قابلته فى مكان علوى بعيد.. فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. مازال كما كان دوما مهيبا.. جليلا.. شامخا.
استقبلنى بعناق حار.. ووقف بقامته المديدة يقدم لى أصدقاءه من الثائرين والمناضلين والصديقين والشهداء.
قال بصوته العذب ونبراته الساحرة: «أهلا بك فى صفوف الخالدين» رويت له ما حدث لى فى ميدان التحرير فى موقعة الجمل حتى التقيت به فى هذا العالم الخالد. أضاف مؤكدا: «لن تنكسر إرادتنا مهما تحالفت القوى الرجعية للقضاء على الثورة.. ستنتصر الثورة فى النهاية».
قلت له متسائلا: «ولكنهم كما ترى يستعدون لإجهاض الثورة والانقلاب عليها واحتوائها وإعادة إنتاج النظام السابق مع فرض الهيمنة على الشعب أو استدراج البلاد إلى حالة من الفوضى وتحويل الثورة إلى انقلاب عسكرى» ابتسم بعذوبة آسرة والتمعت عيناه ببريق إصرار ساحر وهو يقول: «كانوا يقدمون لهم الكثير من قبل لهزيمة المد الثورى لأنهم كانوا يخشون من ثورتنا. وباسم الدين قهروا الشعوب وسحقوا الإرادات وقمعوا الفكر وروعوا الآمنين وكرسوا بالتحالف مع الإمبريالية العالمية إمبراطوريات الظلم الاحتكارية والرأسمالية المتوحشة والدين منهم برىء».
لم أملك إلا أن أهمس متسائلا: «ولكنهم يجدون للأسف من يصدقهم ويستطيعون خداعه بالجهل والتضليل. فهل الإسلام يعنى تكديس الثروات فى أيدى حفنة من أصحاب المصالح بينما جموع المسلمين يرزحون تحت وطأة الفقر والمرض والجهل والخرافة. هل الإسلام هو القضاء على وعى الأمة وحقها فى الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص؟ هل الإسلام أن تصنع عروش مجدك بالأكاذيب والخديعة والإقصاء على أشلاء كل قيم الحوار البناء والمشاركة ومصالح الشعوب والأوطان؟» أضاف مؤكدا وابتسامة الثقة والطمأنينة لا تفارق وجهه النبيل: «لقد بدأ الشعب يدرك خفايا اللعبة وأهدافها، وضرورة مواجهتها فى صف واحد كالبنيان المرصوص» وأكمل وهو يتأهب للانصراف للقاء صديق كان ينتظره: «لن ينجح من يتصور أن بإمكانه تمزيق الوطن وإرهاب شعبه بأن يفرض حكما استبداديا ليتحكم فى مصائر الأمة ليسود الطغيان والبطش والاحتكار. لن يستطيعوا الاستمرار فى خداع الشعب وهم يجردون الدين من مضمونه الاجتماعى ليجعلوه تابوتا من التوابيت الصماء التى تضم أشلاء الحرية والعدالة لإرساء قوانين القهر على رقاب الشعب». حييته مودعا وأنا أؤكد أن الشعب قد تبين الرشد من الغى ولن يفرط فى حريته أبدا وقد أدرك أنه ما من تجارة أكثر عائدا على محترفيها من تجارة الدين. وليس من المصادفة أن يكون تجار الدين جميعا من أصحاب الملايين. أما العلماء بحق فلا يملكون سوى الكلمة المضيئة والشرف الرفيع ونقاء الضمير وحسن السمعة وهذا كله أثمن من كل ملايين المرتزقة. الشعب يدرك الآن بعد سقوط الأقنعة كل شىء فلا أحد يحتكر الصواب أو يملك وحده الحكمة وفصل الخطاب. ولهذا أجرى الله سبحانه وتعالى سنة الحياة على التنسيق والشورى بين معطيات تقتضى التعدد والاختلاف لتكون حرية التعبير هى السبيل إلى الرأى الصائب. مخطئ من يتصور أن بإمكانه الاستمرار فى إذلال وخديعة الشعب وسرقة أحلامه لأن هذا الشعب سيستمر فى نضاله بضمير حى دائما يرتوى بدماء شهدائه الخالدين. لقد تنفس الشعب أخيرا وسيحمى طهارة الحياة التى عرفها بعد طول اختناق. إنها معركة بين الحق والباطل. وقد نشر الحق آية نوره منذ يناير 1102، وسيظل ينشرها إلى آخر الزمان.
استيقظت لاهثا وأنا أستعيد بكل جوارحى رسالة الشهيد.