لن أكتب عن حازم أبوإسماعيل وأقواله وتصريحاته وأوراقه ومؤيديه ومظاهراتهم وهتافاتهم واعتصاماتهم ولا حتى أحلامهم التى يحلمون بها فى اليقظة والمنام. أريد فقط أن أسأل سؤالاً واحداً «هل يعلم حازم ماذا فعل بأمه رحمها الله»؟ وهو الذى جعل سيرتها على كل لسان وصورتها على كل صحيفة وشاشة بعد انتقالها من دنيا الأطماع إلى عالم الرحابة والسلام والرحمة؟
خطر لى هذا السؤال حين هاجمتنى ذاكرتى بالتدريج بمشهد مر عليه أكثر من ثلاثين عاما حين جمعتنى الصدفة وحدها بهذه الأم الكريمة الجميلة.
كنت وقتها صحفية تحت التمرين وكان الموضوع عن انتخابات مجلس الشعب بعد إنشاء ما يسمى بالمنابر الثلاثة «يمين- وسط- يسار»، وكان الشيخ صلاح أبو إسماعيل مرشحا عن دائرة الدقى ممثلاً لليمين.. أخذت موعدا معه عن طريق التليفون وذهبت إلى بيته فى أحد شوارع الدقى.. كان البيت متسعا ومفروشا بشكل يدل على استعداده لاستقبال أكبر عدد من الضيوف.
كانت السيدة نوال تجلس فى الصالة المؤدية إلى غرفة استقبال يجلس فيها الشيخ صلاح.. قلت لها إن لدى موعدا فأشارت لى ببساطة إلى غرفة الاستقبال التى خرج منها صوت زوجها زاعقا «لن أقابل أحدا الآن.. أنا منتظر ضيوف مهمين!!» وخرجت مستغربة خجلانة وفى عيني ظلال دموع لم تسقط.. فأخذتنى فى حضنها ولم تتركنى حتى أفقت من الصدمة.. والغريب أنها لم تتركنى حتى الآن!!
عندما بدأ الحديث عن ترشح حازم أبو إسماعيل للرئاسة تذكرت جزءا من المشهد البعيد.. حيث كان شابا صغيرا يتنقل بين الصالة التى أجلس فيها مع أمه وبين غرفة أبيه ملبيا لنداء أبيه المتكرر يا حازم.. يا حازم.. تذكرت البيت والضيوف والأوراق التى كان يحملها الشاب.. كأطياف مرت منذ سنوات وضحكت وضاع المشهد مع تدفق الأحداث.
وعندما بدأت مأساة جنسية أم الشيخ وتشعبت تركزت الذاكرة فى بؤرة تحمل صورة السيدة نوال بكل ملامحها «سمراء ممتلئة قليلا« ترتدى جلبابا بسيطا يظهر منه سلسلة عليها مصحف وغطاء رأس مثل الذى كانت ترتديه أمهاتنا حين يستقبلن الضيوف»، طريقة حديثها بسيطة وعفوية وودودة ونبرته هادئة مطمئنة.. تمسك بيدى تعتذر لى وتستغرب تصرف زوجها وتصر على تحديد موعد آخر وعلىَّ أن أشرب العصير حتى أهدأ قبل أن أخرج إلى الشارع تسألنى عن اسمى وعن عملى وعن الموضوع الذى سأكتبه وتحكى لى بهدوء عن زحام بيتها منذ إعلان الانتخابات.. وتقضى معى خمس أو عشر دقائق وتنتهى الزيارة دون أن نعلم هى وأنا أن هناك انتخابات أخرى ستجرى وستكون هى بطلتها وضحيتها على يد ابنها.
وكلما زاد الحديث عن أم حازم يطاردنى المشهد حتى أننى حلمت به كاملا مكتملا وكأنى أرى فيلما سينمائيا ملونا بلون جلبابها وبشرتها وبيتها.
«قلبى على ابنى انفطر وقلب ابنى علىَّ حجر» مثل شعبى يختزل حكمة الشعوب وتراثها فى كلمات قليلة معبرة تصلح لكل زمان، مثلا يلقى هوى فى قلوب الأمهات ويرددنه كثيرًا إذا ما قام الابن بأى تصرف يغضبهن مهما كان تافها.. والعلاقة بين الأم والابن علاقة خاصة معقدة لم يستطع أن يصل علماء النفس أو الاجتماع إلى تفسيرها، فالأم تحب ابنها وتعشقه أكثر من ابنتها، فهى ترى فيه الرجل الذى تحلم أن تقدمه إلى الدنيا بلا أخطاء صادفتها أو تصورتها فى أبيها وزوجها.. هو الخلاصة لأيام وليال وأحلام تحلم بتحقيقها وفشل الابن يعنى بالنسبة للأم فشلها وضياع حلمها.
لا يهمنى إن كان حازم أبو إسماعيل يكذب أم أن الجهات الرسمية المصرية والأمريكية هى التى تكذب.
لا يهمنى حتى أن الرجل سيطرت عليه شهوة السلطة لدرجة أنه يطالب أنصاره بالجهاد فى سبيل أن يصل إليها.
كل ما يهمنى أن السلطة جعلت من قلب الابن حجرا لا يشعر بما فعله بسيرة أمه التى أصبحت على كل لسان.
«أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» البقرة: 44. ومن أولى الناس بالبر أكثر من الأم يا شيخ حازم.
كلما شاهدت صورة السيدة نوال على صدر صحيفة أو شاشة أقرأ لها الفاتحة لأنى قضيت معها عشر دقائق.. وأطلب من الابن أن يتوب إلى ربه ويطلب لها الرحمة.. ويصمت لأن قلب الأم قد انفطر بما فيه الكفاية.