكتسبات الدولة المدنية وتطويرها ومقرطتها مقرطة حقيقية تهتدى بروح العصر. ليست هناك ثورة فى الحقيقة، هناك ثورة مضادة. وبمعنى أدق أن الفصل الأول من الثورة، الذى انتهى باقتلاع مبارك وإفشال مخطط التوريث انتهى بنجاح. ثم توقفت عربة الثورة، ونجح تيار واحد لأسباب عديدة فى اختطافها واستغلال الديمقراطية لجنى ثمرتها. والانتخابات الحالية فرصة لإنقاذها. إن الثورة فى جوهرها تطلع للمستقبل وإعلاء لحقوق الفرد، واحتفال بالعلم، ومساواة بين المواطنين. وإعجاب بمسيرة الغرب، وهذا كله بالضبط ما يعاديه الإخوان المسلمون. وإذا كنت هنا تتذكر الصرخة التى تهتف أن أحمد شفيق يمثل الفلول وهدفه إعادة نظام مبارك. هذه دعاية انتخابية تحتاج إلى مراجعة. ليس لأنه ليس هناك من يسعى لإعادة النظام المبارك. ولكن لأن من أهم نتائج الفصل الأول من أحداث يناير الذى تم بنجاح أن استعادة طابع الحكم الذى ساد طوال ثلاثين عاما أمر صعب، كما أن إقصاء التيار الإسلامى من الساحة السياسية أمر ليس فى صالح التطور الديمقراطى. استمع لوجهات النظر المختلفة واستفت قلبك وثق بأن وقوفك مع منهج يدعم الدولة المدنية هو فى صالح تطور البلاد وأمنها ومستقبلها يعيد الثقة فى أهلها ونخبتها وقدرتها على التواجد فى العصر والتلاحم مع القوى الحية فى المنطقة كلها. وتفتح أفقا جديدا إذا ما تابعناه بإخلاص وتجرد، فإننا على الأقل سننجو من مهالك تنتظر على طول الطريق.